الإخوان المسلمون والعنف: في مرحلة جمال عبد الناصر (1956-1970)
في عام 1952 دعم الإخوان المسلمون بقيادة مرشدهم الجديد حسن الهضيبي انقلاب الضباط الأحرار الناجح لإطاحة النظام الملكي. تولى جمال عبد الناصر السلطة، وكان عضواً في الإخوان، وفي النظام الخاص، منذ عام 1944، ومع ذلك، اختلفوا أيديولوجياً، حيث أراد الإخوان تطبيق الشريعة الإسلامية، على عكس رؤية عبد الناصر القومية الاشتراكية. ونتيجة لذلك، تم حظر الجماعة مرة أخرى، فحاول الإخوان اغتيال عبد الناصر عام 1954.
كتب حامد أبو النصر: المرشد الرابع للإخوان، في كتابه “حقيقة الخلاف بين “الإخوان المسلمون” وعبد الناصر” الصادر عام 1988:
“في الأسبوع الأول من قيام الحركة التي استقبلها الشعب بحماس بالغ وارتياح منقطع النظير، حضر فضيلة المرشد للقاهرة، وتم أول لقاء بينه وبين الضابط جمال عبد الناصر ـ المسؤول عن ضباط الإخوان داخل الجيش وقائد الحركة ـ… وبعد تبادل التهنئة بنجاح الحركة قال فضيلة المرشد للضابط جمال عبد الناصر: يحسن أن تقوموا ببعض الإصلاحات السريعة التي تدعو إليها مبادئ الإسلام، خصوصاً والحركة الآن في أولى خطواتها وأوج نجاحها، وفي مثل هذه الحالة يزداد التفاف الشعب حولكم ولا يستطيع أحد أن يعترض طريق الإصلاح… فرد الضابط جمال عبد الناصر قائلاً: طبعاً نقوم بعمل إصلاحات كثيرة، لكن ندع ما يتصل بالإسلام الآن. فقال فضيلة المرشد: أليس في نيتكم خدمة البلاد بمنهج الإسلام كما اتفقتم مع إخوانكم من قبل؟ فرد الضابط جمال عبد الناصر: أنا لم أتفق مع أحد على هذا… ونحن لا نقبل وصاية علينا من أحد… وانتهى اللقاء بفتور بالغ.
وتركت هذه الزيارة انطباعاتها المؤلمة على نفس فضيلة المرشد ومن معه من الإخوان، فأحسّوا بخيبة الأمل… وكانت الصدمة عنيفة… وعقب مغادرة الضابط جمال عبد الناصر مكان اللقاء، ذكر فضيلة المرشد للإخوان الحاضرين أن هذه الحركة لا تعمل في ظل الإسلام”.
ويقول علي عشماوي: أحد كوادر النظام الخاص، في مذكراته “التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين” الصادرة عام 2006:
“بدأ الهمس على أن رجال الثورة بدأوا يتحللون من التزامهم، وأن السلطة قد ذهبت برؤوسهم، وأنهم تنكروا لدور الإخوان في تهيئة المسرح لقيام الثورة، وأن رجال الإخوان ـ ليلة قيام الثورة ـ كانوا يرابطون بأسلحتهم على طول المداخل في منطقة القناة لمنع الإنجليز من التدخل، وأنهم قد نقلوا بعض الأسلحة المخبأة في بيوت بعض رجال الثورة… كل هذا كان يساق على أن العملية كلّها من تدبير الإخوان”.
ويروي علي عشماوي أن كمال السنانيري: وهو من قادة النظام الخاص، “بدأ حديثه معنا (في أحد الاجتماعات السرية) قائلاً: “إن دعوة الإخوان هي دعوة إلى البذل والتضحية والفداء، وأنه قد آن الأوان لوضع ما تعلمناه وعشنا له موضع التنفيذ، وأن الجماعة مقبلة على معركة مصيرية مع رجال الحكم العسكري الذين تنكروا لقيادتهم وأداروا ظهورهم لبيعتهم. وسألته: هل كانوا حقاً من الإخوان؟ وهل بالفعل بايعوا قادتها؟ فأكد لي ذلك، وقال إنهم كانوا تشكيلات الإخوان في القوات المسلحة… ولكنهم بعد أن نجحوا وساعدهم الإخوان حتى استتب لهم الأمر، بدأ جمال عبد الناصر يخرج على القيادة، وكان عبد الناصر قد اتفق أن يتبع تعليمات المرشد، وقيادة الإخوان في المرحلة الانتقالية، حتى يتم الإعلان الرسمي عن تطبيق الحكم بالشريعة”.
بدأ الإخوان يستعدون للدخول في مواجهة مسلحة مع عبد الناصر، وعلى هذا الأساس أعاد الهضيبي تشكيل النظام الخاص عام 1953: أي بعد عام من الانقلاب، وعين يوسف طلعت رئيساً له خلفاً لعبد الرحمن السندي الذي تم عزله، وأنشأ لجنة للإشراف عليه وتنسيق أعماله باسم “المجلس الأعلى للجهاد” مكونة من خمسة أعضاء، هم: يوسف طلعت: رئيس النظام الخاص، صلاح شادي: رئيس التشكيل الخاص بالبوليس، وهو جهاز سري آخر في الجماعة مهمته اختراق الأجهزة الأمنية وتجنيد ضباطها، وأبو المكارم عبد الحي: رئيس التشكيل الخاص بالجيش، ومحمد خميس حميدة ومحمد فرغلي من مكتب الإرشاد.
في يناير 1954، وبعد أن وصل التوتر في العلاقة إلى درجة الصدام، قام عبد الناصر بحل الجماعة، واعتقل المئات من أعضائها وقادتها وعلى رأسهم مرشدها العام الهضيبي، ثم عاد وأطلق سراحهم في مارس بعد وساطة شخصية من الملك السعودي.
يقول علي عشماوي ي مذكراته “التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين”:
“كان السبب في حل الجماعة هو الخلاف بين جمال عبد الناصر والإخوان على تفاصيل المفاوضات الجارية بين رجال الثورة والإنجليز لتحقيق الجلاء عن مصر. والواقع أن اختلاف الإخوان في هذا الأمر كان نابعاً من إحساسهم بخروج عبد الناصر ومن معه على قيادتهم، وقد تم اختيار هذا الموضوع ليكون سبباً للصدام لما له من ثقل وطني في حس الناس، مما يعطي للإخوان تأييداً شعبياً في صدامهم مع رجال الثورة.
وبدأت المنشورات توزع على الإخوان في الشعب وفي أماكن تجمعهم تشرح الخلاف من وجهة نظر الإخوان، فقد كانوا يرون أن احتفاظ الإنجليز بقاعدة في قناة السويس هو “بيع” للقضية، وأن الإخوان يفضلون الكفاح المسلح”.
كانت هذه المنشورات تطبع في لجنة الدعاية بالمركز العام للجماعة، أو في قسم خاص بالنشرات السرية تابع للنظام الخاص، وقد استخدم الإخوان أساليب دعائية عنيفة ضد عبد الناصر، ومن بين النشرات التي صدرت في ذلك الوقت نشرة بعنوان “الإخوان المسلمين” وأخرى بعنوان “الإخوان في المعركة”.
كتب حسن الهضيبي في العدد 5 من “نشرة الإخوان المسلمين” الصادر في فبراير 1954:
“يا شباب الإخوان، تعالوا نشتري الجنة بسياط العذاب ورصاص أعداء الله.
تعالوا نرق الدم المسفوك والدم الساخن، لتكون أوسمة تحلّى بها صدور الشهداء.
تعالوا نشم أريج الجنة، فداء لله وللدين.
وتعالوا ننعم النظر إلى جمال الله وصحبة رسول الله.
تعالوا إلى ما وعد الله في كتابه الكريم: “وجوه يومئذ راضية”، و”بشر المؤمنين”.
والله أكبر ولله الحمد”.
وجاء في منشور بعنوان “مناجاة“:
“اللهم إنك تعلم أن أعداءك قد فجروا في الأرض، وألحدوا في أسمائك وحاربوا قرآنك، وعطلوا حدوده، وفتنوا المؤمنين من عبادك.
اللهم أزل دولتهم، واكسر شوكتهم، وفرق جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، وانصرنا عليهم يا خير الناصرين.
اللهم إنك ترى أن السجون قد غصت بعبادك المؤمنين، وأنت وحدك سبحانك تعلم سرهم ونجواهم، وهم عبادك يعملون لدعوتك”.
وجاء في منشور آخر صدر في 5 أكتوبر 1954:
“إلى جنود الله في أرضه، يأمرنا الله في كتابه العزيز بقوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم”.
فيا أيها الأخ الكريم، قد جاء يومك، وعليك أن تستعد وتتأهب.. فأمامنا أعداء وليس عدواً واحداً، ألا وهم: الكفرة، والفجرة حكام هذا الوطن العزيز.. هؤلاء الذين ليس في قلوبهم مسنة من الرحمة أو ذرة من شفقة. وهذا الشعب البائس الذي يحكمه الطغاة لا يصح أن يعيش في هذه الذلة والمسكنة.
ألا تعلم أيها الأخ، أنهم يشردون أطفالك باعتقالاتهم الجنونية، وربما يحتاج الأمر إلى استعمال القوة في مواجهتهم، فعلى كل أخ يعتز بدعوته أن يستعد بكل ما عنده من مال وسلاح إلى أن يحين اليوم الموعود”.
في أكتوبر 1954، صدر أمر من المجلس باغتيال جمال عبد الناصر، وكُلف اثنان من كوادر التنظيم بالإعداد للعملية هما إبراهيم الطيب وهنداوي دوير، وفي يوم 26 أكتوبر أطلق محمود عبد اللطيف: وهو عضو بإحدى خلايا التنظيم، ثماني رصاصات على عبد الناصر في منطقة المنشية بالإسكندرية دون أن تصيبه، وفشلت المحاولة، واعتقل محمود عبد اللطيف وأربعة آلاف من الإخوان، وفرّ من استطاع إلى السعودية وسوريا والأردن ولبنان.
وكانت الخطة التي وضعها الإخوان للاستيلاء على السلطة على الشكل التالي:
ـ اغتيال عبد الناصر واعتقال أعضاء مجلس قيادة الثورة أو تصفيتهم في حالة المقاومة.
ـ تحييد الجيش والتأكد من عدم تحركه عن طريق بعض الإخوان الذين ما زالوا في الخدمة ولا يعلم بهم مجلس قيادة الثورة.
ـ قيام الإخوان في القاهرة (بمساعدة إخوان وافدين من الأقاليم) بالاستيلاء على المباني الحكومية الإستراتيجية مثل أقسم البوليس ومبنى الإذاعة وقطع الطرق الرئيسة، خاصة تلك التي تربط بين الثكنات.
ـ قيام الإخوان في الأقاليم بالاستيلاء على أقسام البوليس والمنشآت الحكومية الهامة.
ـ قيام قسم الطلاب بالجماعة بالخروج في مظاهرات حاشدة (تحت حراسة رحال النظام الخاص المسلحين) والتوجه إلى قصر الرئاسة واقتحامه والاستيلاء عليه.
ـ الاتفاق مع رئيس مجلس قيادة الثورة السابق محمد نجيب على تولي السلطة بشكل مؤقت لتهدئة الأوضاع والسيطرة على أي اضطرابات أو جيوب مقاومة من داخل الجيش أو أجهزة الأمن والمخابرات.
ـ تسلم الحكم وإعلان قيام الدولة الإسلامية.
ولتقديم نظرة واسعة على هذه الخطة وطريقة عمل النظام الخاص وهيكلته في تلك الفترة، ننشر هنا النص الحرفي لأقوال محمود عبد اللطيف، وهنداوي دوير، وإبراهيم الطيب، أمام المحكمة.
- أقوال محمود عبد اللطيف
أنا في الإخوان من سنة 1942، ولم أنضم للهيئة السرية.. الخلية السرية إلا من مدة أربعة شهور فقط، والخلية السرية مكونة من هنداوي دوير وأنا وسعد حجاج. وفي الأربع شهور كنا نجتمع كل أسبوع من نصف ساعة إلى ساعة في بيت هنداوي دوير.. كل يوم اثنين، وكان اجتماعنا لحفظ القرآن ودراسة السيرة والجهاد في سبيل الله. وقبل الحادث بأسبوع واحد كان هنداوي دوير قال لنا على حكاية الاتفاقية (يقصد اتفاقية الجلاء التي وقعها جمال عبد الناصر) وأن الرئيس جمال عبد الناصر وقع الاتفاقية وأن هذه الاتفاقية غلط وخيانة في حق البلد، واتفقنا نحن الثلاثة أن من تتاح له الفرصة ينفذ الاغتيال. بعد ذلك هنداوي دوير أحضر لي المسدس قبل الحادث بيومين… بعدها قبل الحادث بيومين قرأت أن الرئيس سيذهب إلى الإسكندرية لحضور المهرجانات الشعبية، فذهبت إلى هنداوي الساعة العاشرة والنصف بالليل وأخبرته بما قرأته في الجريدة، فقال: لا مانع.. على بركة الله، ومررت على سعد حجاج في الصباح وأخبرته بالأمر، فتأسف؛ لأن هنداوي لم يحضر له المسدس الخاص به لكي يأتي معي، وتوكلنا وسافرت إلى الإسكندرية…
نزلت على ميدان المحطة، وجدت جماعة من المتظاهرين في طريقهم إلى المنشية، فمشيت وراءهم، وبعد أن وصلت الميدان وقفت، ولما بدأ الرئيس في الكلام أطلقت عليه طلقات من المسدس.. بعد ذلك أمسك بي الناس وأخذني البوليس الحربي في الإسكندرية لأدلي بأقوالي أمام النائب العام…
ـ أين تقع الخلية التي تنتمي إليها.
ـ في إمبابة.
ـ قلت إنكم كنتم تجتمعون في الخلية لمذاكرة القرآن والسيرة والجهاد في سبيل الإسلام. ما المقصود بالجهاد في سبيل الإسلام؟
ـ المقصود به محاربة أعداء الإسلام…
ـ من هم؟
ـ كنا نفسر أنهم هم الإنجليز واليهود ومن يقف في سبيل الدعوة الإسلامية. بعد ذلك جاءت حكاية الاتفاقية، وقبل الحادث بأسبوع اجتمعنا وتحدثنا فيها نحن الثلاثة، وانتهينا إلى أن الاتفاقية فيها خيانة للبلاد… وعلى هذا الأساس بنينا حكمنا.
ـ ما هي دراستك؟
ـ أنا درست الابتدائية أربع سنين في القسم الليلي ورسبت فيها…
ـ ماذا فهمت من فكرة النظام السري؟
ـ الفكرة هي الجهاد في سبيل الله ودراسة القرآن والسيرة.. هذا كل ما فهمته.
ـ ما الغرض منه؟
ـ الغرض محاربة أعداء الإسلام وأعداء الدعوة.
ـ من هم أعداء الدعوة الإسلامية؟
ـ أعداء الدعوة الإسلامية.
ـ من؟
ـ الذي يقف في طريق الدعوة الإسلامية.
ـ قلت إنه قبل الحادث بيومين هنداوي أحضر لك مسدس.. أحضره من أين؟
ـ لم يخبرني… هو قال لي استعد ولم يخبرني من أين أحضره.
ـ أعطاك طلقات؟
ـ 15 طلقة…
ـ منذ متى تعرف هنداوي؟
ـ من سنة 1951.
ـ وسعد حجاج؟
ـ من أربعة أشهر.
ـ تعرف من أيضاً من النظام السري؟
ـ هذه هي مجموعتنا ولا أعرف غيرها.
ـ من رئيس المجموعة؟
ـ هنداوي دوير.
ـ اتفقتم على من يقتل جمال عبد الناصر؟
ـ هنداوي قال من تتاح له الفرصة منا نحن الثلاثة…
ـ الجهاز السري يعمل لحساب من؟
ـ الإخوان المسلمين.
ـ هل ذهبت لقتل الرئيس على أساس أنه عدو الإسلام لوحده، أم إن الحكومة كلها عدوة للإسلام؟
ـ الرئيس هو عدو الإسلام.
ـ وحده؟
ـ نعم.
ـ فقط.
…
ـ هذا ما أقنعوك به؟
ـ نعم.
ـ والجهاز يعمل لحساب الإخوان؟
ـ نعم.
ـ تعرف من هو رئيس النظام الخاص؟
ـ لا.
ـ ومن الذي يعرف؟
ـ أنا أعرف أن رئيسنا هنداوي.. أما الرئيس العام لا أعرفه…
ـ هل يوجد شيء بينك، وبين جمال عبد الناصر؟
ـ رأيته من قبل؟
ـ لا.
ـ سلمت عليه؟
ـ لا.
ـ إذن، لماذا حاولت قتله؟
ـ أفهموني أن الاتفاقية جناية.
ـ من الذي أفهمك؟
ـ هنداوي دوير.
ـ ألم يسبق له أن عرض عليك حزاما ناسفا لتنفذ به العملية؟
ـ هنداوي عرضه علي الساعة الثانية عشرة والنصف بالليل لما ذهبت إليه لأخبره بالسفر، فقال لدينا حزام ترتديه وتقابل جمال عبد الناصر وتعانقه وينفجر وتنسفون أنتما الاثنان…
ـ لماذا رفضت؟
ـ ……………
ـ خشيت على نفسك؟
ـ لا.. لم أخش على نفسي.
ـ إذن.. لماذا رفضت؟ كانت هذه الطريقة أضمن من المسدس.
ـ……………
ـ ما الذي جعلك ترفض؟
ـ……………
ـ وأنت ذاهب لقتل الرئيس ألم تفكر في طريقة للهرب؟
ـ لا، لم أفكر، وهنداوي أخبرني أن الحرس سيطلق عليك النار وتموت.
ـ كنت تعرف أنك ذاهب للموت؟
ـ نعم.
ـ لم تفكر في طريقة للهرب؟
ـ لا…
ـ تعرف إبراهيم الطيب؟
ـ كان مرة هنداوي عرفني به في بيته.
ـ على أيّ أساس؟
ـ قال لي أخوك إبراهيم الطيب.
ـ هل عرفك على أحد آخر؟
ـ واحد اسمه توفيق.
ـ ماذا قال لك عنه؟
ـ قال هذا سيكون مندوب القيادة.
ـ أي قيادة؟
ـ قيادة الإخوان.
ـ إبراهيم الطيب تحدث معك؟
ـ جلسنا نتحدث في بيت هنداوي دوير في الجهاد في سبيل الله.
ـ ماذا قال لك؟
ـ أشياء عامة.
ـ ألم يطلب منك القيام بأي مهمة؟
ـ لا، الذي طلب هو توفيق.
ـ ماذا قال لك؟
ـ قال لنا أن نراقب بيت أنور السادات وجريدة الجمهورية، وأن نفكر في طريقة مضمونة لاغتياله.
ـ وماذا فعلتم؟
ـ ذهبنا وعاينا البيت والجريدة واستقر الأمر على أن تكون العملية في الجريدة، بعد ذلك قالوا لنا انتظروا الأوامر، لكن الأوامر لم تأت.
ـ كنت لوحدك؟
ـ أنا وسعد حجاج.
ـ أعطوك سلاح؟
ـ لا…
ـ ألم تسأل عن السبب في قتل أنور السادات؟ قلت إن الرئيس جمال عبد الناصر عدو الإسلام. طيب والسيد أنور السادات لماذا تقتله؟
ـ لم أسأل.
ـ مهمة خطرة مثل هذه، ولا تسأل؟
ـ……………
ـ أقنعك بماذا بالنسبة إلى أنور السادات؟
ـ أقنعني بأنه يحارب الإسلام في مقالاته.
ـ قرأت مقالاته؟
ـ قرأت بعضها.
ـ فيها حرب على الإسلام؟
ـ كان هناك مقالة يقول فيها إن الأديان إذا وقفت في طريق تقدم الشعوب، فالشعوب يمكن لها أن تتخلى عن دينها وتسير في طريقها…
ـ قرأتها بنفسك؟
ـ نعم…
ـ قلت إنك كنت تقرأ في القرآن. هل القرآن يحل قتل المسلم؟
ـ لا.
ـ إذن، لماذا كنت تريد قتل جمال عبد الناصر وأنور السادات؟ هل هما غير مسلمين؟
ـ مسلمان.. ولكنهم أفهمونا أنهما خارجان عن الإسلام.
ـ من هم؟
ـ هنداوي دوير.
ـ وهل هنداوي دوير هذا كلامه مثل القرآن؟ ألا يقول القرآن الذي كنت تقرأ فيه إن القتل حرام؟
ـ نعم.
ـ ألا تفهم القرآن؟
ـ صحيح أنا أقدمت على هذا العمل… ولكن بعد أن أقدمت عليه شعرت بالندم وشعرت بأنني مخطئ.
ـ مخطئ لماذا؟
ـ لأنه كان خلاف الإسلام.
ـ خلاف الإسلام في ماذا؟
ـ في الفهم الذي فهمته بخصوص قتل المسلم.
انتهت أقوال محمود عبد اللطيف.
وفي إحدى جلسات محاكمته، سلم للقاضي رسالة خطية جاء فيها:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد،
فإن الله حق يحب الحق، أنا محمود عبد اللطيف، انضممت إلى الإخوان المسلمين في سنة 1942، كان اعتقادي أن هذه الجماعة تعمل لله، وأن قادة الإخوان لا يأمرون إلا بما فيه خير الإسلام والمسلمين، فكنت أسمع كل أمر في طاعة، دون تردد أو مناقشة؛ لأن هذا صادر عن أناس مسلمين، يعملون للإسلام ويقدرون مسؤولية الله في أي عمل يعملونه، فكنت معهم على هذا الأساس، وكنت أعيب على بعض الطلبة حين يناقشون في كل أمر، وأقول في نفسي إن الطلبة عندهم حب الجدال في أي شيء…
(وقد) علمت من التحقيق في الجلسة الثانية أن هنداوي دوير قال إن هذا الاغتيال السياسي لم يكن من الإسلام في شيء، إنما هو ميراث ورثناه من قبل، في رأيي أن هذه العبارة من قول الكافرين: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، ولو كنت أعلم هذا من قبل لناقشت كل أمر يأتيني من الإخوان. كنت أنا أول ضحية في هذا الشأن؛ لأني كنت آخذ كلامهم عن ثقة ويقين بأنه للإسلام…
أحب أن أنبه جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى هذا، بأن لا يأخذوا من أي واحد يثقون به من المسلمين أمراً حتى يتبينوا حقيقته، أهو لله والإسلام أم لغير ذلك.. أقول هذا الكلام لا طمعاً في تخفيف العقوبة، ولكنه إحقاقاً للحق…
- أقوال هنداوي دوير (مسؤول فرع النظام الخاص في امبابة)
في الأشهر الأخيرة.. من خمسة شهور أو أربعة شهور أو بعد مارس بالتحديد، انقسم أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين إلى ثلاثة أقسام: أحدها يؤيد الثورة، ويرى ضرورة أن يقوم الإخوان بتأييدها (وهم أقلية)… وفريق آخر وقف موقف حياد أو على الأقل مائع… والفريق الثالث (برئاسة حسن الهضيبي) كان يرى أن الثورة ماضية في طريق يعارض الإسلام… على إثر هذا الخلاف الشديد الهيئة التأسيسية كأعضاء فقدت احترامها في نفوس الإخوان، ومكتب الإرشاد لم يستطع أن يقوم بمهمته في توجيه الإخوان، وكذلك فقد احترامه فعلاً في نفوس الإخوان، حتى أصبحت التعليمات التي تصدر منه لا تلقى تأييداً من الإخوان، وكان لا بد من تعديل الحال فرؤي أن هذه الهيئة لا تمثل الإخوان، فما دامت لها صفة من صفات الأبدية وهي التعيين مدى الحياة، فلا بد من تغييرها إلى وضع آخر يستقيم مع الأمور… وفعلاً عدل القانون. في هذه الفترة إزاء هذا الاضطراب الشديد… وجدنا أن الأجهزة الإدارية في الإخوان المسلمين أصبحت كلها معطلة ما عدا الجهاز الخاص.. الجهاز السري في الإخوان المسلمين… كان الجهاز السري يسيطر على الموقف ويصدر تعليماته إلى الإخوان، وعلى إثر هذا بدأت التعليمات تأتي تلقائياً من المسؤول، وكان في هذه الفترة من الأستاذ إبراهيم الطيب المحامي المسؤول عن النظام السري في القاهرة، وأنا في إمبابة كنت رئيس المنطقة… وفي أثناء المعاهدة (يقصد معاهدة الجلاء) أو بعد الاتفاق المبدئي الذي وقع بالحروف الأولى، قامت الخلافات حول ما إذا كانت المعاهدة صالحة أو ضارة، وبدأت تشحن نفوس الإخوان بأنها ضارة، وصدر قرار مكتب الإرشاد الذي وجه إلى السيد الرئيس (عبد الناصر) بخصوص رأي الإخوان في المعاهدة… وتطورت الأمور بعد هذا إلى أن بدأت المنشورات تنزل، وكانت تسلم للإخوان، لكي يقرؤوها ويوزعوها على الناس.. الأستاذ إبراهيم الطيب كان يقول إن الخطة التي اتخذها النظام السري هي تعبئة نفوس الإخوان من الوجهة الشعبية وتعبئة نفوس الناس ضد المعاهدة… في هذه الفترة شحنت نفوس الإخوان شحناَ شديداً ضد المعاهدة… وكانوا يقولون: ما المصير؟؟ ماذا سنفعل؟؟… وفجأة وجدنا المنشورات انقطعت نهائياً، فسألت إبراهيم… فقال إن الاتجاه لن يكون شعبياً، بل قررنا أن يكون الاتجاه إرهابياً… وقال لي إن هناك خطة كاملة وسننفذها…
قبل الحادث بحوالي 15 يوماً أو أكثر قليلاً، جاء إلي وأخبرني أن خطتنا هي أن النظام قرر أن يتخلص أولاً من الرئيس جمال عبد الناصر وبعد ذلك يتخلص ـ بتحديد اللفظ ـ من الضباط الأحرار بأي صورة، سواء بالاعتقال أو بالخطف أو بالقتل. فقلت له هل حققتم هذه المسائل إسلامياً؟ (بمعنى هل العمل جائز أو غير جائز من ناحية الشرع)، فقال لي نعم… وقال لي إنه انتخب محمود عبد اللطيف ليقوم بإطلاق الطلقات الأولى، وهي اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر… وأحضر لي المسدس… وأنا أعطيته لمحمود عبد اللطيف… وقلت لإبراهيم الطيب: ما الخطة؟… فقال لي إن الخطة أن محمود يعتمد على مجهوده الشخصي في تتبع الرئيس جمال عبد الناصر، ولا سيما أنه بعد المعاهدة نزل إلى الميادين وإلى الشعب، وممكن أن ينال منه محمود، وفعلاً قلت لمحمود هذا، وسلمته المسدس وسلمته الطلقات.
…
مسألة النظام السري في الإخوان المسلمين؟ النظام السري هذا ترك من أيام البنا رحمه الله، وأنشئ هذا النظام أصلاً لمحاربة الإنجليز ولمحاربة الملك فاروق… ولتحرير البلاد العربية والإسلامية من الاستعمار الأجنبي. هذه هي فكرة النظام الخاص في الأصل، وأساس هذه الفكرة لا غبار عليه؛ لأن المسلم يجب أن يجهز تجهيزاً إسلامياً كاملاً، فقد قال رسول الله (ص): “من لم يغز ولم تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية”، كما قال: “ارموا واركبوا ولئن ترموا خير من أن تركبوا”… وبعدما انتقل البنا إلى رحمة الله كان عبد الرحمن السندي يرأس النظام وكان مكوناً من عدة جماعات، الجماعة مكونة من عدة أشخاص على رأسهم واحد، والشعبة المهمة بها عدة جماعات، وكل جماعة يرأسها واحد، وتتدرج على نظام هرمي يرأسه عبد الرحمن السندي، ومعظم هذا النظام في القاهرة… ولما انتقل الأستاذ البنا إلى رحمة الله وجاء الأستاذ الهضيبي مرشداً عاماً… عين قيادة جديدة للنظام… وعلى إثر هذا طرأ تعديل جدي على النظام السري، ونظم الجهاز السري إلى جماعات كل جماعة من سبعة وكل أربع جماعات تكون فصيلة، وهذه الفصيلة تسلح بالأسلحة، مدافع وقنابل وطبنجات…
…
نعود للخطة العامة: قيل بعد الاتفاقية (يقصد اتفاقية الجلاء) أن الثورة تتجه بالبلاد بعيداً عن الإسلام، ولا بد أن نأتي بحكومة أخرى تتجه نحو الإسلام… وعلى هذا الأساس، رتبت الخطة على قتل الرئيس جمال عبد الناصر والتخلص من أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار بالاعتقال أو الخطف أو شيء من هذا القبيل، وإبراهيم الطيب قال إن هناك اتصالا بالرئيس محمد نجيب، والاتفاق على أساس أن يتولى تهدئة البلاد أثناء هذا الاضطراب…
ـ أنت قلت إن الخطة العامة هي قتل الرئيس جمال ثم تهدئة الحالة. هل كان المقصود أن تقوم ثورة شعبية؟
ـ نعم، كان المقصود عند الإخوان أن يقوموا بثورة شعبية… بعد ذلك، في الأيام الأخيرة انتهوا إلى أن يقوموا بعمليات إرهابية تنتهي باضطرابات في البلاد يسيطر عليها الرئيس محمد نجيب، وينتهي من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتكوّن حكومة تتجه بالبلاد اتجاهاً إسلامياً.
ـ كيف توضع الخطط؟ ومن يضعها؟ ومن ينفذها؟
ـ الخطة توضع في قيادة النظام السري أولاً، ولا أعرف منه إلا أشخاصاً معدودين، ويطلع عليها المرشد، والمروض أن يصادق عليها… والخطة توضع في القيادة، وتعرض على المرشد ليقرها أو لا يقرها، فإن أقرها تنزل للإخوان لينفذوها.
ـ إذن، النظام تابع للمرشد؟
ـ لا بد أن يتبع المرشد.
ـ في أيام المرحوم الأستاذ البنا، قلت إنه كان يرأس النظام بنفسه، وإن كان هناك رئيس آخر هو عبد الرحمن السندي.
ـ نعم، كان يتلقى أوامره من البنا مباشرة.
ـ يعني النظام كان يتبع الأستاذ البنا مباشرة؟
ـ نعم.
ـ وبعد المرحوم حسن البنا.
ـ نفس الحال.
ـ يعني استبدلت رئاسته برئاسة أخرى؟
ـ نعم.
ـ وبعد قتل الأستاذ البنا هل تبعية هذا النظام أصبحت لمكتب الإرشاد أو الجمعية التأسيسية أو المرشد؟
ـ المرشد.
ـ بنفس الطابع القديم.
ـ نعم…
ـ ما هو الحكم في الإسلام؟ كيف يكون الحكم بالإسلام؟ تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية كما وردت في القرآن الكريم؟ الجماعة من أهدافها الحكم بالإسلام؟
ـ هدفها الوحيد الحكم بالإسلام.
ـ ألم تضعوا أبحاثاً عن كيفية الحكم بالإسلام مثل الدستور والقانون إلخ؟
ـ أيام الأستاذ البنا طلبت منه أن يكتب في هذا، فقال لي إننا شبعنا كتبا ومقالات، وأن المكتبة الإسلامية مليئة، وأن مهمتنا ليست أن نؤلف كتبا، بل مهمتنا أن نصنع رجالاً، ومعنى هذا أن مهمته هو أن يربي الأمة تربية إسلامية تنتهي بأن نطبق ما هو موجود في المكتبة الإسلامية.
ـ ما هي التربية الإسلامية؟
ـ إعداد الفرد المسلم من حيث تطبيق الواجب الذي عليه نحو الله.
ـ كيف؟
ـ يعني إعداد الناس وإفهامهم أن الإسلام دين صالح في كل مكان وزمان، وتكوين الجماعة التي تقوم على هذه المعاني، ولما تتكون غالبية الشعب على هذا النحو، ونأتي لتطبيق القرآن كما كان في أيام الرسول (ص) يكون الأمر معقولاً ومقبولاً.
ـ كيف يكون الحكم؟ يعني شكل الدولة وقوانينها، هذه المسائل ألم تنجز فيها أبحاث؟
ـ أنجزت فيها أبحاث.. لكن في شكل فردي. أما شكل الدولة وهل يكون جمهوري.. ملكي.. حكم على أي صورة من الصور المعروفة.. لا، لم ينجز شيء في هذا الصدد، وإنما شكل كان يتحدد في صورة إسلامية تختلف عن الديمقراطية وعن الديكتاتورية وعن الشيوعية.
ـ يعني لا يوجد تحديد أو نص مضبوط؟
ـ الواقع أن الإخوان لم يعدوا هذا الدستور، وأنا قلت إنني طلبت من الأستاذ البنا أن يتفرغ قليلاً ليكتب لنا ما الذي يجب أن يطبقه الإخوان، وأذكر أنه قال في مناسبة ما، إن الناس يجتمعون على مبادئ لا على تفاصيل؛ لأننا إذا دخلنا في التفاصيل فسنختلف ونتفرع، ولن ننتهي إلى خير كثير، وأننا نسير على مبادئ إسلامية، ولو تعرضنا للتفاصيل، فيمكن أن يأتي فقيه ويختلف معنا، وسنستهلك في مسائل فرعية.
- أقوال إبراهيم الطيب (مسؤول النظام الخاص في القاهرة)
ـ اسمك؟
ـ إبراهيم الطيب.
ـ مهنتك؟
ـ محامي.
ـ سنك؟
ـ 32 سنة.
ـ قل والله العظيم أقول الحق ولا شيء غير الحق والله على ما أقول شهيد
(أقسم اليمين)
ـ أنت عضو في جماعة الإخوان؟
ـ نعم.
ـ منذ متى؟
ـ من سنة 1945.
ـ وظللت عضواً فيها إلى الآن؟
ـ نعم.
ـ ما هو مركزك في جماعة الإخوان في السنوات الأخيرة؟
ـ في السنوات الأخيرة، كنت متصلاً بالقسم القانوني بالمركز العام، بعدها عهد إلي بالإشراف على الجهاز الخاص في القاهرة من ناحية التنظيم والتكوين.
ـ متى عينت رئيساً للقسم الخاص في القاهرة؟
ـ في حوالي فبراير 1954.
ـ هل كانت الرئاسة المطلقة لك؟
ـ لا.. كان هناك مجلس عالي وقيادات أخرى.
ـ اشرح للمحكمة وفصل.
ـ المجلس كان يختص بمسائل عامة في التنظيم، ويتكون من أفراد منهم الشيخ فرغلي والدكتور خميس حميدة ويوسف طلعت والأستاذ صلاح شادي..
ـ فقط؟
ـ علمت أن الأستاذ عبد المنعم عبد الرؤوف كان من قسم الجيش.
ـ والمجلس الأعلى كان له رئيس أم لا؟ وإذا كان له رئيس من هو؟
ـ الرئيس الأعلى لا شك يكون المرشد.
ـ أنت تخضع مباشرة للمجلس الأعلى أم إن لك رئيساً تتلقى منه أوامر المجلس أو المرشد؟
ـ رئيسي المباشر يوسف طلعت عن القسم المدني.
ـ أنت في منطقة القاهرة، وهذه منطقة كبيرة.. طبعاً قسمتها إلى مناطق، كم من قسم يتبعك فيها؟
ـ 10 أقسام.
ـ هذه الأقسام هل نظمت فيها الجهاز الخاص في المناطق العشرة؟
ـ كل هذه الأقسام منظم فيها هذا الجهاز.
ـ اشرح للمحكمة كل ما يتعلق بالجهاز من ناحية الأقسام والعدد وطريقة التموين والتجهيز والتسليح؟
ـ رئيس المنطقة يتبعه عدد من نواب الشعب، وكل منطقة لها رئيس، إذن هم عشرة يجتمعون مع بعض، ولهم ضابط اتصال بينهم وبين القاهرة، وكل قائد منطقة له قائد فصيلة معه هو المختص بالمسائل الفنية أو العسكرية، أما قائد المنطقة فيختص بالشؤون الإدارية.
ـ مم تتكون الفصيلة؟
ـ الفصيلة تتكون من أربع مجموعات، في كل مجموعة سبع، وقائد الفصيلة وقائد ثاني أو وكيل له، وهناك ضباط اتصال مختصين بالشؤون الفنية يتبعون يوسف طلعت، وضباط اتصال إداريين منهم محمد عبد المعز والأستاذ حسين شعبان. أما ضباط الاتصال الفنيين، فمنهم إسماعيل عارف ومهدي عاكف (يقصد محمد مهدي عاكف الذي أصبح المرشد السابع للإخوان عام 2004)، وهؤلاء يتبعون يوسف طلعت؛ لأنه مختص بالمسائل الفنية.
ـ والتسليح؟
ـ كان معهود به لأشخاص متخصصين من الناحية الفنية، مثل سيد الريس (يقصد سيد عبد الله الريس الذي كان مسؤولاً عن قطاع التسليح في النظام الخاص في تلك الفترة) وفؤاد مكاوي.
ـ ما هو تسليح الفصيلة؟
ـ لا أعرف؛ لأن هذه تفاصيل فنية متعلقة بالجهاز الفني.
ـ من أين يتم توريد السلاح؟
ـ لا أعرف؛ لأن هذا من اختصاص القسم الفني، وأنا اختصاصي ضم الأفراد وتنظيمهم في المجموعات.
ـ ما الذي تراعونه في الاختيار؟
ـ يراعى كثير من الاعتبارات الروحية والثقافية والبدنية، إلى جانب ذلك التدريب…
ـ ما هو الغرض من إنشاء الجهاز السري؟
ـ الغرض هو بعض المسائل الداخلية والخارجية.. وحماية الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، باعتبار أن التدريب فرض عين على كل مسلم. أما من الناحية الخارجية، فلأن بلاد المسلمين منكوبة بحكم المستعمر في الشرق والغرب، والإخوان يستعدون لتقديم الجنود، إذا ما حدث شيء، فيقدمون رجالاً مجهزين مدربين لتونس أو الجزائر أو في مصر أو أي بلد آخر..
ـ اشرح لنا الوضع في مصر.. كيف يؤدي النظام الغرض من تكوينه في مصر؟ ما هو الداعي إلى سرية الجهاز ما دامت الحكومة القائمة على البلاد تقاوم الإنجليز؟
ـ لم يكن بالسرية المفهومة بدليل أنه كان موجوداً في جميع المناطق في القاهرة والأقاليم، والجميع يعلمون عنه، ولم تكن له صفة السرية.
ـ أنت ألم تسمّه النظام؟
ـ نعم.. النظام، لكن لم نقل النظام السري.
ـ أنت اعترفت أن النظام مسلح ومنقسم إلى جماعات وفصائل، وله ضباط اتصال وله تسليح وتدريب، وبه فنيون للكشف على الأسلحة… فهل هناك ما يستدعي وجود أسلحة؟ جهاز منظم وفيه أسلحة وأنت محامي، فهل قوانين البلاد تسمح بحمل السلاح؟
ـ لا تسمح.
ـ كيف توجد مخازن أسلحة، وتنظيم مسلح داخل البلاد دون علم الحكومة؟
ـ لا شك أنه في ما يتعلق بالسلاح وضعه معارض للقانون.
ـ وهل هذا يعتبر سريا أو علنيا؟
ـ التشكيل علني والسلاح سري.
ـ لماذا كونت هذا النظام من قائد فصيلة وقائد ثاني الفصيلة فرئاسة للمنطقة فرئاسة للقاهرة بمجلس أعلى؟ وما الداعي إلى تكوين الجماعة من 7؟ لا بد أن ارتباطاً لهذا بالتكوين والتسليح.
ـ أنا، كانت مهمتي في ما يتعلق بالتكوين والتنظيم ولا علاقة لي بالتسليح.
ـ إذا طلبت منك أن تحضر لي شخصاً أغريه للقتل ما هي مسؤوليتك؟
ـ لا أوافق.
ـ وإذا وافقت؟
ـ غلط.
ـ ما هي مسؤوليتك في القانون؟
ـ يعتبر فاعلا أصليا.
ـ كيف تسمح لنفسك إذن بتنظيم نظام مسلح بوساطة غيرك، وأنت رجل تزاول مهنة المحاماة في البلاد؟
ـ الذي فهمته أن النظام قد يستفاد به في سائر الأقطار العربية والإسلامية الأخرى، ولا شك أن البلاد بحاجة إلى رجال مسلحين مدربين.
ـ قلنا إن التنظيم ينافي قوانين البلاد.
ـ أنا مهمتي التشكيل فقط لا أكثر.
ـ انتهينا إلى أنك بهذا تعتبر فاعلاً..
ـ نعم…
ـ قل لنا ما الغرض الحقيقي؟
ـ لم أفهم، أنه لعمل غير شرعي.
ـ قلت إن الغرض هو حماية الدعوة في مصر وغير مصر.
ـ نعم.
ـ قل لنا كيف تكون حماية الدعوة في مصر؟
ـ هناك جنود احتلال.
ـ جنود الاحتلال الحكومة تحاربهم علانية، وهناك جيش تنفق عليه الحكومة الملايين… فهل تنظيمك قوته كقوة الجيش؟ لو كنت مخلصاً بالفعل، وتريد المساهمة ساهم بنفسك وباب التطوع مفتوح في القوات المسلحة.
ـ هذا صحيح.. وفي ما يتعلق بهذا التشكيل لم يكن يقصد به أي وضع غير شرعي…
ـ إذن ما الداعي إلى إقامة النظام والإبقاء عليه؟
ـ علمنا أن الحكومة كانت تشجع التسليح للمقاومة في القتال؟
ـ علمت ممن؟
ـ من يوسف طلعت.
ـ ألم تعلم بما طلبته الحكومة من المرشد في مايو؟
ـ لا أعلم…
ـ ألم يقل لك يوسف طلعت أن الحكومة في مايو سنة 1953 طلبت من المرشد ثلاث مسائل؟
ـ لا.. ما هي هذه المسائل؟
ـ طلبت الحكومة من المرشد ثلاث مسائل: الأولى عدم التدخل في القوات المسلحة بضم أفراد منها لجماعة الإخوان المسلمين في تشكيلات، حتى لا تتكون في داخل القوات المسلحة قوتان يكون مصيرها النهائي حرب أهلية بين أفراد القوات المسلحة..
المسألة الثانية نفس الطلب بالنسبة إلى قوات الأمن.
ثالثاً حل الجهاز السري وتسليم جميع أسلحته لسبب أن السرية معناها أن هناك سياسة أخرى غير المعلنة تبطنها الجماعة.. فإذا كانت عندكم سياسة أخرى غير المعلنة قل لنا عليها؛ لأنه لا سرية في الدين ولا الدعوة.
ـ لم أبلغ بهذا.
ـ بماذا بلغت إذن؟
ـ يوسف طلعت قال لي إن الحكومة تشجع الفدائيين في القتال.
ـ ناقشته في كلامه؟
ـ لا.
ـ لم لم تناقشه؟
ـ قال لي معلومات أكيدة…
طيب، إذا كانت الحكومة تشجع على التسليح ضد الإنجليز في القتال، فما هو الداعي إلى تجنيد الإخوان وتسليحهم في السر؟
ـ لم يكن هناك سر.. كنا نعمل على المكشوف.
ـ والسلاح؟
ـ لا أعرف عنه شيئاً…
ـ من هم رؤساء الفصائل؟
ـ الأستاذ عبد العزيز أحمد وكمال السنانيري والفيومي وهنداوي دوير ومحمد شديد ومحمد عبد اللطيف وسيد أبو سالم…
ـ متى أعيد تنظيم الجهاز السري؟
ـ أعيد تنظيمه على أساس..
ـ أنا سألتك متى وأريد إجابة عن سؤالي.
ـ في حوالي أواخر فبراير..
ـ وقبل هذا؟
ـ كان منظماً ولكن أعيد تنظيمه.
ـ من كان رئيسه؟
ـ عبد الرحمن السندي، وبعده يوسف طلعت.
ـ كيف أعيد تنظيمه في أواخر فبراير 1954 مع أنكم في المعتقلات ولم تخرجوا إلا في أواخر مارس؟
ـ أنا متأسف.. صحيح كنا وقتها في المعتقلات، وحصل تنظيم الجهاز على أساس قواد الفصائل.
ـ متى إذن؟
ـ أواخر مارس.
ـ قل لنا الخطة التي كنتم تريدون تنفيذها.
ـ الخطة كانت على أساس أن النظام مقصود به..
ـ أنا أتحدث عن تنفيذ الخطة…
ـ فيما يتعلق بالتنفيذ لم نتعد مرحلة الإعداد.
ـ اشرح للمحكمة الخطوات.
ـ الذي حدث أننا أخذنا في دور الإعداد والتكوين من بعد مارس 54، وظل هذا الإعداد من الناحية التنفيذية ومن ناحية تجميع الأفراد وإعدادهم الإعداد الثقافي والروحي ومن ناحية أخرى..
ـ الثقافي يدخل فيه المنشورات من الجهاز الإداري؟
ـ هذه مسائل دعاية.
ـ ثقا
ـ ثقافة.. وتعليم.. ووعي.. وإدراك.. وناحية إدارية تتبع الجهاز الإداري، قل لنا ما هي المنشورات التي كنت توزعها على الأقسام؟
ـ مخصص لها مركز دعاية في المركز العام.
ـ وتوزع عن طريق من؟
ـ عن طريق رؤساء المناطق…
ـ وكيف كانت تطبع؟
ـ هناك لجنة اسمها لجنة الدعاية في المركز العام كانت تؤلف المنشورات، ثم تسلك أحد أمرين: إما أن تطبعها في جهاز الطباعة الخاص بالنظام الخاص، أو يكلف بها أفراد آخرون لتطبع في مطابع عامة.
ـ من الذي كان يحررها؟
ـ كان هناك لجنة برئاسة سيد قطب…
ـ لماذا اختبأت عندما ضرب محمود عبد اللطيف جمال عبد الناصر؟
ـ أنا اختبأت يوم تحديد إقامة عبد القادر عودة.
ـ وما شأنك به؟
ـ زميلي في المكتب.
ـ يمكن موضوعه لا يخصك.
ـ يصح، لكن ما دام عبد القادر عودة محدد إقامته ومهدد باعتقاله في أي وقت لم أستطع الانتظار.
ـ مم تخاف لتختبئ؟
ـ من الاعتقال. لا أريد أن أعتقل.
ـ وهل ستعتقل إذا لم تفعل شيئاً؟
ـ أنا اعتقلت كثيراً، والإخوان يختبئون…
ـ ماهي الخطة أو الترتيبات التي وضعت في المكتب (يقصد مكتب إرشاد الإخوان المسلمين) وأصدرت إلى الجهاز السري؟
ـ الخطة أبلغها لي يوسف طلعت.
ـ اذكر الخطة بالتفصيل.
ـ كان على أساس الاتصال والتفاهم القائم بين الإخوان من ناحية، وبين اللواء محمد نجيب من ناحية أخرى. واللواء محمد نجيب معه كثير من وحدات الجيش…
ـ كيف علمت أن معه كثيراً من وحدات الجيش؟
ـ هذا الذي ذكره لي يوسف طلعت.
…
ـ كانت الخطة على أساس أن القوات الموالية لنجيب مع قوات الإخوان الاثنان يقومان معاً بمظاهرات، فإذا قامت هذه المظاهرات وحصلت اعتداءات عليها، فإن هذه القوات ترد هذا الاعتداء بكافة السبل.
ـ كيف؟
ـ كالاغتيالات.
ـ اغتيال من؟
ـ المعارضون.
ـ من؟
ـ من أعضاء مجلس قيادة الثورة.
ـ تحدث بالأسماء.
ـ منهم جمال عبد الناصر وأسماء أخرى… الذي علمته اغتيال المجلس كله، إذا حصل اعتداء أو ضرب.
ـ يعني الإخوان كانوا يريدون القيام بحركة انقلاب مسلح؟
ـ بالاتفاق مع الجيش…
ـ أنت أعطيت حزام ديناميت لهنداوي؟
ـ كان المقصود به حصول مثل هذا الاعتداء… فإذا أمكن الحزام يستعمل.
ـ ضد من؟
ـ ضد أعضاء مجلس القيادة.
ـ ماذا سيفعل؟
ـ هذا حزام متفجر.
ـ يلبسه الشخص؟
ـ للتفجير.
ـ أعطيت الحزام لمن؟
ـ لهنداوي.
ـ قائد فصيلة إمبابة؟
ـ نعم.
ـ أنت قلت أن لا علاقة لك بالأسلحة.
ـ نعم.. أعطاه لي يوسف طلعت.
ـ أنت كذبت كلامك؛ لأنك قلت أن لا علاقة لك بالأسلحة، وفي هذه النقطة قلت إنك ذهبت إلى هنداوي دوير وطلبت منه ماذا؟
ـ ذكرت له أن هذا الحزام المقصود به استعماله أثناء حصول الاعتداء على القوات أو الحركة بعد حدوثها.
ـ ويعطيه لمن؟
ـ يتصرف؛ لأنه قائد فصيلة.
ـ يتصرف في أي حدود؟
ـ في حدود الخطة الموجودة.
ـ هل أعطيته الخطة؟
ـ الخطة التي قلتها بالتفصيل…
ـ وقلت لهنداوي ماذا سيفعل بالحزام؟
ـ يعطي الحزام للشخص الذي يثق فيه لتفجيره.
ـ ضد الأشخاص أو الشخص من أعضاء مجلس القيادة الذين كانوا يتعرضون للإخوان.
ـ حددت له الأشخاص؟
ـ كان الكلام بصفة عامة.. إنما حصل تحديد على أساس أنه الرئيس جمال.
ـ متى حصل هذا التحديد؟
ـ في أثناء شرح الخطة.
ـ في أي يوم؟
ـ لا أتذكر بالضبط.
ـ طبعاً هذه مسألة عادية بالنسبة إليك. كل يوم تأخذ أحزمة وتعطي أوامر.. يعني المسألة روتينية لدرجة أنك أخذت الحزام وفيه متفجرات، وقلت لواحد أن يكلف واحداً ليرتديه، ويعانق الرئيس جمال عبد الناصر ويفجره. هذه الأشياء لا تتذكر وقتها؛ لأنك تستعملها باستمرار.
ـ لا .. أبداً.. هذه أول مرة في الحقيقة…
ـ طيب، قام الإخوان بثورة شعبية ومظاهرات والجيش عارضها وتدخل، فجاءت قوات محمد نجيب لتضرب الجيش، هذا يقتل هذا، وهذا يقتل هذا، وانهزمت الحكومة وانتصر الإخوان… ما هو الترتيب الذي سيعمل لإدارة دفة هذه البلاد؟
ـ هذه المسألة كانت من اختصاص المجلس العالي أو مكتب الإرشاد.
ـ ألا تهمك في شيء.. في كثير أو قليل مثل هذه المسألة؟
ـ لا شك أنها تهمني، إنما كل واحد يلزم مكانه المخصص له.
ـ إلى أن تتم العملية؟
ـ نعم.
ـ وبعد أن تتم العملية؟
ـ……………
على الرغم من هذه الاعترافات، وعلى الرغم من الأدلة التي تدين الإخوان في هذه العملية، ومنها الكميات الكبيرة من الأسلحة التي تم ضبطها في أوكار الجماعة، ظل الإخوان لسنوات مصرين على إنكار علاقتهم بها، واعتبارها تمثيلية مدبرة من عبد الناصر نفسه للتخلص منهم وتصفيتهم، وحتى قادة الإخوان الذين اضطروا إلى الاعتراف بعلاقة النظام الخاص بالحادث، مثل أحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وصالح عشماوي ومحمود عبد الحليم وأحمد رائف وفريد عبد الخالق ويوسف القرضاوي ومحمد مهدي عاكف، أنكر معظمهم أن تكون لقيادة الجماعة علاقة به، وأنه عمل فردي فكر فيه هنداوي دوير لوحده، ودفع به إلى محمود عبد اللطيف موهماً إياه بأنه تكليف من قيادة الجماعة، ودوير هو رئيس عبد اللطيف في النظام الخاص، وله عليه حق السمع والطاعة.
وهي السياسة نفسها التي كان حسن البنا يتبعها مع عمليات النظام الخاص في عهده؛ فالبنا أنكر علاقته بل معرفته بها كلها، واعتبرها عمليات فردية وتصرفات شخصية تمت من دون علمه ومن دون إذنه، وأنها وإن ثبت على مرتكبيها أنهم من الإخوان ومن النظام الخاص التابع للجماعة وله هو شخصياً، باعتباره رئيسه الأعلى، فإنه لا يمكن أن تتخذ سبباً لإدانة الجماعة ومرشدها، وقد أصدر في هذا بيانات مثل “هذا بيان للناس” الذي أثنى فيه على النقراشي واستنكر قتله، وبيانه الشهير “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين” الذي تبرأ فيه من محاولة نسف محكمة الاستئناف بالقاهرة.
- سيد قطب
ينظر إلى سيد قطب على أنه المؤسس الأيديولوجي للإسلام الراديكالي/ الجهادي الحديث والمعاصر، حيث شكلت أفكاره القاعدة التي قامت عليها جميع التنظيمات الجهادية والتكفيرية التي ظهرت في السبعينيات وما بعدها من “جهاد” و”تكفير وهجرة” و”توقف وتبين”.
انضم قطب إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1953، وتولى رئاسة جريدة “الإخوان المسلمون”، وكان من ضمن المعتقلين في حادث المنشية، وحكم عليه بالأشغال الشاقة 15 سنة لإشرافه على تحرير النشرة السرية للنظام الخاص “الإخوان في المعركة”.
في السجن، كان قطب شاهداً على التعذيب الذي تعرض له الإخوان، وإن كان هو نفسه لم يتعرض لشيء منه، وهناك حرّر فصول “معالم في الطريق”: الكتاب الذي يوصف بأنه “مانيفستو” الحركة الجهادية التي انفجرت في ستينيات القرن الماضي، وما تزال شظاياها منثورة حتى اليوم.
وقد سرب قطب نسخة مخطوطة من الكتاب عام 1962، وظل الإخوان يتداولونها سرّاً في ما بينهم، وفي عام 1964 صدرت الطبعة الأولى عن مكتبة وهبة في القاهرة بعد قراءته وإجازته للنشر من قبل حسن الهضيبي، الذي أثنى عليه، وقال إن هذا الكتاب “قد حصر أمله كله في سيد، وأنه الأمل المرتجى للدعوة” بحسب زينب الغزالي في مذكراتها “أيام من حياتي”.
وتمثل أفكار قطب امتداداً لأفكار حسن البنا؛ فالاثنان سارا على نفس النهج، وضمن نفس الإطار العقائدي والمنهجي، غير أن قطب تجاوز / تميز عن البنا في مسألة واحدة هي التكفير: تكفير مسلمي اليوم. فبينما كان البنا يعتقد بإسلام الناس، وبوجود الجماعة / الأمة المسلمة، ويرى أنهم فقط ابتعدوا عن الدين، وأصبحوا غافلين عنه، وهجروه في مناهج تفكيرهم وفي سلوكهم، ولكنهم في عقيدتهم ما زالوا مسلمين، جاء قطب ليقرر أنه لا يوجد اليوم مسلمون، وأن الجماعة المسلمة قد انقطع وجودها من على الأرض منذ قرون كثيرة، وأننا نعيش في جاهلية كاملة: أي جاهلية عقيدة، وجاهلية كفر.
“الأمة المسلمة ليست أرضاً كان يعيش فيها الإسلام، وليست قوماً كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي، إنما الأمة المسلمة جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي…وهذه الأمة، بهذه المواصفات، قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعاً”.
“نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!!”.
“هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية.. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، الشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله”.
“المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية.. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار “المجتمع الجاهلي” جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!”
“الناس ليسوا مسلمين ـ كما يدعون ـ وهم يحيون حياة الجاهلية، وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئا.. ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين”.
“على أصحاب الدعوة الإسلامية حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة ـ حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون! ـ يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو “أولاً” إقرار عقيدة: “لا إله إلا الله” بمدلولها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله وحده في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم وإقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعها وواقعهم”.
“المجتمع المسلم لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله.. لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور، ولا تدين بالعبودية لغير الله في العبادات والشعائر.. ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع.. ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة.. تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله ـ معه أو من دونه ـ وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله ـ معه أو من دونه ـ وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله ـ معه أو من دونه ـ عندئذ ـ وعندئذ فقط ـ تكون هذه الجماعة مسلمة، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلما كذلك.. فأما ما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله… فإنهم لا يكونون مسلمين.. وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلماً”.
“لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقوانينه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية، وليس بعد الحق إلا الضلال”.
هذه هي نقطة الاختلاف الوحيدة بين سيد قطب وحسن البنا، وفي ما عدا ذلك فهما يتشاركان في نفس التصور والرؤية لمنهجية التغيير/ البعث الإسلامي وآلياته، وعلى رأسها “الجهاد” بمفهومه العنفي / القتالي وضرورته لأي حركة إسلامية أو “عصبة مؤمنة” بالتعبير القطبي تسعى إلى إقامة السلطة الإسلامية الشرعية القادرة على أسلمة الدولة والمجتمع بشكل كامل.
جاء في الفصل الرابع من “المعالم” تحت عنوان “الجهاد في سبيل الله“:
الذي يدرك طبيعة هذا الدين… يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف ـ إلى جاب الجهاد بالبيان ـ ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية ـ بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح “الحرب الدفاعية” كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام ـ إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير “الإنسان” في “الأرض”.. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة “دفاع” ونعتبره “دفاعاً عن الإنسان” ذاته، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره.. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات، كما تتمثل في الأنظمة السياسية، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان!
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة “الدفاع” نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في “الأرض” بالجهاد، ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان…
إن الجهاد ضرورة للدعوة، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه، ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري! سواء كان الوطن الإسلامي ـ وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام ـ آمناً أم مهدداً من جيرانه، فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا تلك السلم الرخيصة، وهي مجرد أن يؤمّن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله؛ أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام ـ بأمر من الله ـ لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأواسطها.. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم: “فاستقر أمر الكفار معه ـ بعد نزول براءة ـ على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام.. فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه.. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن… وخائف محارب”..
وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام هجوم المستشرقين الماكر!…
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي، ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء، ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود؟!…
إن الذين يلجؤون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة، بل لم يعد للمسلمين إسلام! ـ إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير “الإنسان” في “الأرض” من كل سلطان إلا سلطان الله، ليكون الدين كله لله ـ فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام!
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية: “فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله، فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً. وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا. الذين امنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفا”…
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده.. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله ـ القائمة على قاعدة العبودية للعباد ـ أن تحاول سحقه، دفاعاً عن وجودها ذاته، ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه.. هذه ملابسة لا بد منها، تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً…
هذا كله حق.. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً…ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة.. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء، لإنقاذ “الإنسان” في “الأرض” من العبودية لغير الله، ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية، تاركاً “الإنسان”.. نوع الإنسان.. في “الأرض”… كل الأرض… للشر والفساد والعبودية لغير الله.
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحرري العام! ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته، بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!…
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية “الإنسان” في الاختيار، وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة، المفسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج “الناس” من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين، وتحرير الناس أجمعين.. وعبادة الله وحده لا تتحقق ـ في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي ـ إلا في ظل النظام الإسلامي، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم، حاكمهم ومحكومهم، أسودهم وأبيضهم، قاصيهم ودانيهم، فقيرهم وغنيهم، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء.. أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد؛ لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد.. وهو من خصائص الألوهية، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه، فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، سواء ادعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء، وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها!
والإسلام ليس مجرد عقيدة، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان، إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس، والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام، وهذا… معنى أن يكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
*- تنظيم 65
تأسست النواة الأولى لهذا التنظيم الذي يعرف أيضاً باسم “تنظيم سيد قطب” عام 1956 على يد مجموعة من شباب الإخوان الذين سعوا إلى إعادة إحياء صفوف الجماعة، والسعي إلى الانتقام من عبد الناصر ونظامه بعد الضربة الموجعة التي تلقاها الإخوان بعد حادث المنشية.
تزعم المجموعة عبد الفتاح إسماعيل، وكان من المقربين من حسن البنا في الأربعينيات، والشقيق الأكبر للشيخ الأزهري علي إسماعيل: المنظر الأول لفكر التكفير والهجرة الذي تبناه شكري مصطفى وأقام عليه جماعته عام 1971.
وفي عام 1957، التقى عبد الفتاح إسماعيل في الحج بزينب الغزالي: رئيسة جماعة السيدات المسلمات، ومن الدائرة المقربة من المرشد حسن الهضيبي، وأقنعها بالفكرة، وارتبطا معاً “ببيعة مع الله على الجهاد والموت في سبيل دعوته، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان، ونفاصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أياً كان وضعهم ومقامهم”.
وكانت زينب الغزالي قد انضمت إلى جماعة الإخوان عام 1948، بعد أن التقت بحسن البنا ووجدت أنه “الإمام الذي يجب أن يبايع من المسلمين جميعاً على الجهاد لعودة المسلمين إلى مقعد مسؤوليتهم، وإلى وجودهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه، وهو مكان الذروة في العالم، يقودونه إلى حيث أراد الله، ويحكمونه بما أنزل الله” كما كتبت في مذكراتها “أيام من حياتي”.
بعد العودة إلى مصر، استأذن عبد الفتاح إسماعيل وزينب الغزالي الهضيبي في بدء العمل على تجميع الإخوان وإعدادهم للجهاد في سبيل الله.
تقول زينب الغزالي في مذكراتها “أيام من حياتي“:
“كانت خطة العمل تستهدف تجميع كل من يريد العمل للإسلام لينضم إلينا… فلما أردنا أن نبدأ العمل كان لابد من استئذان الأستاذ الهضيبي، باعتباره مرشداً عاماً لجماعة الإخوان؛ لأن دراساتنا الفقهية حول قرار الحل انتهت إلى أنه باطل؛ لأن عبد الناصر ليس له ولاء ولا تجب له طاعة على المسلمين، حيث إنه يحارب الإسلام ولا يحكم بكتاب الله تعالى.. والتقيت بالأستاذ الهضيبي لأستأذنه في العمل باسمي وباسم عبد الفتاح إسماعيل، وأذن لنا في العمل بعد لقاءات عديدة شرحت له فيها الغاية… وكان أول قرار لبدء العمل هو أن يقوم الأخ عبد الفتاح عبده إسماعيل بعملية استكشاف على امتداد مصر كلها… والمقصود من هذا أن نتبين من يرغب في العمل من المسلمين ومن يصلح للعمل معنا، مبتدئين بالإخوان المسلمين لجعلهم هم النواة الأولى لهذا التجمع”.
في هذا التوقيت، كانت هناك مجموعة ثانية من شباب الإخوان تحاول هي أيضاً تجميع الإخوان من جديد وتنظيم صفوفهم للإعداد لجولة أخرى من المواجهة مع النظام الناصري، وكان على رأس هذه المجموعة علي عشماوي، فتم التواصل بين المجموعتين والاتفاق على توحيد العمل والاندماج في كيان تنظيمي واحد هو ما سيعرف لاحقاً بـ “تنظيم 65”.
بعدها، تم استقطاب ثلاث مجموعات أخرى من فلول الإخوان كانوا يتحركون في أماكن مختلفة من محافظات مصر، وشكلت لجنة خماسية تقود التنظيم مكونة من عبد الفتاح إسماعيل، وصبري عرفة الكومي، وأحمد عبد المجيد، ومجدي عبد العزيز، وعلي عشماوي.
وقسمت المهام على النحو التالي:
ـ القيادة.
ـ الاتصال بالمرشد.
ـ الاتصال السجن.
ـ الاتصال بإخوان الخارج.
ـ القسم المالي.
ـ قسم المعلومات.
ـ مجموعة الأبحاث العلمية.
ـ الرياضة والتدريب.
كما تم البدء بجمع السلاح وتخزينه.
التواصل مع سيد قطب
في عام 1962، تم التواصل لأول مرة مع سيد قطب في سجنه عبر زينب الغزالي وعبد الفتاح إسماعيل على أساس أنهم مجموعة من الإخوان منتظمين في برنامج تربوي، ويريدون الاسترشاد برأيه في المواد التي يدرسونها دون أن يتطرقوا إلى موضوع التنظيم السري ومخططاته وأسلحته.
تقول زينب الغزالي في مذكراتها “أيام من حياتي“:
في عام 1962، التقيت بشقيقات سيد قطب بالاتفاق مع الأخ عبد الفتاح إسماعيل وبإذن من الأستاذ حسن الهضيبي، المرشد العام للإخوان المسلمين، للاتصال بسيد قطب في السجن لأخذ رأيه في بعض بحوثنا والاسترشاد بتوجيهاته.
طلبت من حميدة قطب أن تبلغ الأخ سيد قطب تحياتنا ورغبة الجماعة المجتمعة لدراسة منهج إسلامي الاسترشاد برأيه.. وأعطيتها قائمة بالمراجع التي ندرسها، وكان فيها تفسير ابن كثير… وكتب في التوحيد لابن عبد الوهاب وفي ظلال القرآن لسيد قطب، وبعد فترة رجعت إلي حميدة… وأعطتني ملزمة من كتاب قالت إن سيد يعده للطبع واسمه “معالم في الطريق”.. وكان سيد قطب قد ألفه في السجن، وقالت لي شقيقته: إذا فرغتم من قراءة هذه الصفحات سآتيكم بغيرها.
وعلمت أن المرشد اطلع على ملازم هذا الكتاب وصرح لسيد قطب بطبعه، وحين سألته قال لي: على بركة الله.. إن هذا الكتاب حصر أملي كله في سيد.. لقد قرأته وأعدت قراءته وأعدت قراءته، إن سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن إن شاء الله، وأعطاني المرشد ملازم الكتاب فقرأتها، فقد كانت عنده لأخذ الإذن بطبعها، وقد حبست نفسي في حجرة بيت المرشد حتى فرغت من قراءة “معالم في الطريق”.
وأخذنا نعيد الدراسة والبحث من جديد في صورة نشرات قصيرة توزع على الشباب، ليدرسوها ثم تدرس بتوسع في حلقات، وكانت الأفكار متفقة والغايات غير مختلفة، فانسجمت الدراسة مع الوصايا والصفحات التي كانت تأتينا من سيد قطب، وهو داخل السجن…
وقررنا فيما قررنا، بتعليمات من سيد قطب وبإذن الهضيبي، أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد والغرس لعقيدة التوحيد في النفوس، والقناعة بأنه لا إسلام إلا بعودة الشريعة الإسلامية وبالحكم بكتاب الله وسنة رسوله، لتصبح شريعة القرآن مهيمنة على كل حياة المسلمين، قررنا أن يستغرق برنامجنا التربوي ثلاثة عشر عاماً، عمر الدعوة في مكة، على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم الإخوان الملتزمون بشريعة الله وأحكامه، فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية.. والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع، على أن إقامة الحدود مؤجلة ـ مع اعتقادها والذود عنها ـ حتى تقوم الدولة، وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوفر فيها اليوم صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاماً كاملاً.
ويقول أحمد عبد المجيد: أحد كوادر التنظيم، في مذكراته “الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965” الصادرة عام 1991:
“في هذه الفترة وصلت إلينا مخطوطات من الشهيد سيد قطب من السجن، اذكر أن بها فكرة عن تكوين الكيان المسلم وتربيته، وفكرة عامة عن المخططات الصهيونية العالمية، والصليبية الدولية، ومحاربتها للإسلام، ووسائلها وعملائها في المنطقة، وبعض الأسماء كذلك، وكان الكلام بها في غاية الخطورة وقتها… وكان عنوان هذه المخطوطات “خيوط خطة”. وأرسل لنا كذلك مذكرات من الشهيد محمد يوسف هواش كانت بعنوان “جولة في العقيدة والحركة”، وكانت مكتوبة بروحانية عالية، وموضوعها في غاية الدقة والأهمية للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية، حيث يصف فيها حزب الله ومواصفاته، وحز الشيطان وحدوده كذلك وكيفية التعامل معه… وكانت هذه المذكرات تذهب للمرحوم الأستاذ المرشد حسن الهضيبي أولاً لقراءتها ومراجعتها، ثم تصلنا بعد ذلك منه”.
ويقول أحمد عبد المجيد، إن سيد قطب وضع لهم منهجاً دراسياً وتربوياً للسير عليه يركز أساساً على العقيدة، ثم الحركة بهذه العقيدة في تجمع حركي، ثم الدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية وأعوانهم لضرب الإسلام ووسائلهم في ذلك، ومن الكتب والمراجع التي احتواها هذا المنهج:
ـ رسالة الإيمان ورسالة العبودية لابن تيمية.
ـ العقائد لحسن البنا.
ـ المصطلحات الأربعة ومبادئ الإسلام والإسلام والجاهلية لأبي الأعلى المودودي.
ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي.
ـ من كتاب “في ظلال القرآن” لسيد قطب: تفسير السور التالية (المقدمة بصفة خاصة):
الأنعام ـ الأعراف ـ يونس ـ هود ـ يوسف ـ المائدة ـ النساء ـ القرة ـ آل عمران بنفس الترتيب؛ لأن السور الخمس الأولى مكية، وتتناول العقيدة ومحاربة أهل الباطل لها ولأتباعها من الرسل الكرام، والسور الباقية مدنية تتناول الجوانب التشريعية والتطبيقية في وجود الدولة الإسلامية.
ـ كتب سيد قطب: معالم في الطريق، هذا الدين، المستقبل لهذا الدين، خصائص التصور الإسلامي، الإسلام ومشكلات الحضارة، العدالة الاجتماعية في الإسلام.
ـ كتب محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، جاهلية القرن العشرين، هل نحن مسلمون، معركة التقاليد، التطور والثبات في النفس البشرية، في النفس والمجتمع.
ـ في السيرة: كتاب السيرة لابن هشام.
ـ في الحديث: رياض الصالحين.
ـ في الفقه: فقه السنة لسيد سابق وسبل الإسلام للإمام الصنعاني.
ـ الكتب السياسية: بروتوكولات حكماء صهيون، الغارة على العالم الإسلامي (مترجم)، الإسلام في العصر الحديث (مترجم)، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي لمحمد البهي، زعماء الإصلاح في العصر الحديث لأحمد أمين، حاضر العالم الإسلامي لشكيب أرسلان”.
وظل قطب يمدهم من السجن بمنشورات تتضمن أفكاره وتوجيهاته عن تكوين الفرد المسلم وتربيته وإعداده للعمل للدين والجهاد في سبيل الله، منها رسالة مطولة من 12 صفحة عن “وجوب تصحيح العقيدة والعمل والحركة بهذا الدين” شكلت مع كتابه “معالم في الطريق” الميثاق الفكري للتنظيم.
يقول أحمد رائف في كتابه “البوابة السوداء: صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين” الصادر عام 1988:
“وأخذت أفكار الشهيد سيد قطب طريقها إلى تنظيم الإخوان الرسمي لأول مرة، حتى صارت بعد ذلك الطابع الأساسي لفكر الإخوان المسلمين”.
الإفراج عن سيد قطب
في 26 مايو 1964، خرج قطب من السجن بإفراج صحي بعد وساطة من الرئيس العراقي عبد السلام عارف، فتواصل معه عبد الفتاح إسماعيل، وأخبره بأنهم شكلوا تنظيماً سرياً بعلم المرشد، وبأن عددهم ما بين 300 و350 فرداً، ويملكون أسلحة وذخائر ومتفجرات، ويخططون للقيام بعمل عنيف لتغيير نظام الحكم.
يقول أحمد عبد المجيد في مذكراته “الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965”:
“في عام 1964 خرج الشهيد سيد قطب من السجن بإفراج صحي، وذهب إليه الشيخ عبد الفتاح مهنئاً، وتكلما سوياً في بعض أمور الدعوة وطبيعة العمل الحالي، وأفهمه باختصار أنه على صلة ببعض الشباب الذين عندهم رغبة للعمل الإسلامي ويبحثون عمن يرشدهم ويوجههم، ثم طلب من الشيخ عبد الفتاح إسماعيل مقابلتنا، وتقابلنا معه في صيف 1964… واستقبلنا استقبالاً طيباً كأنه يعرفنا منذ سنوات طوال، وتحدث معنا حديثاً شيقاً بأسلوب جذاب يشد الانتباه، وسمعنا منه مفاهيم جديدة لأول مرة… وضرب لنا موعداً نلتقي به في منزله بعد ذلك، وتم اللقاء وتكررت اللقاءات بعد ذلك… وكانت هذه اللقاءات قاصرة على ما نسمعه منه من توجيهات عامة أو ما نعرضه عليه من استفسارات أو قضايا، وكنا نتلاقى خارج هذه الجلسة لمناقشة شؤون التنظيم المختلفة. وبعد عدة لقاءات اتفقنا على أن نفاتحه في أن يشاركنا في الأمر كله، ويوجهنا توجيهاً كاملاً، وبعد أن استمع إلى وجهة نظرنا هذه قال: ليس لدي مانع، ولكن قبلها… لا بد من أخذ إذن بذلك من الأستاذ المرشد”.
وبرر قطب موافقته على قيادة التنظيم الجديد في اعترافاته التي خطها في السجن، والتي صدرت لاحقاً على حلقات في جريدة “المسلمون”، ثم في كتيب بعنوان “لماذا أعدموني” عام 1980:
“لقد امتلأت نفسي بضرورة وجود حركة إسلامية كحركة الإخوان المسلمين في هذه المنطقة وضرورة عدم توقفها بحال من الأحوال… الصهيونية والصليبية الاستعمارية تكره هذه الحركة وتريد تدميرها.. ومخططاتها الواضحة من كتبها ومن إجراءاتها ومن تقريراتها ومن دسائسها تقوم كلها على أساس إضعاف العقيدة الإسلامية، ومحو الأخلاق الإسلامية، وإبعاد الإسلام عن أن يكون هو قاعدة التشريع والتوجيه؛ وذلك للوصول إلى تدمير العقائد والأخلاق، وبالتالي تدمير المقومات الأساسية للمجتمع في هذه المنطقة وإحداث انهيار يسهل معه تنفيذ تلك المخططات.. ووقف الإخوان حقق الكثير من هذه المخططات، وساعد على نشر الأفكار الإلحادية والانحلال الأخلاقي…
إن الحركة الإسلامية يجب أن تستمر، إن القضاء عليها في مثل تلك الأحوال يعد عملاً فظيعاً جداً يصل إلى حد الجريمة. إن الأخطاء الحركية يمكن أن تُستبعد، ويمكن الاستفادة من التجربة في تجنبها.
وانتظم العمل بعد ذلك مع قطب الذي أصبح أميراً للتنظيم.
التسليح والتدريب
يقول سيد قطب في اعترافاته:
“فأما التدريب، فقد عرفت أنه موجود فعلاً من قبل أن يلتقوا بي… وأما السلاح، فكان موضوعه له جانبان:
الأول: أنهم أخبروني… أنه نظراً لصعوبة الحصول على ما يلزم منه حتى للتدريب، فقد أخذوا في محاولات لصنع بعض المتفجرات محلياً، وأن التجارب نجحت وصنعت بعض القنابل فعلاً، ولكنها في حاجة إلى التحسين والتجارب المستمرة..
والثاني: أن علي عشماوي زارني على غير ميعاد، وأخبرني أنه كان منذ حوالي سنتين قبل التقائنا قد طلب من أخ في دولة عربية قطعاً من الأسلحة، حددها له في كشف، ثم ترك الموضوع من وقتها، والآن جاءه خبر أن هذه الأسلحة سترسل ـ وهي كميات كبيرة حوالي عربة نقل ـ وأنها سترسل عن طريق السودان… ولما كان الخبر مفاجئاً، فيكون ممكناً البت في شأنه حتى نبحثه مع الباقين… لذلك لم يتم تقرير شيء في الأمر، وفي موعد آخر كان الخمسة عندي وتقرر تكليف علي بوقف إرسال الأسلحة من هناك حتى يتم الاستعلام من مصدرها عن مصدر النقود التي اشتريت بها، فإن كان من غير الإخوان ترفض، والاستفهام كذلك عن طريق شرائها دفعة واحدة أو مجزأة وطريقة إرسالها، وضمانات أنها مكشوفة أم لا؟ وبعد ذلك يقال للأخ المرسل ألا يرسلها حتى يخطره بإرسالها.
ومضى أكثر من شهر ـ على ما أتذكر ـ حتى وصل للأخ علي رد مضمونه الباقي في ذاكرتي: أن هذه الأسلحة بأموال إخوانية من خاصة مالهم، وأنهم دفعوا فيها ما هم في حاجة إليه لحياتهم… وأنها اشتريت وشحنت بوسائل مأمونة..
كشف التنظيم
يقول أحمد عبد المجيد في “الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965”:
“مع شهر أبريل 1965 بدأت دلائل تنذر بالخطر، وتنبئ بأن الحكومة تدبر أمراً ما للإخوان، وبدأ هذا الأمر مع توالي المعلومات، ويتأكد يوماً بعد يوم، ونذكر من الدلائل ما يلي:
ـ بعد ظهور كتاب “المعالم” بدأت أجهزة المباحث تنشط خوفاً من وجود تجمع على هذه الأفكار التي وردت فيه، أو الخوف من أن يحدث تجمع على ذلك، خاصة مع ورود فقرات منه تدعو لذلك صراحة، وبدأ فعلاً رجال المباحث يستدعون بعض الإخوان في مناطق مختلفة، يناقشونهم ويستفسرون منهم، وكثيراً ما كان محور المناقشة هو كتاب “المعالم” وما به من أفكار…
ـ نشرت إحدى المجلات الأمريكية عن كتاب “جاهلية القرن العشرين” للأستاذ محمد قطب، وكتاب “معالم في الطريق” للأستاذ سيد قطب، وكتبت المجلة تحذر من الكتابين والكتابين وتصفهما بالتعصب…
هذه وغيرها من الأخبار والإشاعات بدأت تثير عندنا الهواجس، حتى وصلت لاعتقال بعض الإخوان في شهر يوليو 1965، وبعدهم كان اعتقال الأستاذ محمد قطب. وعند شعورنا بالقلق والخشية من تكرار ضربة مثل ضربة 1954… ثم الخوف على هذا التنظيم الوليد من وأده في مهده، كل هذه الاعتبارات وغيرها جعلتنا نفكر: ما السبيل؟ هل نصبر ونسلم أنفسنا أم إن هناك وسيلة أخرى لرد هذا الاعتداء ودفعه وسحقه إن أمكن…
وتم بناء على ذلك، عرض الموضوع ومناقشته مع الأستاذ سيد، وكان ملخص ما ورد في عدة جلسات ما يلي:
كانت هناك موافقة مبدئية من الجميع على رد الاعتداء والدفاع عن النفس… وبدأ السؤال عن الإمكانية والأفراد الذين يكونون على استعداد وذوي كفاءة معينة، وكان أكثر المتحمسين لذلك علي عشماوي، والذي عرض إمكانيات الأفراد وعددهم واستعدادهم، واتضح بعد ذلك على الاعتقال أن كلامه كان مبالغاً فيه…
وبدأت معاودة الاتصال بالإخوان بالخارج لتسلم السلاح السابق الاتفاق عليه مع علي عشماوي، وبعد التحري والتأكد أن تجهيزه تم بعيداً عن أي أحد، وتم بأيدي الإخوان وحدهم، وأنه موجود في أفريقيا، وممكن الوصول عن طريق السودان إلى أسوان وعمل ترتيب لاستلامه بدقة متناهية. ومن ناحية أخرى، بدأ حصر العمليات التي ستتم داخل مصر، وتحديد كل مجموعة لها وتمرينهم عليها، وبدأت عمليات التدريب على السلاح والمتفجرات وغير ذلك…
وأثناء التجهيز والاستعداد لذلك تم اكتشاف التنظيم بصورة متسلسلة عجيبة أشبه بالروايات البوليسية، دون خطأ أو تقصير أحد… ولكن كيف حدث ذلك؟ وفي هذا التوقيت بالذات؟ لقد تم ذلك بقدر الله لحكمة لا يعلمها إلا المولى سبحانه…”.
وعن هذا التجهيز والاستعداد يقول سيد قطب في اعترافاته:
“لم يكن في أيدينا من وسائل رد الاعتداء التي يبيحها لنا ديننا سوى القتال والقتل: أولاً: لرد الاعتداء حتى لا يصبح الاعتداء على الحركة الإسلامية سهلاً يزاوله المعتدون في كل وقت، وثانياً: لمحاولة إنقاذ وإفلات أكبر عدد ممكن من الشباب المسلم النظيف المتماسك الأخلاق في جيل كله إباحية وكله انحلال وكله انحراف في التعامل والسلوك…
لهذه الأسباب مجتمعة، فكرنا في خطة ووسيلة ترد الاعتداء.. والذي قلته لهم ليفكروا في الخطة والوسيلة باعتبار أنهم هم الذين سيقومون بها بما في أيديهم من إمكانيات لا أملك أنا معرفتها بالضبط وتحديدها.. الذي قلته لهم: إننا إذا قمنا برد الاعتداء عند وقوعه، فيجب أن يكون ذلك في ضربة راجعة توقف الاعتداء وتكفل سلامة أكبر عدد من الشباب المسلم.
ووفقاً لهذا جاءوا في اللقاء التالي ومع أحمد عبد المجيد قائمة باقتراحات تتناول الأعمال التي تكفي لشل الجهاز الحكومي عن متابعة الإخوان في حالة ما إذا وقع الاعتداء عليهم… وهذه الأعمال هي الرد فور وقوع اعتقالات لأعضاء التنظيم بإزالة رؤوس في مقدمتها رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة ومدير مكتب المشير ومدير المخابرات ومدير البوليس الحربي، ثم نسف لبعض المنشآت التي تشل حركة مواصلات القاهرة لضمان عدم تتبع بقية الإخوان فيها وفي خارجها كمحطة الكهرباء والكباري…
وأتذكر أن هذا كان آخر اجتماع للمجموعة، فلم ألتق بعد ذلك إلا بالشيخ عبد الفتاح وبالأخ علي عشماوي، ولم أتبين تفصيلات ما اتخذوه بينهم من إجراءات التدريب، ولا أية خطوات أخرى تنفيذية… وكانت هذه هي صورة الموقف إلى يوم اعتقالي، ولا أعلم بطبيعة الحال ماذا حدث بعد ذلك، إلا أنه واضح أنه لم يقع شيء أصلاً.. وقد كانت لديهم فرصة ثلاثة أسابيع على الأقل لو كانوا يريدون القيام بأي عمل”.
بدأت الاعتقالات في يوليو 1965، وكان أول المعتقلين محمد قطب (الشقيق الأصغر لسيد قطب) ومجموعات من الإخوان الذين سبق الحكم عليهم في حادث المنشية عام 1954، وفي 9 غشت اعتقل سيد قطب، وفي 20 غشت اعتقل عبد الفتاح إسماعيل، وفي اليوم نفسه اعتقلت زينب الغزالي، وبينما كان أفراد التنظيم منشغلين بالإعداد للاغتيالات وتدمير المنشات الحيوية في القاهرة كما جاء في الاتفاق، كانت اعترافات المعتقلين تتوالى عن هيكلة التنظيم ومجموعاته وخططه واتصالاته، وأهم هذه الاعترافات جاءت من علي عشماوي: المسئول العسكري للتنظيم، الذي كشف كل أوراقه دفعة واحدة.
وحكم على قطب ونائبه محمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل وعلي عشماوي (خفف إلى المؤبد) وأحمد عبد المجيد (خفف إلى المؤبد) بالإعدام.
ونفذ الحكم في 29 غشت 1966.
وحكم على زينب الغزالي بالسجن المؤبد.
وعلى حسن الهضيبي بالسجن 3 سنوات.
وكان من ضمن المعتقلين عبد المجيد الشاذلي الذي حكم عليه بالسجن المؤبد، والذي أصبح بعد سنوات من أهم منظري التيار السلفي الجهادي، وعرف في الأوساط الجهادية باسمه الحركي “أبو البراء الهاشمي”، وتخصص في الشرح والتأصيل الشرعي لأفكار سيد قطب الواردة في “الظلال” و”المعالم”.
ومن المعتقلين أيضاً، محمد بديع: المرشد العام الحالي للإخوان: وكان وقتها معيداً بكلية الطب البيطري، وقد حكم عليه بالسجن 15 سنة.
وكذلك الأمين العام الحالي للتنظيم الدولي للإخوان والقائم السابق بأعمال المرشد إبراهيم منير، وقد حكم عليه بالسجن 10 سنوات.
والمفوض السابق للشؤون الدولية والعلاقات الخارجية في الإخوان يوسف ندا، وقد حكم عليه بالسجن 10 سنوات.
وكذلك النائب الحالي للمرشد محمود عزت، وكان وقتها طالباً بكلية الطب، وقد حكم عليه بالسجن 10 سنوات.
وجاء في اعترافات محمود عزت (كان اسمه الحركي وقتها أبو يوسف) أنه انضم إلى التنظيم عام 1962، وأن الذي عرفه على عبد الفتاح إسماعيل هو السوري مروان حديد الذي كان وقتها طالباً في القاهرة بكلية الزراعة. ومروان حديد هو مؤسس وقائد “تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” في سوريا عام 1970، وقد أعدم عام 1976 بعد أن دخل في مواجهة مسلحة مع نظام البعث السوري انتهت عام 1982 بمجزرة حماة.
وجاء أيضاً في اعترافاته:
“أنا بدأت بعد تربيتي الدينية أبحث عن حلّ لكي يكون الإسلام وهو دين ودولة مطبقاً في جميع نواحي الحياة، وقد عاصرت جماعة الدعوة والتبليغ وسافرت معهم في جوامع إسكندرية ومرسى مطروح، ولكن شعرت بأن هذا الاتجاه سلبي، ويدعو إلى الاعتكاف في المساجد وعدم مخالطة المجتمع والتأثير فيه، وكانت هذه الدعوة كذلك تقتصر على مظاهر الدين كإطلاق اللحية ولبس الجلباب ويعتبرون ذلك من صميم الإسلام، ولقد شعرت بهذه السلبية بعدما كشف لي ذلك الشيخ عبد الفتاح إسماعيل في لقاءاتي به، وأحسست بأن الاتجاه السليم… هو تكوين أفراد مسلمين مرتبطين بتنظيم يحاول الوصول إلى مراكز القيادات في المجتمع عن طريق تكوين كفاءات ممتازة تتمكن من تحريك المجتمع.
…
ـ وما وجهة نظرك في نظام الحكم الحاضر؟
ـ إن نظام الحكم الحاضر لا يستمد تشريعاته من القرآن، ولذا فهو نظام جاهلي.
ـ وما المقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمع الإسلام المنشود لديك، وما أوجه تناقضها مع مقومات المجتمع المصري ونظام الحكم الحاضر؟
ـ من الناحية السياسية، فإن مجتمع الإسلام الذي أنشده هو الذي يقوم فيه تنظيم سياسي على أساس الأحكام المستمدة من القرآن، وهي أن يكون هناك أمير للمؤمنين ومجلس للشورى وكل التشريعات التي يطبقها هذا لأحكام المسلم تكون صادرة من القرآن والسنة، وهذا يتناقض مع الوضع السياسي الحالي، فهو غير مستمد من القرآن.
ـ إذن، فقد كانت هناك حتمية لصدام عنيف بين الجماعة السرية وبين الحكومة؟
ـ طبعاً، لأننا نعتبر الحكومة من الكفار وطواغيت الأرض”.
هذه عينة من أقوال محمود عزت الذي قاد الإخوان بعد إسقاطهم من الحكم في يوليو 2013 وحتى اعتقاله عام 2020.