لقد ولّى الزمن الذي كانت فيه الإصدارات على الإسلاموية في الساحة الفرنسية تعد على رؤوس الأصابع، كما هو الحال مع حقبة ثمانينيات القرن الماضي، وانتقلنا في عقد وتقريباً، من تلك الوتيرة نحو ما يُشبه الفورة في الإصدارات المخصصة للموضوع، وقد عاينا أولى معالم الفورة مباشرة بعد منعطف اعتداءات شارلي إيبدو في 7 يناير 2015، وما تلاها من أحداث ووقائع أفضت إلى تحقيق تراكم كمي ونوعي في هذه الإصدارات، وإن كانت الغلبة للتراكم الكمي. أما الأعمال النوعية، فصعب الحديث عن فورة لاعتبارات نأمل أن نتطرق إليها في مقالة لاحقة بحول الله.
كتاب “الجهاد في فرنسا: 2012-2022″، هو أحدث هذه الدراسات؛ لأنه صادر منذ أيام، مع عنوان فرعي دال جاء فيه: الشبكات، الاعتداءات، الاستجابات، الشهادات”. (جاء الكتاب موزعاً على 352 صفحة)
مؤلف الكتاب هو الباحث ألكسندر رود، ضابط صف احتياطي في الدرك الفرنسي، مستشار وخبير في قضايا الأمن الداخلي، وباحث متخصص في قضايا التطرف العنيف وعمليات التقتيل الجماعي. كان يشتغل في الكواليس الأمنية، وتحديداً كواليس المتابعة الأمنية للظاهرة الإسلاموية الجهادية في فرنسا تحديداً، لكنه ظهر للأضواء البحثية والإعلامية مباشرة بعد صدور هذا الكتاب، ليُصبح من السنة الجارية فصاعداً، اسما جديداً في لائحة الباحثين المشتغلين على الظاهرة.
ميزة الكتاب أنه عمل توثيقي بالدرجة الأولى، حيث أحصى جميع الأحداث والوقائع المرتبطة بالإسلاموية الجهادية في الساحة الفرنسية، من الحقبة المعاصرة كما اصطلح عليها، وتحديداً من حقبة التسعينيات، حتى ديسمبر 2021، ليكون العمل جاهزاً للطبع والنشر كما تمّ فعلاً في غضون شهر أكتوبر الماضي.
وقد تفرعت محاوره على أربعة فصول، مرفقة بخاتمة تضمنت الخلاصات والتوصيات، وتهم حقبة ما بعد 2022 كما نقرأ في عنوانها.
توقفت مقدمة الكتاب عند معالم التهديد الجهادي في فرنسا، والذي كما هو معلوم، كان محور عدة متابعات بحثية من عدة مجالات علمية: علم اجتماع، علم سياسة، علاقات دولة، علم نفس. إلخ، إلا أنه قلة من هذه الإصدارات تناولت الظاهرة من منظور العلوم الأمنية، وأنه إذا كانت الحالة الجهادية نظرية سياسية أو تنظيماً إيديولوجياً أو خلاصة ظروف نفسية واجتماعية، فإنه بالنسبة إلى المواطن الفرنسي يعتبر تهديداً، وانطلاقاً من هذا المعطى بالتحديد يأتي هذا الكتاب. (ص 14)
تطرق العمل بداية لأولى محطات الاعتداءات التي عرفتها فرنسا، في تسعينيات القرن الماضي، مباشرة بعد انسحاب الجيش السوفياتي حينها من أفغانستان، في 1989، لولا أن هذا الانسحاب كان سبباً وراء عودة العديد من الجهاديين إلى أوطانهم والشروع في تنفيذ عمليات أو اعتداءات، كما جرى في مصر والسعودية وبعض الدول المغاربية.
وبالنسبة إلى فرنسا، فقد كانت أسباب الظاهرة بعيدة عن تبعات الحالة الجهادية في أفغانستان، وإنما مرتبطة بالدرجة الأولى بأحداث الجزائر، مع الصراع بين العسكر والإسلاميين، والذي أفضى إلى سقوط حوالي 150 ألفاً من الضحايا. ومن نتائج ذلك، أن عمليات “الجماعة الإسلامية المسلحة” سوف تنتقل إلى خارج الديار الجزائرية، ومنه إلى فرنسا. (ص 17)، ومن ذلك حادث اختطاف الطائرة الفرنسية الذي جرى في 24 ديسمبر 1944، بين الجزائر ومارسيليا (جنوب فرنسا).
جاءت الموجة الثانية من الحالة الجهادية في أوروبا مباشرة بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001، حيث تعرضت العديد من الدول الأوروبية لاعتداءات إرهابية، من قبيل اعتداءات مدريد واعتداءات لندن وفرانكفورت أو اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان كوخ واعتداءات أخرى، مع وجود عدة فوارق هذه المرة، منها:
ــ بعض هذه الاعتداءات أو نسبة من المشاركين فيها، هم أبناء المجال الأوروبي، ولم يأتوا من المشرق أو المغرب، وهذا ما تأكد سنوات لاحقاً مع العديد من الأحداث، كما هو الحال مع أحداث 2015 وما تلاها.
ــ من الفوارق أيضاً أن الأسباب الخارجية ليست الدافع الوحيد وراء هذه الاعتداءات، وإنما هناك دوافع محلية، من قبيل صعود الخطاب اليميني المتشدد ضد المسلمين، أو صعود مؤشرات “التخويف من الإسلام” [مصطلح “الإسلاموفوبيا” جاءت مرتان فقط في الكتاب، ص 283 وص 293] أو استصدار قوانين اعتبرت مسيئة للجاليات المسلمة. (ص 29)
توقف الكتاب ملياً عند حالة الشاب الفرنسي محمد مراح، بل خصص له محوراً في أولى فصول الكتاب [من الصفحة 34 إلى الصفحة 63]، مع التدقيق في مجمل مساره الاجتماعي وتنقلاته خارج فرنسا، وخاصة رحلاته إلى سوريا وأفغانستان وباكستان، وتفاصيل قضايا التطرف العنيف التي تورط فيها، ومن خلاصات هذه القضية أنها كانت نقطة إحياء الاعتداءات الإرهابية في فرنسا بعد حوالي 16 سنة من الهدوء والاستثناء وعدم التعرض لأي اعتداء، والنتيجة أن فرنسا عرفت ثلاثة اعتداءات في ظرف ثمانية أيام فقط. وهكذا أصبحت فرنسا أولى بلد غربي يتعرض للاعتداءات في الموجة الثانية من الظاهرة الجهادية الخاصة بالساحة الغربية، الأوروبية تحديداً.
من خلاصات القضية أيضاً، أن محمد مراح استغل مروره من تجربة الانحراف، ووظف أسلوب التقية في خدمة مشروع، ولو أن الكتاب توقف عند إشارة مهمة، مفادها أن مراح كان ضحية الشحن الإيديولوجي العائلي، وخاصة التأثير التي تعرض له من شقيقه عبد القادر مراح؛ لأنه كان بعيداً عن أي انتماء إسلاموي في مرحلة سابقة. وهناك ميزة أخرى تهم القضية، وهي أن المعني تصرف بشكل انفرادي، بخلاف باقي الحالات في فرنسا وأوروبا التي كان أغلبها يهم خلايا جهادية، كما هو الحال مع الموجهة من الظاهرة الجهادية.
الإعلان عن “الخلافة” من طرف أبي بكر البغدادي في 29 يونيو 2014، كان له أثره في الساحة الأوروبية والفرنسية، وزاد المشهد تعقيداً تدخل محمد العدناني، ورموز جهادية أخرى، ساهمت بدورها في استقطاب الآلاف من الشباب الأوروبي نحو سوريا والعراق، وبالنسبة إلى الحالة الفرنسية، خطاب العدناني المؤرخ في 22 سبتمبر 2014، كان مقدمة أرضية لاختطاف سائحين فرنسيين في الجزائر، حتى إن عملية الاختطاف تزامنت مع خطاب العدناني، كأنها استجابة لرسائله، لكنها رسائل كانت أشبه برسالة دم موجهة ضد الحكومة الفرنسية. (ص 78)
خصص الفصل الثالث لاعتداءات 2015، وخاصة اعتداء شارلي إيبدو، حيث اعتبر المؤلف أن تواريخ 7 و8 و9 يناير 2015 تعتبر محطات مفصلية في تطور الحالة الجهادية الفرنسية؛ لأنها عرفت أربعة اعتداءات أجهزت على حياة 17 فرنسياً مقابل إصابة 17 آخرين، وحيث اختار المتورطون الأهداف من مدة طويلة، ومن ذلك أن إدارة تحرير صحيفة “شارلي إيبدو” توصلت بتهديدات سابقة بعد نشرها رسومات مسيئة سبق أن نشرتها صحيفة دنماركية في سنة 2006، بل في نوفمبر 2011، تعرض مقر الصحيفة الفرنسية لحادث حرق ناري إجرامي، والمفارقة أنه في أحد أعداد شهر يناير 2015؛ أي الشهر نفسه الذي سوف تتعرض فيه الصحيفة للاعتداءات، نشر المنبر نفسه رسمياً ساخراً يتحدث عن خلو فرنسا من الاعتداءات.
من الملاحظات حول القضية أن المتورطين في مجمل لهذه الاعتداءات، إضافة إلى أنهم أبناء المجال الثقافي الفرنسي، فقد مولوا الاعتداءات بشكل ذاتي، دون أي مساعدة أو تورط جهة أجنبية. (ص 110)
أما الفصل الموالي، فقد خصص لمجموعة الاعتداءات التي سوف تعرفها فرنسا من فبراير 2015 حتى أكتوبر من العام نفسه، مع وقوع أربعة اعتداءات، أفضت إلى سقوط أربعة قتلى، بما فيها اعتداء كان المتورط فيه متأثراً أو يستلهم عمله من أداء تنظيم “داعش”؛ لأنه تورط في ذبح أحد الضحايا اليهود، حتى إنه أرسل خبر الذبح لأبي بكر البغدادي، معلناً أن الهدف يروم الوصول إلى عقر العاصمة الفرنسية. (ص 137)، وهكذا دواليك مع أغلب فصول الكتاب؛ أي التوقف بالتفصيل مع مجمل الاعتداءات التي تعرضت لها فرنسا، بالأسماء والوقائع والمراجع، حتى إن عدد المراجع وصل إلى 755 مرجعاً، [جاءت موزعة بين الصفحة 327 والصفحة 350] ونادرة هي عدد الإصدارات البحثية في فرنسا التي تطرقت للإسلاموية، سواء السياسية أو الجهادية، التي تضمنت هذا العدد الكبير من المرجع.
بخصوص أحداث 2020، ولأن السنة تميزت بمرور الجائحة، فإن الكتاب توقف عند تفاعل تنظيم “داعش” مع انتشار الوباء، مقابل وقفة عابرة مع اعتداءين اثنين في فرنسا، لم تكن تداعياتهما ذات صلة بالاعتداءات السابقة، خاصة أن الرأي العام في فرنسا وفي العالم أيضاً، كان متفرغاً ومنهمكاً في مواجهة الجائحة. كما توقف عند قضية مقتل الأستاذ صامويل باتي في 5 أكتوبر 2020، وخلص المؤلف هنا إلى أنه بالرغم من وقوع هذا الاعتداءات تميزت السنوات الأخيرة، ابتداءً من 2020، بتراجع الخطر الداعشي في فرنسا، وحضور اعتداءات “منخفضة التكلفة المادية”؛ لأنها عرفت تورط حالات فردية، وليس تورط جماعات أو تنظيمات، بما يفسر حالة الهدوء النسبي الذي ميّز سنة 2018 وسنة 2019، مستشهداً هنا بآراء للباحث جيل كيبل المتخصص في الظاهرة الإسلاموية، ومنها أن الحالة الجهادية في فرنسا لم تعد مرتبطة بتنظيمات أجنبية في الخارج، وإنما أصبحت حالات ذاتية محلية، تعيش أزمة انفصال عن القيم التي تميز الجهورية الفرنسية. (ص 290)
اختتم العمل بفصل تطرق فيه المؤلف لأهم خلاصات الظاهرة الجهادية في فرنسا، مع اقتراح مجموعة من التوصيات، من قبيل تبني الشفافية في تدبير الظاهرة والتعريف بالتجارب السابقة الخاصة بها (ص 307)، تأهيل المؤسسات الأمنية المعنية بالمواجهة عل عدة جبهات، ميدانية ونظرية (ص 310)، قراءة أفضل لتطور الظاهرة الجهادية (ص 312)، توقع التحولات المرتبطة بالتهديد الإرهابي (ص 314)، وأخيراً، تبني المقاربة الاستباقية في مواجهته. (ص 319).
ملاحظات نقدية
هناك مجموعة ملاحظات على مضامين الكتاب، ونتوقف عند ملاحظتين على الأقل:
1 ــ صبت أغلب المراجع التي اعتمدها الكتاب في قصاصات إخبارية، وعددها ناهز 755 قصاصة كما سلف الذكر أعلاه، مقابل عدد متواضع من الكتب والإصدارات البحثية، جاءت موزعة في المراجع على صفحتين ونيف تقريباً [ص 324 ــ ص 325]، إما بالفرنسية أو الإنجليزية، مع غياب أي إحالة على أعمال باحثين فرنسيين من أصل مغاربي متمكنين بشكل جيد ونوعي من الظاهرة الإسلاموية إجمالاً، ونخص بالذكر أعمال الباحث محمد علي العدراوي والباحث حواس سنيقر، إضافة إلى أسماء أخرى بدأت تظهر في الساحة، بما في ذلك أسماء بحثية نسائية تشتغل في الميدان، من قبيل الباحثة دونيا بوزار التي ألفت العديد من الكتب حول الظاهرة، ومنخرطة عملياً في مبادرات تروم التصدي العملي لنزعات التطرف العنيف.
ليس هذا وحسب، فحتى أوليفيه روا، أحد أشهر الباحثين الفرنسيين والأوروبيين في الظاهرة، كان اسمه غائباً في لائحة المراجع، بخلاف حضور جيل كيبل (من خلال عملين “القطيعة”، 2016؛ و”رعب في الجمهورية”، 2015 بشراكة مع الباحث أنطوان جاردان)، أو حضور هوغو ميشرون، الذي اشتهر بكتابه حول الحالة الجهادية الفرنسية: الأحياء، سوريا والسجون” (2020).
2 ـ بخصوص الملاحظة الثانية، وإن جاء الاعتراض عليها سلفاً في مقدمة الكتاب، فمفادها أن الكتاب قرأ الظاهرة قراءة أمنية طولاً وعرضاً، ولا توجد قراءات مواكبة للظاهرة في العمل نفسه، من قبيل استحضار الأبعاد السياسية، الثقافية، الاجتماعية، وحتى الدينية والنفسية، وإلا كانت مضامين العمل أفضل بكثير حينها.
عموماً، يُحسبُ للكتاب، أنه يعتبر مادة بحثية هامة أحصت مجمل الاعتداءات التي تعرضت لها فرنسا منذ عقدين، وذات صلة بظاهرة التطرف العنيف، وبالتالي يمكن للمادة أن تكون أرضية الاشتغال على أعمال أرى، انطلاقاً من المعطيات الكمية والنوعية التي تضمنها، بما في ذلك تقييم أداء مؤسسات الدولة هناك، أو قراءة الباحثين المتتبعين للظاهرة، أو تعامل المؤسسات الثقافية والإعلامية والجمعوية مع المعضلة.