كيف انهارت “خطة مارشال” الإيرانية بسقوط الأسد؟

تم الكشف عن المدى الكامل لخسارة إيران لنفوذها في سوريا من خلال وثائق حصلت عليها “رويترز” من السفارة الإيرانية التي تعرضت للنهب في دمشق بعد سقوط الأسد، والتي أوضحت مدى انغماس طهران في مستقبل البلاد بعد الحرب الأهلية، ومدى انهيار هذه الرؤية بشكل شامل. كانت لدى إيران خطة بعيدة المدى لسوريا، مستقاة مباشرة من كتاب استراتيجيات خصمها اللدود. فكما أعادت الولايات المتحدة تشكيل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من خلال “خطة مارشال”، خططت إيران لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال إعادة إعمار سوريا الممزقة.
كان محور هذه الخطة دراسة من 33 صفحة أعدها مخططون اقتصاديون إيرانيون متمركزون في دمشق. وتشير الوثيقة بشكل متكرر إلى “خطة مارشال”، مشيدة بكيفية ترسيخها للهيمنة الأمريكية من خلال تعزيز “التبعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية”. وجادلت الدراسة بأن سوريا يمكن أن تؤدّي دوراً مماثلاً لإيران: منصة انطلاق لنفوذها في جميع أنحاء بلاد الشام، وركيزة استراتيجية لطموحاتها الإقليمية.
لم تكن هذه الرؤية، التي قادها ضابط في الحرس الثوري الإيراني يدعى عباس أكبري، مجرد نظرية عابرة. فقد كُلّف أكبري بتنفيذ خطة إنعاش اقتصادي شامل في سوريا من خلال هيئة متخصصة تسمى “مركز تطوير العلاقات الاقتصادية بين إيران وسوريا”.
وتراوحت مقترحات فريقه بين عقود النفط والفوسفات ومحطات الطاقة ومشاريع الاتصالات والإيجارات الزراعية، وهي مشاريع كانوا يأملون أن تؤدي ليس فقط إلى تغطية تكاليف الدعم العسكري والمالي الذي قدمته إيران لبشار الأسد، بل وأيضاً إلى ترسيخ دور إيران في التعافي السوري بعد الحرب.
وقد عبر أحد الأسطر في الدراسة عن حجم الحلم: “فرصة بقيمة 400 مليار دولار”.
لكن هذا الحلم انهار بسقوط الأسد وفراره إلى روسيا في ديسمبر / كانون الأول 2024.
وبعد أن قام المتمردون السوريون بنهب منشآت إيرانية في دمشق، عثروا على مئات الوثائق الرسمية: عقود موقعة، ومراسلات خاصة، ودراسات جدوى.
وكشفت المواد التي اطلعت عليها “رويترز” عن المدى الذي ذهبت إليه طهران في صياغة استراتيجيتها في سوريا على غرار الخطة الأمريكية لما بعد الحرب، ومدى فشل تلك الاستراتيجية تماماً.
ومن بين الملاحظات الأكثر إثارة للاهتمام في الدراسة الإيرانية إعجابها بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ـ وكالة المساعدات الحكومية الأمريكية التي هاجمها ترامب وأوقف تمويلها.
وعلى الرغم من أن طهران لطالما نددت بهذه الوكالة باعتبارها ذراعاً للإمبريالية الأمريكية، فإن مخططيها وصفوها بأنها “نموذج ناجح لبناء الأمم”.
وجاء في إحدى الوثائق أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أثبتت أنها أداة فعالة للتأثير الاقتصادي، ويجب محاكاتها “لتعزيز الأمن الإقليمي” و”تحييد العقوبات”.
ومع ذلك، أعاقت القوى ذاتها التي سعت إيران إلى التغلب عليها طموحاتها: الحرب، والفساد، وسوء الإدارة، والعزلة الدولية. تُرك ما لا يقل عن 40 مشروعاً دون إكمال، بدءاً من محطة كهرباء بقيمة 350 مليون جنيه إسترليني في اللاذقية، وصولاً إلى جسور السكك الحديدية وحقول النفط في الصحراء الشرقية. وخسرت إحدى الشركات، وهي شركة تجارية إيرانية خاصة، 13 مليون جنيه إسترليني في قطع غيار سيارات شُحنت إلى سوريا قبل أيام من انهيار النظام. واختفت البضائع، ولم يُسدّد الدين أبداً.
إجمالاً، تصل الديون المستحقة للشركات الإيرانية على النظام السوري المنهار إلى مئات الملايين. وتشير بعض التقديرات إلى أن الإنفاق الإيراني الأوسع – بما في ذلك الدعم العسكري والائتماني – يتجاوز 23 مليار جنيه إسترليني.
وكان مكتب أكبري يحاول بصعوبة التغلب على عراقيل البيروقراطية السورية، وذهب إلى حد تقديم النصح للشركات الإيرانية بالتعامل مع “المافيات الاقتصادية” لتسهيل الأمور.
وتُظهر صور من عرض على برنامج باوربوينت تم تقديمه في السفارة الإيرانية في دمشق حالةَ اليأس التي تعيشها البلاد: قائمة من العقبات، ومشاكل مصرفية، وتحذيرات من إحباط المستثمرين. وحتى مع مضي أكبري قدماً في خططه لإنشاء بنك مشترك وأنظمة تجارية قائمة على المقايضة للتهرب من العقوبات، كان اهتمام الشركات الإيرانية يتضاءل.
ويأتي انهيار المشروع الإيراني في سوريا في وقت خطير بالنسبة إلى طهران.
لقد فككت إسرائيل جزءاً كبيراً من نفوذها الإقليمي، فقتلت قادة رئيسيين في “محور المقاومة” وضغطت بشدة على وكلائها. في غضون ذلك، قلصت الاضطرابات الداخلية والضغوط الاقتصادية في الداخل قدرتها على المزيد من التدخلات الخارجية.
لم تكن خسارة إيران لسوريا مجرد خسارة عسكرية أو سياسية، بل كانت بمثابة فشل لاستراتيجية اقتصادية طويلة الأمد لإعادة تشكيل المنطقة على صورتها. في محاولتها محاكاة “خطة مارشال”، وجدت إيران نفسها تكرر غطرسة الحملات الأمريكية في العراق وأفغانستان: مشروع باهظ التكلفة وهش في أرض معادية، تُركت في نهاية المطاف خراباً.
قالت الخبيرة الإقليمية ميغان ساتكليف: “يعد سقوط الأسد ضربة موجعة لمحور المقاومة. لقد خسرت إيران حليفاً أنفقت مليارات الدولارات على دعمه على مدى أكثر من عقد من الحرب الأهلية”.
“أرسلوا آلاف المسلحين، ودربوا آلافاً آخرين، لإبقاء الأسد في السلطة. في المقابل، سمح الأسد بمرور الأسلحة بحرية – لا سيما إلى حزب الله اللبناني – بينما بنت إيران ما تسميه “حزام النار” حول إسرائيل، الذي شكل تهديداً لأمنها من جميع الجهات”.
المصدر: رويترز، اكسبريس البريطانية.
