لماذا سارت الأمور على نحو خاطئ؟
عبد الله أنس، أحد المحاربين العرب القدامى في الجهاد الأفغاني، يتحدث
عبدالله أنس مع تام حسين، إلى الجبال: حياتي في الجهاد، من الجزائر إلى أفغانستان (هيرست، 2019).
في شبابه في الجزائر، كان عبد الله أنس يلوم جيل والده على القتال من أجل الاستقلال عن فرنسا، ثم فشله في بناء دولة تضمن حرية الشعب. وبعد سنوات عديدة، أدرك أنه فعل الشيء نفسه، إلا أنه في حالته قاتل من أجل تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي. كان أنس من أوائل العرب الذين تطوعوا للجهاد ضد السوفييت في أفغانستان. والآن يتساءل: لماذا سارت الأمور على نحو خاطئ؟ لقد خلق النجاح الواضح لـ “المجاهدين” فراغاً حكم على أفغانستان بسنوات من الحرب الأهلية، وأرسى الأساس لظهور تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية. ويتساءل أنس: “ما الذي حققناه؟ لقد قاتلنا، وقُتلنا، وضحينا، ومن أجل ماذا؟”.
إن كتابه الجديد “إلى الجبال: حياتي في الجهاد، من الجزائر إلى أفغانستان” هو محاولة للإجابة عن هذا السؤال. والكتاب الذي شارك في كتابته مع الصحفي تام حسين، هو جزء من مذكراته وجزء من مراجعاته للتجربة كلّها، وهو مليء بالحكايات المباشرة عن لاعبين رئيسيين، مثل عبد الله عزام ـ رجل الدين الفلسطيني الذي اكتسب لقب “أبو الجهاد العالمي” بفضل عمله في حشد العرب لمحاربة الروس ـ ومؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. وهو يقدم منظوراً نادراً من الداخل لسنوات من “الجهاد” المناهض للسوفييت الذي يُختزل في كثير من الأحيان في صورة نمطية بوصفه مهد الجهادية العابرة للحدود الوطنية.
ولكن أنس لا يزال يؤمن بالجهاد الدفاعي، بمعنى الحرب العادلة أخلاقياً، وهو فخور بماضيه كمجاهد قاتل الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. كما يدافع عن عزام ـ الذي أصبح لاحقاً حميه ـ ضد الفكرة التقليدية القائلة بأن دوره كمرشد لبن لادن يجعله متواطئاً في إنشاء تنظيم القاعدة. فبالنسبة إلى أنس، بدأت المشاكل الحقيقية في وقت لاحق، مع صعود تنظيم القاعدة و”أخواته السيئات”، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية، الذي لم يجلب للعالم سوى سفك الدماء. ولكن في روايته، لم تكن هذه المشاكل مجرد نتاج لظروف طارئة في أفغانستان، ولا تتعلق بشخصيات مثل بن لادن، بل إنه يشير إلى مرض أعمق كامن في العالم الإسلامي فيما يتصل ببناء السلام المستدام:
“إن العالم الإسلامي يستطيع بسهولة أن يجد شهداء، ولكن ما يحتاج إليه بشدة وبشكل عاجل هو رجال الدولة والمفاوضين والمستشارين والعلماء والمثقفين الذين يفهمون احتياجات عصرهم وشعوبهم”.
من هنا يأتي الارتباط بين تجاربه الشخصية وتجارب جيل والده. فقد فشل الجزائريون الذين ناضلوا من أجل الاستقلال عن فرنسا في إيجاد تسوية حرة ودائمة. فقد عانت الجزائر من حرب أهلية شرسة في تسعينيات القرن العشرين، ولا تزال دولة الحزب الواحد حتى يومنا هذا. وبعد ثلاثة عقود من انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، لا تزال البلاد في حالة حرب، في حين لم تسفر احتجاجات وانتفاضات “الربيع العربي” التي بدأت في عام 2010 وانتشرت في مختلف أنحاء الشرق الأوسط إلا عن القمع والفوضى وسفك الدماء.
يدعو أنس، الذي أصبح ناشطاً في مجال السلام، المسلمين إلى التخلي عن فكرة الجهاد الهجومي وتبني فكر جديد يتكيف مع العالم الحديث بدلاً من الاعتماد على المبادئ التوجيهية التي وضعها علماء الإسلام في العصور الوسطى لأوقات مختلفة للغاية. إنها ليست الرسالة التي يمكن أن تلقى استحساناً في مثل هذا المناخ [الإسلامي] المنقسم، ومع ذلك، فهي وجهة نظر شخص شارك ذات يوم في “الجهاد”، مما يجعلها جديرة بالاهتمام.
من الجزائر إلى أفغانستان
انجذب أنس إلى الإسلام السياسي، وهو شاب من أسرة فقيرة في الجزائر، اهتم منذ ذلك الحين ببناء معارفه الإسلامية وخبرته السياسية، ثم جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان في عام 1979 وما بدا ـ على الأقل في البداية بالنسبة إلى أنس ـ بمثابة الإلهام المسكر للثورة الإسلامية في إيران في نفس العام. وعندما أصدر علماء من بينهم عزام فتوى تعلن أن محاربة الاحتلال السوفييتي واجب على كل الذكور المسلمين، غادر أنس إلى أفغانستان في عام 1983. سافر أولاً إلى باكستان، حيث أقامت سبع فصائل متنافسة من المجاهدين الأفغان قواعدها في مدينة بيشاور الشمالية الغربية، كما أسس عزام هناك مكتب الخدمات العربية لتنظيم التمويل وتجنيد المقاتلين للجهاد ضد السوفييت. ولأن عدد المتطوعين العرب كان قليلاً نسبياً ـ حوالي مائة متطوع داخل أفغانستان والبقية في بيشاور وفقاً لأنس ـ فقد تم توزيعهم على مختلف أنحاء أفغانستان لتجنب الانحياز إلى أي فصيل. أمضى أنس معظم وقته مع أحمد شاه مسعود، القائد العسكري القوي الذي قاتل الروس من قاعدته في وادي بنجشير في شمال أفغانستان.
في رواية أنس، كان المتطوعون العرب الأوائل بعيدين كل البعد عن الجهاديين الذين تحولوا إلى تنظيم القاعدة وغيره من الجماعات المتطرفة العنيفة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية. كانوا شباباً يبحثون عن المغامرة والاستشهاد، مهتمين فقط بالمساعدة على تحرير أفغانستان، مستلهمين عزام وقصص المعجزات التي شهدها المقاتلون في الجهاد ضد السوفييت. كانوا يعيشون في فقاعة، غير مدركين للجغرافيا السياسية الأكبر التي كانت تلعب دوراً في توجيه حركتهم. كان الجهاد ضد السوفييت جزءاً من صراع أوسع نطاقاً في الحرب الباردة، بتمويل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإدارة باكستان. يقول أنس: “كنا أشبه بالأطفال السذج”. كما يدافع أنس عن مكتب الخدمات العربية، الذي كان أحد أعضائه المؤسسين، ويصر على أن هدفه الوحيد كان مساعدة المجاهدين الأفغان. كان العرب يحظون بالاحترام؛ لأنهم يتحدثون العربية، لغة القرآن، واستخدموا ذلك لمحاولة الحد من الاقتتال الداخلي بين الفصائل الأفغانية المختلفة. كان مكتب الخدمات العربية يميل إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولكن ليس تحت قيادتها. “لقد كان اهتمامنا الوحيد هو حل قضية أفغانستان، وليس المشاركة في أي مشروع جهادي عالمي خيالي كما زعم بعض المحللين”. لقد حصلوا على أموال من بن لادن لتمويل المتطوعين العرب، لكنهم لم يشاركوا في الأيديولوجية [القتالية] التي هيمنت على تنظيم القاعدة.
ولكن المشاكل بدأت تظهر بعد انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان في عام 1989. وكما حدث مع جيل والده في الجزائر، أدرك أنس أن القتال من أجل إزاحة حاكم ظالم أسهل من إعادة بناء دولة. وكان المجاهدون، بتشجيع من باكستان، عازمين على مواصلة القتال بدلاً من التوصل إلى تسوية مع الحكومة الأفغانية المدعومة من موسكو في عهد الرئيس محمد نجيب الله. وعلى نحو فاجأ الجميع، تمكن نجيب الله من البقاء في السلطة حتى عام 1992، عندما تركه انهيار الاتحاد السوفييتي بلا إمدادات أو تمويل. ثم جعل الاقتتال الداخلي الأفغاني من المستحيل الاتفاق على حكومة تحل محله أو التوصل إلى تسوية مع أنصاره. ويروي أنس موقفاً حدث قبل وقت قصير من انهيار الحكومة الأفغانية، عندما طار وزير خارجية نجيب الله بطائرة هليكوبتر إلى معسكر مسعود لمناقشة شروط الاستسلام. ووفقاً لأنس، فقد عرض الاستسلام الكامل بشرط وحيد هو أن تمنح الحكومة الجديدة الاعتراف السياسي لجميع الأحزاب، بما في ذلك الشيوعيون، ولكن مسعود رفض هذا على أساس أن المجاهدين قاتلوا من أجل إقامة دولة إسلامية. ويرى أنس أن المجاهدين لم يكن ينبغي لهم أن يحرموا الشيوعيين من فرصة التعبير عن أنفسهم سياسياً: “كان ذلك ليمنع الكثير من إراقة الدماء في المستقبل السياسي لأفغانستان”.
لقد فشلت محاولة إقامة حكومة في كابول تتقاسم السلطة بين فصائل المجاهدين المختلفة. فاحتل مسعود كابول، ولكن انتهى به الأمر إلى خوض معركة وحشية للسيطرة على كامل المدينة مع أمير الحرب قلب الدين حكمتيار الذي كان يحظى بدعم باكستان. وقُتِل الآلاف من الأفغان مع انزلاق البلاد إلى حرب أهلية، أعقبها حكم طالبان القاسي من عام 1996 إلى عام 2001. وسواء كان ذلك من العدل أو الظلم، فإن أنس يلقي ببعض اللوم في الحرب الأهلية على الزعماء الأفغان أنفسهم لسماحهم للتنافسات والصراعات الشخصية بالوقوف في طريق التسوية السياسية السلمية. يقول: “كان القادة الأفغان هم الذين دمروا مستقبل بلادهم”. لم يكن لديهم وحدة الهدف إلا أثناء الاحتلال السوفييتي. “بعد ذلك، اعتقد جميع الزعماء الأفغان، كما تفعل طالبان اليوم، أن جماعتهم فقط هي التي تمثل “الدولة”، ولا يمكنهم قبول السياسة متعددة الأحزاب”.
إن البيئة المتوترة التي أحاطت بالحرب الأهلية في أفغانستان هي التي رسخت فيها صورة متطرفة من صور الإسلاموية، بما في ذلك الأيديولوجية التكفيرية التي تقوم على اعتبار المسلمين الآخرين مرتدين. فقد وصل إلى بيشاور متطوعون عرب جدد لم تكن لهم أي علاقة بالجهاد الأصلي ضد السوفييت. وقد انحاز الوافدون الجدد والقدامى إلى جانب الفصائل الأفغانية، متجاهلين نصيحة عزام لهم بعدم الانجرار إلى الاقتتال الداخلي بين الأفغان. وكان بن لادن من بين هؤلاء. ووفقاً لأنس، فإن بن لادن كان في البداية “رجلاً نشيطاً وديناميكياً يتمتع بأخلاق راقية”. وقد أعجب به أنس في البداية؛ لأنه رجل سعودي ثري اختار عدم الانغماس في حياة الترف، ولكن في مرحلة ما، تمكنت منه الغطرسة. وعلى الرغم من أنه لعب دوراً ثانوياً في الجهاد ضد السوفييت، فقد بدأ يعتقد أنه الحل ليس فقط للصراع الأفغاني بل وأيضاً لمشاكل المجتمع الإسلامي أو الأمة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم. وهذه الغطرسة نفسها هي التي دفعنه في وقت لاحق إلى التقليل من شأن رد الفعل الأمريكي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة. ووفقاً لأنس، “لم يكن لديه حكم سليم”، وقد تجاهل نصيحة عزام، وانحاز إلى جانب حكمتيار.
ولقد ازدادت الأمور سوءاً، عندما خشي بعض العرب ـ من الجزائر ومصر وتونس وليبيا والأردن ـ أن تؤدي عودتهم إلى أوطانهم إلى اعتقالهم. وبعد أن تقطعت بهم السبل في أفغانستان وباكستان، أصبح من السهل عليهم أن ينجرفوا إلى الاقتتال الداخلي والتطرف. وكانت المشاكل الكبرى قد بدأت بالفعل مع وصول الإسلاميين المصريين في عام 1987، ومن بينهم المصري أيمن الظواهري، الذي أصبح نائب بن لادن في تنظيم القاعدة. وكان هؤلاء الرجال أكثر من أي أحد آخر ينشرون الأيديولوجية التكفيرية ويسممون الأجواء. ووفقاً لرواية أنس، فإن بن لادن لم يستلهم أفكاره من عزام، بل كان يقوده رجال مثل الظواهري. وبسبب طموحه المفرط وافتقاره إلى النضج السياسي، سمح بن لادن لنفسه بأن يتصرف على هواه. ويزعم أنس أيضاً أن بن لادن انفصل بحلول عام 1987 إلى حد ما عن مكتب الخدمات العربية لإدارة عملياته الخاصة. وانضم بعد ذلك إلى الظواهري وآخرين في الانقلاب على عزام.
لقد اغتيل عزام في عام 1989 ـ ربما على يد فصيل إسلامي متطرف ـ مما أدى، وفقاً لأنس، إلى إزاحة زعيم موثوق كان من الممكن أن ينجح في إبعاد التكفيريين. وكان موته بمثابة نهاية لأي مظهر من مظاهر الوحدة بين الفصائل المختلفة، سواء الأفغانية أو العربية. يكتب أنس: “لقد كان أشبه بجسر روحي عظيم يربط بين الفصائل المختلفة. وبوفاته، كانت بداية الجنون”.
وبعد عقد من الزمان أمضاه أنس في أفغانستان وباكستان، غادر البلاد في عام 1993. وكانت الجهادية التي تبناها بشغف شديد قد تحولت بحلول ذلك الوقت إلى شيء لم يعد يعرفه، جهادية شديدة الضراوة تنتشر في مختلف أنحاء العالم. وحتى الجزائر لم تسلم من الجهاد العابر للحدود الوطنية. ففي تسعينيات القرن العشرين، انحدرت الجهادية إلى حرب أهلية أصبحت أكثر عنفاً بسبب مشاركة المقاتلين المرتبطين بتنظيم القاعدة العائدين من أفغانستان وباكستان. وبسبب عدم تمكنه من العودة إلى وطنه، أصبح أنس منفياً سياسياً في لندن. أما مسعود، الذي عمل معه أنس عن كثب أثناء الجهاد ضد السوفييت، فقد اغتيل على يد اثنين من العرب من شمال إفريقيا أرسلهما تنظيم القاعدة قبل يومين فقط من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
تجنب الجدل
إن رواية أنس، التي تشكل كنزاً ثميناً للباحثين والمؤرخين، تكمل كتاباً سابقاً لمصطفى حامد ـ وهو متطوع عربي آخر في الجهاد ضد السوفييت ـ بعنوان “العرب في حرب أفغانستان”. إن كتاب “إلى الجبال” عمل رائع ومحبط في الوقت نفسه. فهو يطرح أسئلة مهمة حول ما حدث من أخطاء، ولكنه يفشل في تقديم إجابات متماسكة. ويرجع هذا جزئياً إلى أن الكتاب يتجنب الجغرافيا السياسية والسياق الأوسع نطاقاً للأحداث. وعلى هذا، فهو لا يحاول على سبيل المثال أن يقيم دور الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في التصنيع الفعال للجهاد ضد السوفييت من خلال تدفق الأسلحة والأموال، كما يظل الدور الباكستاني غير مدروس إلى حد كبير. فقد دعمت باكستان الفصائل الإسلامية في أفغانستان قبل فترة طويلة من الغزو السوفييتي، جزئياً لمواجهة القوميين الأفغان العرقيين الذين يطالبون بأراض باكستانية. كذلك يستبعد كتاب “إلى الجبال” التعامل بشكل نقدي مع كتابات عزام، ويكتفي بالدفاع عن دوره في استقطاب المتطوعين العرب للانضمام إلى الجهاد ضد السوفييت. علاوة على ذلك، كان من الممكن أن يتعمق الكتاب أكثر في المدارس المختلفة للفكر الإسلامي، والتوجهات الفقهية في التعامل مع الجهاد، بل وحتى التنافس التاريخي بين جماعة الإخوان المسلمين والإسلام السلفي.
ومع ذلك، فإن هذا الكتاب فريد من نوعه. فنهجه الذي يتألف من مذكرات وتأملات وأسئلة بلا إجابة يجعله أشبه بمحاولة للتفكير بصوت عالٍ. ومن حسن حظ أنس أنه ليس من محبي الجدل، بل إنه يحاول بدلاً من ذلك أن ينقل تفاصيل ما حدث استناداً إلى تجاربه الشخصية. ونظراً لدعوته إلى إنهاء الجهاد الهجومي، فربما يكون من الأفضل توجيه الكتاب إلى القراء المسلمين في المقام الأول ولكل الذين يحاولون فهم كيفية بناء تسويات سلام دائمة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة.