هل ما تزال أطروحة ما بعد الإسلاموية صالحة؟
لقد شهدت الإسلاموية تحولاً كبيراً على مدى العقد الماضي، وغالباً ما يصعب على المرء اليوم العثور على إجابة مباشرة لسؤال “من هو الإسلامي؟” وهذه إلى حد كبير قصة توضح كيف أن الإسلاموية التقليدية ـ كما تمثلها جماعة الإخوان المسلمين ـ قد فقدت تدريجياً حصتها في السوق في السنوات الأخيرة لصالح مجموعة متنوعة من المشاريع الاجتماعية والسياسية الإسلامية البديلة. كان النموذج الكلاسيكي للإسلام السياسي الحديث يرتكز على فكرة أن الشخصية الإسلامية يتم التعبير عنها من خلال العضوية الرسمية في منظمة سياسية. وبعبارة أخرى، فإن كون المرء إسلامياً كان شيئاً يجب على المرء أن يخصص له الوقت باعتباره عنصراً منفصلاً عن الحياة الاجتماعية. على النقيض من ذلك، يتم تنظيم العديد من البدائل الإسلامية اليوم حول مساحات وأنشطة مرتبطة بما أشار إليه المنظر الاجتماعي هنري لوفيفر بعالم الحياة اليومية. إن كونك إسلامياً هنا له علاقة بنمط الحياة ـ كيف يستهلك المرء، ويدرس، ويقضي وقت الفراغ ـ كما هو الحال مع الانضمام إلى حركة سياسية. ومن ثم فإن تعددية الفضاء الاجتماعي والسياسي الإسلامي، وخسارة جماعة الإخوان المسلمين لاحتكار الادعاء بصياغة نظام اجتماعي إسلامي، يشكلان قوة رئيسة تشكل مستقبل الإسلاموية.
ويرتبط هذا التفسير الخاص للسياسة الإسلامية بقوة بأطروحة ما بعد الإسلاموية التي قدمها باحثون مثل آصف بيات وأوليفييه روي منذ منتصف التسعينيات على الأقل. وفي حين يعود الفضل إلى بيات في صياغة مصطلح ما بعد الإسلاموية (في إشارة إلى التوجه العملي للقيادة الإيرانية بعد وفاة الخميني)، فإن المعالجة الموضوعية الأولى للموضوع يمكن العثور عليها في كتاب أوليفييه روى “فشل الإسلام السياسي” (1994، النسخة الأصلية الفرنسية 1992). في هذا النص، يرى روى أن الإسلام السياسي من النوع الذي يمثله الإخوان المسلمون والتقاليد الإخوانية الأوسع قد فشل لسببين: أولاً، لم تنجح جماعة الإخوان المسلمين قط في أن تصبح حركة جماهيرية قادرة على الحصول على حصص كبيرة من الأصوات. في الوقت الذي كان روي يكتب هذا الكلام، كان هذا هو الحال إلى حد كبير، باستثناء الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر التي حققت انتصارها الفاشل في الوقت الذي كان الكتاب في طور الطباعة. وأكد البحث اللاحق الذي أجراه تشارلز كورزمان وإجلال نقفي عام 2010 أن معظم الأحزاب الإسلامية اجتذبت أقل من 8% من الأصوات في الانتخابات التي شاركت فيها، حتى عند السيطرة على جهود الدولة للتدخل في العملية الانتخابية. ومن الواضح أن هذا الوضع تغير بشكل كبير في عامي 2011 و2012 مع الأداء الانتخابي القوي لحزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر.
حجة روى الثانية في كتابه هي الأكثر إثارة للاهتمام؛ إذ يلاحظ أن عملية التكيف والاندماج في العمليات السياسية في الدولة القومية الحديثة جعلت الحركات والأحزاب الإسلامية نفسها غير مميزة أيديولوجياً. وهذا يعني أن الإسلاميين وجدوا صعوبة متزايدة في تقديم حلول “إسلامية” متميزة للمشاكل الأساسية المتعلقة بالحكم والاقتصاد. وعلى الرغم من الشعار المعروف “الإسلام هو الحل”، يقول روى، فإن أفكار الإسلاميين ومقترحاتهم السياسية لا تختلف إلا قليلاً عن تلك التي تقدمها الأحزاب الأخرى في يمين الوسط من الطيف السياسي. وكما يقول روى: “لقد انتصر المنطق السياسي على المنطق الديني”.
طور روى أطروحة ما بعد الإسلاموية إلى شكلها الأكثر نضجاً في كتاب لاحق بعنوان “الإسلام المعولم” بعد عشر سنوات. ويشير هنا إلى أن الزيادات في مستويات التقوى في العالم الإسلامي كانت مصحوبة بتراجع موازٍ للتدين إلى المجال الخاص. وبعبارة أخرى، قد يكون المسلمون أكثر تديناً، لكنهم غير مهتمين على نحو متزايد بأسلمة المجتمع من خلال الإسلام المسيّس. يؤكد روى أن إرادة المعيارية الإسلامية أصبحت الآن مخصخصة وفردية في المقام الأول.
لكن سرد قصة دخولنا إلى مرحلة ما بعد الإسلاموية كوضع يتبنى فيه المسلمون نزعة فردية وهادئة سياسياً حصراً ـ حيث يتشابك التدين وممارسات الاستهلاك المؤيدة للرأسمالية ـ سيكون بمثابة تجاهل لاتجاهات مهمة أخرى تعمل في المشهد المتغير للسياسة الإسلامية. وقد لاحظ علماء آخرون أن التحول نحو مصطلحات دينية أكثر تخصيصاً لا يعني بالضرورة رفض النشاط الإسلامي. وعلى هذا الأساس، فإن رغبة المسلمين في الانخراط في عمل جماعي من أجل تغيير المجتمع نحو تصور ما للمثال الإسلامي لا تزال موجودة للغاية، بل يبدو أن طبيعة وطرائق هذا العمل الجماعي هي التي تتغير. ومن هذا المنظور ـ ومع الطبيعة المتغيرة للنشاط الإسلامي بدلاً من زواله ـ يصبح من الممكن افتراض ظهور تشكيلات ونماذج ما بعد الإسلاموية المختلفة التي من المرجح أن تصبح ذات أهمية متزايدة لمستقبل السياسة الإسلامية:
(1) ظهور “الحركات الاجتماعية الجديدة” ذات التوجه الإسلامي
باتباع نموذج الاتجاهات اللامركزية الواسعة القائمة على الدعوة والتعبير عن قيم معينة بدلاً من التطلعات لتحقيق سلطة سياسية رسمية ـ مثل الحركة الخضراء في أوروبا ـ يمكننا أن نشير إلى ظهور ونمو مظاهر مماثلة في العالم الإسلامي. وتشكل الحركة حول المعلم الإصلاحي التركي ورجل الأعمال الديني فتح الله غولن مثالاً واضحاً على ذلك، كما هو الحال مع الارتفاع الأخير في المنظمات والشبكات المرتبطة بشكل فضفاض والمرتكزة على الإسلام السلفي.
(2) تحول النشاط الإسلامي إلى مجال الترفيه والتسلية
اليوم يمكننا أن نشير إلى صعود الهيب هوب الإسلامي، واللباس الحضري، وأشكال الثقافة الشعبية الأخرى كمساحات جديدة للمقاومة والتعبير النشط. ومع ذلك، وبالانتقال إلى ما هو أبعد من التركيز على سياسات الهوية، فمن الممكن أيضاً الإشارة إلى المساحات التي من المحتمل أن يصبح فيها التفاعل بين الإسلام والترفيه أكثر صلة بالسياسة التقليدية. تشير البرامج التليفزيونية الإسلامية من النوع الذي ابتكره عمرو خالد والزمرة الواسعة من مقلديه إلى الإمكانات الهائلة للتعبئة الاجتماعية التي يمكن العثور عليها من خلال الاستفادة من مساحات وسائل الإعلام الجماهيرية التي تُعرف بأنها “ترفيه” واستخدامها لتشجيع الجماهير على الانخراط اجتماعياً في تغيير البيئات والظروف المحيطة بهم.
(3) المنصات ومحاور الشبكات مقابل المنظمات الرسمية
تشير ظاهرة عمرو خالد أيضاً إلى شيء من المرجح أن يكون سمة شائعة بشكل متزايد للنشاط الإسلامي (تماماً كما هو الحال في مجالات أخرى من ممارسات التحول الاجتماعي اليوم مثل ريادة الأعمال الاجتماعية): تفضيل العمل من خلال المنصات ومحاور الشبكات بدلاً من العمل من خلال المنظمات الاجتماعية والسياسية الرسمية والهرمية. الفكرة هنا هي أن النشاط يمكن أن يكون أكثر فعالية من خلال تقديم سرد بسيط ومقنع أو من خلال دمجه مع تكنولوجيا متاحة للجمهور، مثل المواقع الإلكترونية والأدلة الإرشادية، التي تتيح مشاركة واسعة النطاق في السعي لتحقيق هذه الرؤية. هذا النموذج، الذي يجسده كل من عمرو خالد والقاعدة، مع وضع نقاط الاختلاف الواضحة بينهما في الاعتبار، ينجح من خلال تمكين الأفراد من تحقيق نتيجة جماعية من خلال تجميع تطلعاتهم ومصالحهم الفردية بما يتماشى مع مشروع معياري مشترك على نطاق واسع.
هناك بعض القواسم المشتركة التي يمكن تحديدها عبر هذه المظاهر الثلاثة المتميزة، وإن كانت مترابطة بشكل واضح، لنشاط ما بعد الإسلاموية. أولها يتعلق بطبيعة الفضاءات ومجالات الحياة التي تندرج فيها. وكما لاحظ آصف بيات، فإن الكثير من أنشطة ما بعد الإسلاموية يأخذ شكل “اللاحركات” ـ بمعنى أنها تفتقر إلى التنظيم الرسمي والأجندات أو الأولويات الصارمة المحددة مركزياً ـ والتي يتم تنظيمها من خلال مساحات وأنشطة الحياة اليومية. هذه الرؤية للتغيير الاجتماعي تتجنب فكرة السياسة كمسعى يرتبط، على سبيل المثال، بتشكيل الأحزاب السياسية أو التنافس في الانتخابات، وتركز على فكرة التعبير عن التفضيلات السياسية من خلال الاختيارات والممارسات المرتبطة بالأشياء الدنيوية نسبياً: الأكل، التسوق، الدراسة، العمل، وما إلى ذلك. يتعلق الجانب الثاني الذي يجب التركيز عليه بمدى اندماج كل هذه الأشكال الحديثة من النشاط الإسلامي بما يسميه عالم الاجتماع ألبرتو ميلوتشي “شبكات المعنى المشترك”، وهو مفهوم يشير إلى إمكانية بناء واستدامة أشكال من الحركة الاجتماعية لا تعتمد على هيكل صارم للقيادة والسيطرة، بل على التزام مشترك بمجموعة كبيرة، وبالتالي محددة على نطاق واسع ومتنوع، من المبادئ والقيم الاجتماعية، التي يتم تفعيلها من خلال الإحالة إلى فرد، أو سرد جماعي، أو مجموعة من النصوص التي تعمل جميعها بمثابة “علامة تجارية” موحدة.
وعلينا أن نلاحظ أن هذا ليس كله جديداً، لقد أظهرت أنشطة جماعة الإخوان المسلمين على مدى السنوات الثلاثين الماضية رأس المال الاجتماعي المحتمل الذي يمكن أن يتراكم من بناء بنية تحتية تمكينية للتعبئة الاجتماعية تقع في المقام الأول في المجتمع المدني والمجتمع المحلي والأحياء. وفي الواقع، ولأن هياكل النفوذ السياسي الرسمي كانت مغلقة في وجه الإسلاميين، فقد اضطروا إلى البحث عن أماكن بديلة يمكنهم من خلالها ممارسة السلطة الاجتماعية. إن المبدأ الكامن وراء تنظيم ما بعد الإسلاموية في الفضاءات “غير السياسية” هو نفسه في الأساس، لكن النموذج ما بعد الإسلاموي يحتوي على اختلافات مهمة. وبدلاً من الهيمنة على المجتمع المدني لأن الهدف الحقيقي للفرد، وهو سلطة الدولة الرسمية، بعيد المنال ـ كما كان الحال سابقاً مع جماعة الإخوان المسلمين، وربما يكون كذلك مرة أخرى في أعقاب انقلاب يوليو 2013 ـ يعمل ما بعد الإسلاميين من خلال هياكل الحياة اليومية على وجه التحديد؛ لأنهم ينظرون إلى هذه المساحات على أنها قنوات مهمة يتم من خلالها ممارسة سلطة الدولة. بمعنى آخر، من خلال تعريف التعليم والاستهلاك والترفيه وفقاً لمفهوم معين للإسلام، فإنهم يواجهون بشكل مباشر رغبة الدولة في تشكيل وتوجيه مواطنيها لدعم أجندة مختلفة. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نبدأ في رؤية أشكال معينة من التعبئة ما بعد الإسلاموية بوصفها جهوداً لتحدي احتكار الدولة لتشكيل المواطنين وآفاقهم المعيارية بطرائق معينة. بهذه الطريقة يمكننا أن نقدر مشروع فتح الله غولن التدريجي ومتعدد الأجيال لإنتاج كادر من النخب التركية التي تشعر بالارتياح تجاه الدين في المجال العام بوصفه مسعى سياسياً عميقًا. وبالمثل، يسمح لنا هذا المنظور بمعرفة السبب الذي دفع الدولة المصرية إلى النظر إلى برنامج عمرو خالد للتطوير الذاتي المشبع بالقيم الإسلامية، بوصفه تهديداً سياسياً محتملاً.
أثار البعض تعجبهم من أطروحة ما بعد الإسلاموية في أعقاب الانتفاضات العربية، بالنظر إلى أن الانتصارات الأولية المذهلة التي حققها حزب النهضة وحزب الحرية والعدالة بدت، وكأنها تشير إلى أننا ندخل إلى عصر الإسلاموية بدلاً من الخروج منه. لكن المدافعين عن ما بعد الإسلاموية، مثل أوليفييه روى، حافظوا على المبادئ الأساسية للحجة، قائلين إن الإسلاميين الذين تم انتخابهم لم تكن لديهم مساحة سياسية لتنفيذ أجندة تركز على الشريعة، كما أن مثل هذه الأجندة لن تساعد في معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي قدمت الكثير من الزخم للاحتجاجات. وعلى سبيل المثال، فقد اهتم أعضاء حزب الحرية والعدالة في حكومة محمد مرسي، مثل وزير التعاون الدولي عمرو دراج، بالحديث عن قروض صندوق النقد الدولي والاستثمار الأجنبي المباشر أكثر من الإسلام.
هذا لا يعني، ولم يكن كذلك على الإطلاق، أن الإسلاموية ذات النوع الإخواني لم تعد ذات أهمية. في عالم السياسة الرسمية، كما أظهرت التطورات الأخيرة في العالم العربي، تظل الإسلاموية قوة فاعلة حتى لو كانت اليوم في موقف دفاعي. من المرجح أن يكون للتحديات المرتبطة بممارسة السياسة الحقيقية والانخراط في الحكم العملي تأثير كبير على الحركة الإسلامية. كان لحزب النهضة تأثير كبير على المشهد السياسي في تونس، لكنه تأثر بدوره بشدة بمشاركته في السياسة الانتقالية. هناك الكثير مما يحدث في طريق التجربة والخطأ والارتجال. ومن الواضح أن مسألة كيفية تعامل جماعة الإخوان المسلمين المصرية مع آثار الانقلاب العسكري في يوليو 2013 ستكون ذات أهمية كبيرة في الإشارة إلى الاتجاه المستقبلي للحركة الإسلامية الحديثة.
إذن، هل ما زالت أطروحة ما بعد الإسلاموية صالحة؟ من الواضح أن هناك العديد من العلماء والمراقبين الذين لا يقبلون ذلك في المقام الأول. ولكن إذا كنا نتساءل ببساطة عما إذا كانت الأفكار الأساسية التي تحدد أطروحة ما بعد الإسلاموية لها أهمية دائمة بشروطها الخاصة في أعقاب الاضطرابات الأخيرة في العالم العربي، فإن الإجابة هي نعم؛ ذلك لأن ما بعد الإسلاموية لم تكن أبداً مجرد تفسير لما إذا كانت الأحزاب السياسية ذات الهوية الإسلامية حاضرة و/ أو ناجحة في المجال السياسي الرسمي. بدلاً من ذلك، تسعى ما بعد الإسلاموية إلى فهم العلاقة بين السياسة الإسلامية الرسمية والمساحات الأخرى التي تسعى فيها مختلف الجهات الفاعلة والشبكات والحركات إلى تحقيق أجندات اجتماعية محددة وفقاً للإسلام.
بيتر ماندافيل*
الرابط:
https://pomeps.org/is-the-post-islamism-thesis-still-valid
* بيتر ماندافيل هو مدير مركز علي فورال آك للدراسات الإسلامية العالمية وأستاذ مشارك في العلوم الحكومية بجامعة جورج ماسون وزميل أول غير مقيم في دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكينجز. ماندافيل هو مؤلف كتاب “الإسلام السياسي العالمي” (2007) و”السياسة الإسلامية عبر الوطنية: إعادة تصور الأمة” (2001)، وهو أيضاً محرر مشارك في كتاب “السياسة من بعيد: الشتات والشبكات العابرة للحدود الوطنية” (2012).