تدبير الدولة الفرنسية لقضايا مسلمي فرنسا تحت المطرقة النقدية للباحث حواس سنقير
بقلم: منتصر حمادة
هذا عرض في أحدث أعمال الباحث الفرنسي من أصل مغربي حواس سنيقر، وهو أستاذ باحث في معهد الدراسات السياسية في ليون، وأحد أهم المتخصصين حالياً هناك في الظاهرة الإسلامية الحركية، وخاصة في الساحة الفرنسية، وكان موضوع كتابه السابق يدور حول ظاهرة “الإخوان المسلمون الجدد”، وخصّ بالذكر المشروع الإخواني في نسخته الفرنسية.
الحديث هنا عن كتابه حديث الإصدار الذي يحمل عنوان “الجمهورية السلطوية: إسلام فرنسا وأوهام جمهورية”، وجاءت مضامينه موزعة على مقدمة عامة، ومجموعة من الفصول غير مرقمة، كانت العناوين كالتالي: محفز الإرهاب الإسلاموي، أزمة سردية الجمهورية، الخليط غير السوي بين أدبيات ما بعد الاستعمار والفعل الإرهابي ودولة الاستثناء، العودة إلى روح مدرسة فرانكفورت، العقل وتفادي التأليه والشيطنة، ادعاء الدفاع عن العقل والنزعة الإنسانية، أمراض الجمهورية المتعددة الأسباب، منعطف الأداء الأمني بعد 2015، التأثير المضاد لشيطنة التشدد الإسلامي، مأزق سحب الجنسية على النزعة الإنسانية للجمهورية، رؤية أمنية وتربوية للإسلام والمسلمين، الربيع الجمهوري، إيمانويل ماكرون: من الليبرالية الثقافية إلى شرطة الأفكار، تمثيليات المسلمين أمام الدولة في حالة تقزيم، الإسلاموية، التشدد والظاهرة الجهادية: هل هم إخوة أشقاء؟ شرطة الفكر وقراءة أخلاقية جديدة للائكية، وهم الوصم الديني: اليهود والمسلمون: رؤى متقاطعة، ارتباك وتقاطعات أخلاقية في الإسلام والمسلمين، المراقبة والعقاب: أصوات مسلمة مزعجة كثيراً، مرصد مضاد للكولونيالية: فوق الشبهات؟، وأخيراً، خاتمة. (صدر الكتاب عن دار النشر “حافة الماء”، الطبعة الأولى، 2022، وجاء في 288 صفحة)
كان المؤلف واضحاً منذ أولى فقرات المقدمة، عندما أكد أن عمله هذا كتاب ضد الدولة ولا حتى ضد الجمهورية، وإنما عمل ينهل من أحد أعمال عالم الاجتماع الفرنسي الراحل كلود لوفور [1924-2010]، الذي يفرق بين الدولة والسلطة السياسية في سياق دمقرطة حرية التعبير.
وبالتالي الكتاب لم يصدر عن مناضل؛ لأن المؤلف ليس كذلك أصلاً، يقصد أنه لم يكن يوماً عضواً في حزب سياسي، حكومية أو معارض، ولا حتى عضواً في منظمة من منظمات العمل الأهلي، باستثناء مشاركة قديمة له في أحد أنشطة الحزب الاشتراكي، نظمت في سنة 2000 بمدينة طونون ليبان (جنوب شرق فرنسا)، بناءً على دعوة أصدقاء يشتغلون في الدراسات ما بعد الاستعمارية، مؤكداً أنه كان حريصاً منذ أولى سنوات اشتغاله على قضايا الإسلام والإسلاموية في فرنسا، ابتداءً من سنة 2006، على أن يكون مستقلاً في آرائه بعيداً عن الاصطفاف الإيديولوجي والحزبي والسياسي، معتبراً أن أغلب أبحاثه التي تدور بالتحديد في فلك الإسلام والسياسة والإسلاموية، سواء تعلق الأمر بالإسلاموية المغربية أو قضايا الإسلام في فرنسا.
كما اعتبر المؤلف في المدخل العام لكتابه أن النزعة النقدية التي تضمنها عمله لا تفيد قط بأن فرنسا دولة سلطوية أو يحكمها نظام شمولي، بقدر ما ترتبط باختبار تعامل المنظومة الديمقراطية الفرنسية مع ثلاث مميزات ظلت دوماً لصيقة بمؤشر الدمقرطة في أي مجتمع، وهي حرية التعبير، حرية تأسيس جمعيات، والولوج إلى المواطنة، والحال، يضيف حواس سنيقر، أنه في اختبار هذه المؤشرات على المجال الذي يشتغل عليه، يفيد أن الديمقراطية الفرنسية تعيش حالة تعب وقلاقل، أقلها ما نعاينه مع الاضطرابات المجتمعية، التطبيع مع الخطاب العنصري، احتقار نسبة من النخب السياسية لنسبة من المجتمع الفرنسي، ارتفاع مؤشرات معاداة السامية، ومعاداة المسلمين، التبعات الصحية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية غير السوية التي خلفها تدبير جائحة كوفيد 19، ضمن مؤشرات أخرى، كانت ضمن المحددات التي تقف وراء صدور الكتاب.
خلص المؤلف إلى أن الإسلام في فرنسا، يعتبر مفتاحاً نوعياً لقراءة وفهم حدود وتناقضات الخطاب السياسي الجمهوري في فرنسا، بما في ذلك حدود وتناقضات الخطاب الفرنسي الذي يزعم الدفاع عن النزعة الإنسانية والعلمانية والأنوار، دون أن ينتبه هؤلاء إلى تناقضات خطابهم في معرض قراءة مواقفهم ذات الصلة بقضايا الإسلام والمسلمين في فرنسا.
وتتضح هذه التناقضات في عدة محطات، من قبيل التدخل في تدبير الشؤون الإسلامية للجالية المسلمة عل حساب حرية المعتقد التي يزعم هؤلاء الدفاع عنها، عدم الالتزام بوعود سياسية واقتصادية واجتماعية، اتخاذ تدابير وإجراءات متناقضة تهم تدبير قضايا الجالية المسلمة، أو تماهي نسبة من الخطاب اليساري الفرنسي مع الخطاب اليميني المعادي للمسلمين.
ليس هذا وحسب، فمنذ 2015، تاريخ اعتداءات شارلي إيبدو، تأزمت الأوضاع أكثر عوض أن نعين الانفراج، خاصة وأنه منذ تلك الحقبة وما تلاها، سوف نعاين عدة اعتداءات إرهابية ارتكبت زوراً باسم الإسلام، لكن تبعات ما صدر عن هذه الزمرة من “الجهاديين”، تجاوزت المحيط الإسلاموي؛ لأنها أفضت إلى صدور مواقف وقرارات غير سوية أساءت إلى مسلمي فرنسا.
صحيح أن الدولة الفرنسية اتخذت قرارات جريئة ومهمة من أجل مواجهة الإسلاموية الجهادية من جهة، وتبني مقاربة استباقية تحول دون تكرار تلك الاعتداءات، وهذا ما جاء في ولاية فرانسوا هولاند بداية وولاية إيمانويل ماكرون حالياً (2017-2022) لكن واقع الحال يُفيد أن هذه الإجراءات المؤسساتية والهيكلية، كانت غارقة في الهواجس الأمنية والبوليسية، مع تبني عقلية أبوية أو احتكارية لا تسمح بمتدخلين آخرين للمساهمة في تدبير الأزمة ومواجهة التحديات بشكل أفضل، بل قد يكون ماكرون الرئيس الفرنسي الذي ذهب إلى أبعد الحدود بخصوص تبني المقاربة الأمنية في الموضوع، بما في ذلك المقاربة الأمنية في تدبير قضايا الإسلام في فرنسا، بشكل يفوق على ما قام به سابقاً الرئيس نيكولا ساركوزي. (2007-2012) وفرانسوا هولاند معاً.
وزاد المشهد تعقيداً أنه حتى المؤسسات أو التمثيليات المسلمة أمام السلطات الإدارية، لم تكن في المستوى المطلوب منها، وفي مقدمتها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي تعرض بدوره للاحتجاج أو النقد أو العرقلة، من طرف الجميع، سواء من المسؤولين في الإدارة أو من الجالية أو من يمثلها، بسبب الخلافات الإيديولوجية أو ثقل المصالح الذاتية.
وقد اتضحت أعطاب هذه المقاربة الأمنية في عهد ماكرون مع العديد من الوقائع، من قبيل مطالبة مسلمي فرنسا بأن يكشفوا عن مواقفهم الإسلامية كلما تعلق الأمر بوقوع اعتداءات إرهابية، أو كثرة الخروقات الحقوقية والإدارية باسم تحقيق العدالة، وأيضا مع اللغط الذي أثاره ماكرون بخصوص موضوع الانفصالية، إلى درجة المصادقة على قانون حول الموضوع في 24 أغسطس 2021، مقوضاً بعض مبادئ وقيم الجمهورية، ومكرساً وصاية أخلاقية على نسبة من مسمي فرنسا.
صحيح أن هناك نزعات أخلاقية أو إسلامية متشددة ظهرت في الساحة، ولكن دور الدولة الفرنسية ليس ممارسة الوصاية الأخلاقية على الممارسات الدينية، وإنما الحفاظ على النظام العام، وترك مجال الاعتقاد جانباً.
على سبيل المثال، عندما يدعو رئيس الدولة رسمياً إلى ضرورة تأسيس “إسلام الأنوار”، فهذا اعتراف منه بشكل أو بآخر بأن المسلمين لم يصلوا بعد إلى النضج الذي يؤهلهم لكي يمارسوا العقل النقدي المستقل.
أما حالة إريك زمور، المرشح اليميني لرئاسيات 2022، فإنها شكلت حسب المؤلف مؤشراً على مرض الديمقراطية الفرنسية، وهو المرض الذي يأخذ أشكالاً سلطوية في الخطاب والممارسة، تطرق إليها ملياً حواس سنيقر في كتابه هذا. فبالرغم من تلاعبه بمعطيات تاريخية، وتسامحه مع نظام فيشي العنصري (إبان الاستعمار الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية)، وكثرة الأحكام القضائية الصدرة ضده بسبب الإدلاء بمواقف عنصرية، ترشح للرئاسة، بينما كان الأمر مغايراً لو تعلق الأمر بمرشح مسلم.
ليس هذا وحسب، بل وصل الأمر إلى أن الرئيس الفرنسي نفسه، وهو رئيس الجميع، زايد على زمور في خطابه اليميني كما جاء في حواره الشهير [2019] مع مجلة “قيم معاصرة”، وهي مجلة يمينية متشددة، حيث أدلى بمواقف تتقاطع مع خطاب القيادية اليمينية مارين لوبين بخصوص تدبير قضايا الهجرة.
من خلاصات الكتاب أيضاً، أن الجمهورية الفرنسية متذبذبة جداً في تدبير قضايا الإسلام والمسلمين، لكن التطورات التي نعاينها خلال السنوات الأخيرة، كانت أسوأً مقارنة مع الأداء الذي ميَّز العقود الماضية.
فمن جهة، هناك رفع شعارات قيمية وقانونية، ومن جهة ثانية، هناك سوء تأويل أو سوء توظيف للشعارات نفسها في التعامل مع مسلمي فرنسا، وزادت المعضلة الجهادية المشهد تأزماً وتقعيداً؛ لأنها ساهمت في تغذية هذا التذبذب الأقرب إلى التناقض.
وبالنتيجة، لم يعد الأمر يتعلق بتشدد في القوانين وحسب، ولكن نعاين تشدداً موازياً في الخطاب السياسي للعديد من الفاعلين في المشهد الحزبي والسياسي بشكل عام، موازاة مع الفاعلين في الحقول الفكرية والإعلامية والإبداعية، بينما الأصل كان يُفيد أن يكون هذا التشدد يهم أتباع الجهادية حصراً وليس نسبة كبيرة من مسلمي فرنسا، ممن لا علاقة لهم أساساً بأي إسلاموية.
ومن النتائج أيضاً، أن مؤشر الثقة بين الدولة الفرنسية والجالية المسلمة في تراجع بسبب هذه التطورات والتحولات السلبية إلى درجة حديث المؤلف عن حالة شك قائمة بين الطرفين، وهي الحالة التي تغذيها العديد من المتابعات الإعلامية في الساحة، في قطيعة صريحة مع أدبيات وأخلاقيات مهنة الصحافة.