كيف يمكن للسلفية الأوروبية أن تجعلنا نفكر في تصنيف جديد للسلفية؟
محمد علي عدراوي*
يركز هذا المقال على السلفية المعاصرة في السياق الأوروبي. يدرس كيف يمكننا تحديد ووصف وتصنيف الأشكال الرئيسة للتدين السلفي في سياق دول أوروبا الغربية. علاوة على ذلك، ومن خلال دراسة العلاقة بالسياسة والدعوة والعقيدة والممارسة التقليدية في العديد من المجتمعات الأوروبية، يساهم هذا التحليل في النقاش حول نماذج السلفية الرائجة، ويقترح طرائق جديدة لتصور وتمييز أشكال الارتباط بهذه الرؤية للإسلام في سياق البلدان التي يشكل فيها أقلية، كما يُظهر أن التيارات الأصولية والراديكالية أصبحت أكثر تمسّكاً بالسلفية، رغم أو بسبب الاهتمام الكبير الذي تحظى به من قبل السلطات العامة ووسائل الإعلام.
مقدمة
السلفية المعاصرة هي نموذج لعولمة الدين؛ فمن مجتمعات الخليج إلى العديد من الدول الغربية، ومن إندونيسيا إلى أذربيجان ونيجيريا، أصبحت الأشكال الأصولية والمتشددة لممارسة الإسلام اليوم ناجحة للغاية، حتى إنها أصبحت موضوعاً للنقاش العام. وهذا هو الحال بشكل خاص في جميع أنحاء أوروبا الغربية. وتُظهر المقترحات التشريعية التي تهدف إلى حظرها في بعض الدول الأوروبية ـ فرنسا وهولندا ـ أن السلفية تثير مخاوف كبيرة على الساحة السياسية، وفي وسائل الإعلام، والمجتمع الأمني.
يلقي هذا المقال الضوء على المسألة السلفية في الغرب؛ أي على العرض الأصولي والمتشدد والراديكالي للإسلام الذي ولد خارج الحدود الغربية، ولكنه يظهر بشكل متزايد في هذا الفضاء الاجتماعي والسياسي الذي يتميز بشكل أساسي بالقيم الليبرالية والعلمانية. المسلمون أقلية يرتبط وجودها بموجات الهجرة التي يعود تاريخها إلى القرن الماضي، وهم ممثلون بشكل كبير بين المجموعات المهمشة اجتماعياً واقتصادياً وبين التركيبة السكانية الأصغر سنّاً. داخل المجتمعات الإسلامية، حيث يوجد تنوع ثقافي كبير، غالباً ما تكون السلفية (وهي في حد ذاتها متعددة ومجزأة كما سنرى) مرادفة للتمزق ومعارضة القيم السائدة في المجتمعات الأوروبية. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكنها تحتاج إلى استكمالها بتحليل أكثر تفصيلاً للخصائص الاجتماعية التي تجعل المسلمين في الغرب يختارون هذه الرؤية للإسلام في مرحلة معينة من حياتهم. إن توضيح خطاب وممارسات الفاعلين ومساراتهم الاجتماعية والأسباب التي تجعلهم يقولون إنهم يتعاطفون مع السلفية هو الطريقة الأكثر موضوعية لتقييم الظاهرة التي تشكل بالتأكيد تحدياً للمجتمعات الغربية.
وبوصفها عرضاً دينياً معولماً ومتجذّراً في الواقع المحلي، تجسد السلفية خطاباً يتكيف مع بيئات مختلفة ويعرف كيف يقترح حلولاً بسيطة وراديكالية لمختلف المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية المطروحة. إن فهم السلفية وتأثيرها في مجالات معينة داخل المجتمعات الغربية المعاصرة يعني التشكيك في قدرة رجال الدين التقليديين على بناء ثقافة مضادة محلية وعالمية على حد سواء، واقتراح استجابات مكيفة وواضحة للتوترات الفردية والجماعية المتنوعة في المنطقة، وهو الوقت الذي غالباً ما تملأ فيه المدينة الفاضلة الدينية الفجوات التي خلفتها الحداثة الفاشلة على ما يبدو.
الخطوط العريضة لسوسيولوجيا المجتمعات السلفية في أوروبا
من الصعب للغاية إحصاء عدد المسلمين في المجتمعات الغربية الذين قد يتماثلون مع المعايير السلفية. ولأن السلفية ليست حركة سياسية منظمة ذات عضوية كبيرة، ولا كنيسة منظمة حول هدف وقواعد انتماء واضحة، فإنها غالباً ما تفلت من التحليلات التفصيلية. إنها، في الواقع، تدين شبكي، حيث إن البنية الاجتماعية التي يتم ملاحظتها في أغلب الأحيان هي تلك الخاصة بالداعية الذي يروج، بشكل مباشر أو عبر الإنترنت، للتفاسير الدينية للمجتمعات الصغيرة ويعيد بدوره إنتاج المعايير المتداولة مادياً (الكتب والنشرات والتسجيلات الصوتية) وشفهياً من خلال الدورات والمؤتمرات التي تعقد في المسجد والمنزل. ومن خلال هذه المسارح الصغيرة للدعوة السلفية، شهدت بعض البلدان منذ تسعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي حدثت موجة من عولمة الخيال على الإنترنت، ووصلت الأجيال الشابة، التي غالباً ما جاءت من الدول الإسلامية، إلى سن الرشد، تزايد ظهور هذا النمط من التدين. وهكذا، ظهرت ثقافة سلفية مضادة حقيقية في أوروبا في أماكن عبادة محددة تنتظم حولها مجتمعات متدينة صغيرة، توحدها أعراف وقوانين اجتماعية تتناقض مع العادات الاجتماعية للأغلبية، وترتبط بدلاً من ذلك برجال الدين الموجودين في أغلب الأحيان في البلدان الإسلامية. مثل السعودية. وفي الوقت نفسه، صممت هذه الثقافة المضادة أسلوب حياة داخل مجتمعها الأكبر يتحدى أو يرفض عمداً سلوكيات وقيم وأعراف الثقافة السائدة. وعلى الرغم من التركيز السياسي والإعلامي الكبير على نمو السلفية في أوروبا، فإن فرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا والسويد وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا وإيطاليا ليس لديهم سوى عدد قليل من المسلمين ذوي التوجهات السلفية، وهؤلاء لا يمثلون سوى أقلية متطرفة مقارنة بإجمالي السكان المسلمين الذين يعيشون في أوروبا. ولا يوجد مسجد كبير في أوروبا يمكن القول إن الإمام الذي يتولى الإمامة فيه ذو توجه سلفي. الشكل الأكثر شيوعاً هو مكان عبادة صغير إلى حد ما على أطراف مراكز المدن (روزنغارد في مالمو، تراب بالقرب من باريس، برادفورد بالقرب من ليدز)، حيث تعيش مجتمعات مسلمة كبيرة، وحيث تنخرط مجموعات سلفية صغيرة نسبياً في الوعظ اليومي لعائلاتهم وأصدقائهم وتنظيم المناسبات في المساجد أو توزيع الكتب. والهدف هو التعريف بالسلفية والترويج لها بقدر ما هو الابتعاد عن أشكال الإسلام الأخرى مثل التبليغ أو الصوفية أو الإخوان المسلمين التي تعتبر منحرفة، وكذلك الابتعاد عن بقية المجتمع.
وعلى مستوى التركيبة الاجتماعية لهذه المجتمعات المتزمتة، هناك ثلاث خصائص عامة تستحق تسليط الضوء عليها. أولاً، تنتشر السلفية بشكل رئيس بين الأجيال الشابة، وبشكل أكثر تحديداً المراهقين والشباب. إن الشباب هم أكثر من يتعاطف مع هذه الأخلاق المتطرفة، ومن النادر أن يجد المرء ممثلين للجيل الأول من المهاجرين من العالم الإسلامي إلى أوروبا في الجماعات السلفية. ومن خلال صياغة علاقتهم بالدين الإسلامي بعبارات أكثر تضارباً من آبائهم، وتغذية الإحباطات النسبية المرتبطة بعلاقتهم الصعبة في كثير من الأحيان مع بيئتهم الاجتماعية، أصبحت الأجيال الشابة جهات فاعلة في النقاش الديني. ومع ذلك، فإن التدين الذي يتبنونه في بيئتهم الاجتماعية يدفعهم إلى الاعتراف بأنفسهم في أشكال أكثر تصلباً، حيث يتم استبعاد الأشكال التقليدية للإسلام أخلاقياً ومن حيث الهوية؛ لأنها ليست “نقية” بما فيه الكفاية أو لكونها “تصالحية” للغاية مع المجتمعات الأوروبية التي من المفترض أنها تجسد “النقيض” للقيم الإسلامية “الحقيقية”. ويصبح هذا أكثر وضوحاً إذا نظرنا إلى أكثر أشكال السلفية عنفاً، كما يتضح من الصورة الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية للجهاديين الأوروبيين الذين يغادرون للمشاركة في الصراعات في الشرق الأوسط أو يرتكبون أعمالاً إرهابية في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وهولندا. هناك اتجاه واضح نحو “الجهادية الشبابية” اليوم بالمقارنة مع الأجيال الماضية، حيث أصبح الشباب البالغين (أقل من 25 عاماً) يشكلون الآن غالبية مرتكبي أعمال العنف.
ثانياً، غالباً ما يتم تفسير الالتزام بالسلفية من قبل أولئك الذين اعتنقوها على أنه رغبة في الرد على شكل من أشكال انحراف العالم. ومن وجهة النظر هذه، تقدم السلفية نفسها على أنها دين “خالص” وليست مجرد تقليد ديني واحد من بين تقاليد دينية أخرى. وهذا يعني بالنسبة إلى أتباعها أنها طريق حصري. ولا يمكن أن يكون هناك مجال للاعتراف بهوية أخرى، على الأقل من الناحية النظرية. إن الحياة في المجتمع تمر عبر المنظور الثابت للحلال والحرام الذي يفترض أنه محدد وفقاً للإسلام “الأصولي”. وفي هذا، هناك بالفعل رغبة في تشكيل سلطة جديدة في الإسلام المعاصر تتمثل مهمتها في ممارسة الوصاية على المسلمين الذين لم يصبحوا سلفيين بعد، وقيادتهم نحو المعتقدات والممارسات السلفية. وبالتالي فإن الجماعة الوحيدة التي يعترف بها أتباعها هي جماعة المسلمين المؤمنين، الذين تحتكر الأصالة بينهم مجموعة واحدة فقط (السلفيون). وبالتالي فإن الطوائف السلفية تشبه نسبياً الطوائف الدينية التي تسعى باستمرار إلى تنقية وجودها والتخلص من “الشوائب” الموجودة في المجتمع الأوروبي. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك حظر التصويت، على سبيل المثال، وهو أمر محظور في أغلب الأحيان داخل المجتمعات السلفية في السياق الغربي، لأن المشاركة في الانتخابات الديمقراطية من خلال دعم مرشح أو حزب يعني التمسك بنظام “غير مقدس”: لا يمكن للبشر أن يقرروا شيئاً خارج القوانين الإلهية الواردة في مصادر الإسلام.
وأخيراً، يشير تحليل سوسيولوجيا السلفية إلى خصوصية هذا النمط من التدين المرتبط بمكان ودور المتحولين؛ أي الأشخاص المولودين خارج أسرة مسلمة. وقد وجد الباحثون أن السلفية هي الفرع الأكثر انفتاحاً من حيث الأصول العرقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمتحولين. وخلافاً للتيارات الإسلامية المرتبطة بقوة بالبلدان الأصلية للمهاجرين (المغرب أو تركيا أو الجزائر) أو برؤى أكثر سياسية وتنظيماً تهدف إلى التأثير على النقاش العام، مثل الجمعيات القريبة من جماعة الإخوان المسلمين، فإن السلفية تحظى بنسية كبيرة من المتحولين. ينجذب المتحولون إلى رسالة البساطة والمساواة التي يمكن من خلالها أن يصبح الشخص المولود بلا خلفية إسلامية إماماً أو يقوم بالتدريس للجميع بشرط أن يكون لديه معرفة دينية، ويمثل المتحولون ما متوسطه 25-30٪ داخل الجماعات السلفية حسب البلد. ويمكن ملاحظة ذلك على سبيل المثال في الاستراتيجيات الزوجية للسلفيين الذين يسعون، أثناء اختيار الزوج، إلى الإخلاص لمبادئ العقيدة وليس الأصل الوطني المشترك أو تحقيق رغبات الوالدين.
نحو تصنيف للسلفية في السياق الأوروبي
إن الدعوة هي جوهر التنشئة الاجتماعية في المجتمعات السلفية. ومن أجل الدفاع عن الفهم “الأصيل” لوحدانية الله وتعزيزه، يجب العودة إلى الفهم الأصولي للقرآن والسنة وآثار السلف الصالح. تتصور المجتمعات السلفية وسائل وغايات سياسية قد لا تتباعد فحسب، بل قد تكون عدائية في بعض الأحيان. ومن أجل تنقية دينهم مما يبدو أنه “بدعة” أو حتى “كفر”، يلجأ السلفيون، سواء أكانوا أتباعاً عاديين، أو رجال دين مسؤولين عن تقديم النصائح الدينية وتنظيم الدعوة، أو نشطاء أكثر تسييساً، أو حتى عنيفين، إلى تصور أساليب الحياة المشروعة (الحلال) أو غير المشروعة (الحرام)، أو المبادئ أو الأهداف السياسية التي تقودهم إلى صياغة رؤى متباينة للسلفية التي قد تتعارض مع بعضها البعض. وهكذا، بالإضافة إلى النموذج الأصولي، فإن السلفية هي أيضاً مساحة للنقاش الذي قد يكون خبيثاً في بعض الأحيان، والذي يمكن أن يصل إلى حد إعلان “التكفير” في نقاط معينة، لأن الرغبة في العودة إلى الإسلام “الأصيل” تدفع نحو التزمت على نحو أكثر حدة.
ويترتب على ذلك أنه تم وضع العديد من التصنيفات في السنوات الأخيرة لتسليط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين الفهم المعاصر للسلفية. وأشهرها بلا شك تصنيف كوينتان فيكتوروفيتش، الذي تتمثل مساهمته الرئيسية في التمييز بين الأشكال الحالية للسلفية في ضوء خطابها السياسي، لا سيما فيما يتعلق بمسألة العلاقة بالعنف والنشاط السياسي والسلطة. كل هذه التصورات حول العودة الضرورية إلى السلف الصالح مبنية على التعريف الجذري للتوحيد، ومكافحة البدع في الأمور الدينية، ومبدأ الولاء والبراء. لقد ظهرت اختلافات عميقة حول محتوى هذه المفاهيم، مما ساهم ليس في تفتيت السلفية المعاصرة فحسب، ولكن أيضاً في “المسامية” الأيديولوجية وحتى الاجتماعية بين التيارات المختلفة التي تدعي أنها جزء من السلفية.
يُظهر التصنيف المذكور سابقاً ثلاثة فروع للسلفية. الأول عنيف بشكل متعمد ويقدم قراءة تمردية وقتالية بشكل منهجي لمفهوم الجهاد. تعكس هذه الرؤية ديناميكية قيادة المسلمين للتوافق مع روح ونص دينهم، وتتجسد في حركات مثل تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، وهي تستبعد السياسة بالمعنى المؤسسي للمصطلح (الأحزاب والانتخابات والمؤسسات التمثيلية التي تضع القوانين) لصالح استراتيجية عنيفة لبناء نظام سياسي جديد: الخلافة. ويشترك الفرع الثاني في نفس الهدف المتمثل في إعادة السيادة الحصرية لجميع المسلمين، ولكن من خلال أخلاقيات سياسية وطنية وليست عابرة للحدود القومية، والتي تضفي الشرعية على المنافسة الانتخابية، حيثما أمكن ذلك وتسعى إلى إنشاء حزب سياسي للدفاع عن سياسات ومصالح السلفيين وتعزيزها. وهذا لا يعني إضفاء الشرعية على الديمقراطية؛ لأن الفوز الانتخابي السلفي من شأنه أن يقود السلفيين ببساطة إلى تفكيك المؤسسات الديمقراطية. أما النسخة الثالثة، فتنظر، من جهتها، إلى السياسة بعين الريبة والرفض. وترى أنه يجب على المسلمين أن يركزوا جهودهم لجعل المجتمع يتطور نحو المزيد من التوافق مع التعاليم الدينية “الأصيلة” بالوعظ الديني البحت (الدعوة)، بعيداً عن أي نشاط سياسي. ومع ذلك، فإن هذا النهج، وفقاً لهؤلاء السلفيين “الهادئين”، يجب أن يأخذ في الاعتبار شرطاً رئيسياً، وهو الحفاظ على النظام الاجتماعي الذي بدونه لن تكون هناك أي ممارسة دينية أو أمن للمجتمع المسلم (الأمة). وبهذه الطريقة، فإن أي نظام لا ينكر الإسلام صراحةً (حيث يشكل الإسلام الأغلبية) يجب طاعته. أما في سياق الأقلية المسلمة، كما هو الحال في السياق الأوروبي، فإن الممارسة “الأرثوذكسية” الأكثر تشجيعاً هي “الهجرة”، والتي تهدف إلى فصل المؤمن معنوياً وجسدياً عن البيئة المعادية للإسلام، والتي تعرضه لخطر الانحراف عن الدين.
إن ظهور المعايير السلفية والخيال السلفي وتأثيرها الذي لا جدال فيه في العديد من المجتمعات على مدى السنوات القليلة الماضية يسلط الضوء على ظهور شكل تصنيفي آخر، مما يجعل تصنيف فيكتوروفيتش أقل أهمية لفهم السلفية المعاصرة. وبسبب تنوع أشكال التمسك بالسلفية، فمن الضروري اليوم النظر في الحساسيات السلفية، وليس فقط التيارات التي يمكن تحديدها بوضوح. ويرجع ذلك إلى التخفيف الأيديولوجي للهدف الإحيائي في سرديات المجموعات المختلفة التي تطبق سلفيتها في الحياة اليومية وفقاً لممارسات وأساليب مختلفة بشكل متزايد في المجال الاقتصادي، أو في المجال السياسي، أو على أساس قواعد ثقافية محددة. علاوة على ذلك، مع ظهور عالم افتراضي تكون فيه الهويات والتعبئة غير إقليمية في إطار نشاط شامل دون أجندة سياسية محددة، فإن المجتمعات الأخرى التي تدعي أنها تعيش وفقاً لأسلوب الحياة السلفي تكون قد انكشفت واكتسبت سمعة سيئة. وإذا كان السعي، على المدى الطويل، إلى البحث عن سيادة سياسية حصرية لجميع المسلمين، هو هدف دائم للسلفيين، فإن استراتيجية دخول المجال العام (هنا افتراضياً)، وليس الاستيلاء على السلطة، هي التي تميز هذا الفهم للسلفية. وبالتالي، عززت كل هذه الديناميكيات السلفية كرمز للقطيعة والمعارضة مع البيئة الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن إنتاج تأثير مخفف لهذه المنظومة، حيث أصبح من الصعب الآن التحدث عن تيارات ذات أجندة واضحة واستراتيجية محددة. وعلى المستوى العالمي اليوم، أصبحت السلفية لغة للمعارضة بدلاً من أن تمثل عرضاً إيديولوجياً متجانساً.
وبالتالي، فإن التصنيف في السياق الغربي يتطلب التمييز بين ثلاث طرائق سلفية للمعارضة ورد الفعل على القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة. إذا كان الأمر يتعلق دائماً بالدعوة بهدف قيادة النظام الاجتماعي نحو المزيد من الهوية والإخلاص الأخلاقي والقانوني للمعايير الإسلامية المفهومة بطريقة أصولية، فإن العلاقة بالنظام الغربي (أو الفوضى) هي ما يعزز الاختلافات الرئيسية بين المجتمعات السلفية في أوروبا وأمريكا الشمالية اليوم. ويمكن ملاحظة ثلاثة أنماط من رد الفعل.
بداية، لا بد من التأكيد على وجود سلفية “محافظة”، هدفها المعلن هو الحفاظ على النظام السياسي القائم. وهذا يعني أن هذه الرؤية قد تسعى بنشاط إلى الحفاظ على نظام أو دولة أو حكومة حتى لو كانت مبنية على قيم علمانية وليبرالية. فالسياسة هنا مساحة لا ينبغي الدخول إليها مطلقاً وإلا ضاع كل شيء وحدثت الفتنة. تكفي الأخلاق الدينية لتكون مؤمناً “أصيلاً”. ليس من الضروري تأسيس حزب، أو ممارسة العنف الجسدي، أو احتلال الفضاء العام بطريقة طوعية وأنانية من أجل التأثير على القرارات السياسية داخل بلد ما أو على المناقشات الاجتماعية بشكل عام. إن الدفاع عن الإسلام في هذه الحالة يكون فردياً ومحلياً، وليس من الضروري تحويل العدد الأكبر من المجتمع إلى السلفية.
السلفية الثانية التي تظهر اليوم هي سلفية “التحول من خلال العنف”. الهدف من هذا النوع من السلفية في أوربا هو محاولة ممارسة تأثير جذري ومتطرف على القرارات العامة مثل السياسة الخارجية للدولة وحشد جميع المسلمين حول هذه الأجندة. فالصراع السياسي والعنف هو القاعدة، ولا مجال للدخول في ترتيب طويل الأمد مع النظام السياسي القائم كما هو الحال مع السلفية المحافظة. إن السلفية التحويلية قصيرة النظر وتزعم أنها مبنية على التمييز بين “المسلمين الحقيقيين” و”أعداء الإسلام”، حيث يتعين على من يوجدون في الوسط أن يختاروا الجانب الذي يقفون فيه. يُعتقد أن منصب السلطة قد يكون فارغاً، وهذه الفئة من السلفيين تفكر في احتلاله، على عكس المحافظين، الذين يعتبرون الأخلاق الدينية بمثابة سعي فردي إلى الحفاظ على نقاء العقيدة. تشير سلفية التحول هذه إلى الجهد المبذول للتغيير من الأعلى، أي تغيير هياكل الدولة في السياق الأوروبي من خلال العنف باسم الجهاد. ومن هذا المنظور، من الممكن أن تصبح أوروبا ذات يوم قارة إسلامية بالكامل، في حين تعترف السلفية المحافظة بالاختلاف في الثقافة والدين بين أتباعها والمجتمعات الغربية.
وأخيراً، هناك السلفية “التخريبية” التي لا يشكل السعي إلى السلطة السياسية أولوية لها. إنها حركة اجتماعية وثقافية هدفها هو الظهور في الفضاء العام من خلال “الاقتحام”، وتتواجد في العديد من الدول الأوروبية مثل بلجيكا مع منظمة “الشريعة من أجل بلجيكا”، أو المملكة المتحدة مع منظمة “الشريعة4″، أو فرنسا مع منظمة “فرسان العزة”. هذه السلفية تفضل أعمال مثل المظاهرات أمام السفارة الأمريكية في باريس أو لندن، والصلاة في الشوارع والساحات العامة، وتوزيع المنشورات لتوعية الآخرين بأجنداتها، أو على العكس من ذلك، إدانة تصرفات حكومة معينة، أو بشكل أعم، الأعراف السائدة في الدول الغربية. يتم إهمال الدعوة بالمعنى الديني البحت إلى حد ما لفرض ما يمكن تسميته “الظهور العسكري” على بقية المجتمع، ولكن ليس بالضرورة سعياً إلى السلطة. ويبدو أن هذا الهدف، على الرغم من استخدام الشعارات الاستفزازية التي تسعى إلى جذب الانتباه، يزيد من استقطاب المعسكرات المتعارضة أكثر من التعبئة حول مشروع سياسي مشترك للوصول إلى السلطة. تتمحور الدعوة هنا حول مجموعات مسلحة صغيرة لا تنشر عقيدتها بقدر ما تنشر شكاواها بشأن ما يمثله الغرب من الناحية السياسية أو الرمزية.
السلفية في أوروبا أم السلفية الأوروبية؟ الراديكالية الإسلامية المعاصرة بين العولمة والمحلية
على الرغم من عدم وجود دراسات إحصائية حول العدد الدقيق للمسلمين الذين ينتمون إلى التيارات التي تعد أصولية بشكل عام في المجتمعات الأوروبية، فإن العديد من العلماء يتفقون على أن السلفية هي “الوجه” الرئيس للإسلام الراديكالي في هذا الجزء من العالم اليوم. لكن الوضع يختلف من بلد إلى آخر بسبب الحرية الدينية الممنوحة للمؤمنين، والخوف من الأشكال المتطرفة للإسلام، ونجاح الدعوة السلفية على أرض الواقع. علاوة على ذلك، توجد اختلافات بين البلدان عندما يتعلق الأمر بملفات الجهات الفاعلة السلفية والمجتمعات المستهدفة. على سبيل المثال، قامت السلفية بتجنيد أتباعها الرئيسيين في مجتمعات مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا من الجاليات المغاربية، بالإضافة إلى النسبة الكبيرة والمنتظمة من المتحولين إلى الإسلام الموجودة في جميع البلدان الأوروبية. التوجه السلفي موجود إلى حد ما بين الأجيال الشابة من المهاجرين البوسنيين أو الألبان في سويسرا أو الدول الاسكندينافية أو الجاليات الهندية والباكستانية والبنغلادشية في المملكة المتحدة. ومن ناحية أخرى، تظل السلفية هامشية بين الجاليات ذات الأصل التركي المقيمة في ألمانيا وبقية أوروبا، مما يوضح حقيقة أن السلفية هي إسلام العولمة، بعيداً عن التنظيمات المرتبطة بدول معينة ترغب في تصدير أشكال وطنية إسلامية إلى جالياتها في الخارج.
إن السلفية في أوروبا هي في المقام الأول نتيجة لديناميكية عابرة للحدود الوطنية؛ وذلك بفضل السياسات التسويقية التي نفذتها المملكة العربية السعودية. لقد بذل السعوديون قصارى جهدهم منذ النصف الثاني من القرن العشرين لتصدير المعايير السلفية وإبرازها في جميع أنحاء العالم الإسلامي وخارجه. في المملكة العربية السعودية، وبسبب العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة والموارد المالية الهائلة المتاحة لها، كان النظام الملكي، لعدة عقود، أصل مؤسستين موجهتين نحو تصدير الخيال السلفي، هما رابطة العالم الإسلامي التي تأسست عام 1962 لتعزيز مكانة المملكة العربية السعودية في العالم الإسلامي في وقت كانت القومية العربية منافساً أيديولوجياً خطيراً، ومنظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي الآن) التي تأسست عام 1969 للدفاع عن الهوية الإسلامية والمساعدة على ممارسة الإسلام في جميع أنحاء العالم. وكان لهذه الشبكات المؤسسية في المجال الإسلامي العالمي عواقب وصلت إلى أوروبا، حيث مكنت العديد من دور العبادة والمؤتمرات وتوزيع الكتب وتمويل التدريب الديني لعدة عقود من الزمن الأفكار السلفية من التطور والبروز. على سبيل المثال، تم افتتاح مكاتب رابطة العالم الإسلامي في فرنسا عام 1974، مما أتاح تمويل دور العبادة، بما في ذلك دار مانت لا جولي بالقرب من باريس، حيث يقع جزء من المقر الفرنسي للرابطة. وفي سويسرا، تمول الرابطة مسجد جنيف وجمعية جنيف الثقافية الإسلامية. وفي بلجيكا، تتألف السلطة التنفيذية الإسلامية، وهي الهيكل الرئيسي الذي يمثل المؤمنين في ذلك البلد، جزئياً من أشخاص يمثلون المساجد التي تم تأسيسها بدعم من الرابطة. كما تم تدريب العديد من الشباب المسلمين الأوروبيين، من خلال المنح الدراسية وأشكال مختلفة من المساعدات الاجتماعية مثل السكن التي قدمتها الرابطة منذ الثمانينات. واستقبلت الجامعات الإسلامية في المدينة المنورة ومكة عدة آلاف من الأشخاص من أوربا، أصبح بعضهم أئمة أو دعاة ينشرون نسخة سلفية من الإسلام مرتبطة بالهياكل الدينية السعودية وبتراث محمد بن عبد الوهاب، الإمام الذي دخل عام 1744 في تحالف سياسي ديني مع محمد بن سعود، جد الأسرة الحاكمة الحالية. ولهذا السبب، كثيراً ما يتحدث المرء عن “الوهابية” لوصف السلفية المستوحاة من السعودية، على الرغم من أن هذا الاسم يتعرض لانتقادات شديدة من قبل رجال الدين السعوديين، الذين يزعمون أنهم يمارسون الإسلام “الأصيل” دون أي ولاء خاص لإمام معين من المسلمين.
والسلفية القريبة من المؤسسات الرسمية السعودية هي في أغلب الأحيان سلفية “محافظة”. وفي حين أنه لفترة طويلة، يمكن للآراء الدينية، وبشكل عام، وجهات النظر الدينية الخيالية حول هذا الشكل من السلفية، أن تشجع رسمياً أتباعها الأوروبيين على رفض العديد من الأعراف الاجتماعية والثقافية للأغلبية (مصافحة المرأة، البحث عن وظيفة لا تسمح بممارسة الإسلام بطريقة صارمة)، شهدت السنوات الأخيرة اعتدالاً من جانب العديد من رجال الدين السعوديين الذين أصبحوا الآن أكثر وعياً بأن أعين الدول الأوروبية مركزة عليهم.
وبالإضافة إلى تغير القيادة السياسية على رأس السعودية منذ ظهور الأمير محمد بن سلمان، فإن الضغوط الدولية على رجال الدين السعوديين الرسميين، وهم قيادات السلفية “المحافظة” العالمية، أدت إلى أزمة حقيقية في الهوية الدينية بسبب التوتر الذي أصبح الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى بين ضرورة الاستمرار في ممارسة الدعوة التقليدية والرغبة في عدم الظهور كمتواطئين مع هؤلاء السلفيين الذين يدعون إلى التحول من خلال العنف. وهكذا، فإن مسلمي أوروبا الذين يتماهون مع هذه النسخة المحافظة من السلفية غالباً ما يبتعدون عن المشاركة في مجتمع الأغلبية، ويطورون أسلوب حياة يتأرجح بين التمزق الثقافي والعزلة الاقتصادية. إن رفضهم لـ “الكفر” يدفعهم، للمفارقة، إلى العزلة الاقتصادية وتأسيس مجتمعهم الخاص (المتاجر المحلية، وكالات الحج، المكتبات الإسلامية) من أجل الهروب من قيود الأنشطة المهنية مع غير المسلمين.
من ناحية أخرى، تتمحور السلفية التخريبية حول مجموعات صغيرة لا تدير دور عبادة (مع استثناءات قليلة)، ولكنها تنشط في مواجهة مع مجتمع الأغلبية. هذا هو، على سبيل المثال، حالة منظمة الشريعة من أجل بلجيكا، وهي منظمة يديرها فؤاد بلقاسم (يستخدم كنية أبو عمران)، وتأسست عام 2010 (ولكن تم حلها)، والتي يتظاهر أعضاؤها بانتظام اليوم كأعضاء في جمعيات أخرى لفرض آرائهم الدينية في الفضاء العام دون الانخراط في المناقشات السياسية التقليدية أو تشكيل تنظيم أو هيكل حزبي تقليدي. تختلف السلفية التخريبية عن السلفية التحويلية من حيث إنها لا تدعو إلى العمل المباشر. وفي حين أن هذا لا يعني أنه لا توجد استراتيجية لفظية ومفاهيمية لتبرير العنف، فإن السلفيين التخريبيين هم أولاً وقبل كل شيء جهات فاعلة في المجال السياسي والديني يعلنون باسمهم من هم، وأنهم لا يوافقون على ما يفترض أن الغرب يفعله بالإسلام والمسلمين.
وأخيراً، أصبحت السلفية التحويلية مصدراً للنقاشات الساخنة في المجتمعات الأوروبية المعاصرة. ولا شك أن السلفية التحويلية من خلال العنف الذي يردد الصور الجهادية هي التدين الذي يثير معظم الأسئلة والمخاوف. إن حجم الظاهرة؛ أي إن ما بين 10 آلاف و20 ألف شخص من القارة الأوروبية أصبحوا مقاتلين أجانب في العالم العربي يقودنا إلى النظر في ديناميكيتين مهمتين. فمن ناحية، وعلى عكس ما لوحظ حتى بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تحدث الجهاديون عن الحاجة إلى تنقية الأخلاق والعقيدة، يبدو أن هناك انفصالاً متزايداً بين الأصولية والعنف. وبعبارة أخرى، أصبح الجهاديون نشطاء عنيفين على نحو متزايد ومؤمنين أقل تزمتاً، على الأقل من حيث ممارساتهم الاجتماعية والدينية. وفي حين أنهم ما زالوا يروجون لموضوعات التعبئة التقليدية مثل الخلافة والشريعة، فمن الناحية الاجتماعية، هناك المزيد من الجهاديين القادمين من أوروبا دون رغبة واضحة في أن يكونوا أصوليين دينيين أو حتى يبدو عليهم الاهتمام بالإسلام. وفي هذا الصدد، هناك تطور حديث للجهادية يقودنا إلى النظر في القطيعة المحتملة بين السلفية والجهادية على المدى الطويل إذا استمرت نفس التطورات. من ناحية أخرى، يعد الإرهاب الحالي جزءاً مما يمكن تسميته بالنموذج الفيروسي، حيث أنه، باستثناء هجمات باريس في 13 نوفمبر / تشرن الثاني 2015 وبروكسل في 22 مارس / آذار 2016، هناك شكل من أشكال التكييف الأخلاقي يسبق الفعل. القتال المسلح هنا هو شكل من أشكال التثاقف قبل أن يكون ثمرة المشاركة العسكرية. يعمل الانتقال إلى العنف بطريقة فيروسية حيث يتم تقديم علاقة العداء أو تعزيزها لدى بعض الأفراد الذين سيجدونها قد تراجعت في سياق علاقة عنف غالباً ما يكونون هم أنفسهم المصممين لها. هناك بالفعل قدر كبير من الإبداع الشخصي هنا؛ لأنه على الرغم من أن الخطوط الأيديولوجية معروفة (حالة الحرب الدائمة، تحديد العدو)، فإن التفاصيل العملية للعمل الإرهابي تُترك لمرتكبه. ومن ثم، فإن الأمر لا يتعلق بالعمل المدعوم بقدر ما يتعلق بالملكات الإرهابية التي يتم استفزازها. يتم نشر العداء تجاه الآخرين في شكل جهادي عندما كان من الممكن أن يظهر في شكل عنف رمزي أو لفظي أو جسدي (أكثر كلاسيكية). ويبدو أن التطرف الإرهابي هنا يتبنى الأجندة الجهادية كما طرحها تنظيم الدولة الإسلامية، ولكنه في الواقع تحدده عوامل أكثر تعقيداً. وهكذا تجد أي ظاهرة عداء (حتى العداء غير الديني) تعبيراً عنها في خيال تبلور في جزء آخر من العالم. ومن ثمة، فإن تنظيم الدولة الإسلامية يوفر الظروف اللازمة لتحويل التوترات الاجتماعية أو التوترات الشخصية القائمة إلى قتال مقدس. وفي هذا، تكون فرص الجهاد المسلح أكثر أهمية لأنها مفتتة ومجزأة من حيث السير الذاتية للجهاديين. إن مسار المسلم الحساس للخطاب المتطرف يمكن أن يقوده التطرف إلى ترجمة الإحباطات والقلق الذي يدفعه إلى رؤية بيئته من خلال منظور ديني إلى خيال جهادي. إن التماثل بين التوترات النفسية الشخصية والرغبة في الدفاع عن الدين في أجزاء أخرى من العالم يفسر الكثير من التطرف الإرهابي المنتشر حالياً. وبعد أن أصبحت التفاعلات المحلية مشبعة بصراع أيديولوجي عابر للحدود الوطنية، فقد تؤدي إلى تحول بعض المسلمين إلى “الجهاد”. ومن ثم، فإن الجيل الحالي من الجهاديين لا يعمل كثيراً من خلال “صراع” ملموس في جزء واحد من العالم بقدر ما يعمل من خلال الدخول في “مواجهات” عنيفة مع العلاقات الاجتماعية والتوترات داخل المجتمعات التي غالباً ما لا تكون حتى ذات أغلبية مسلمة.
خاتمة: أوروبا فرصة لتجديد شباب السلفية؟
هل تستقر السلفية الأوروبية أم إنها ستظل تديناً متشدداً ومتعنتاً يتطور إلى حد كبير في شبكات معولمة دون أجندة حقيقية موجهة بشكل صحيح نحو مجتمعات أمريكا الشمالية وأوروبا؟
العنصر الأول واضح: السلفية ليست، وربما لن تكون أبداً، حركة مركزية مكرسة بالكامل لهدف محدد. السلفية هي إطار أصولي تجتمع فيه أجندات ومنهجيات متعارضة ومتناقضة في كثير من الأحيان. فكيف يمكن مثلاً، في إطار السلفية المحافظة، أن نمارس الدعوة في بلد، عندما يكون الأفق هو الرحيل إلى أرض الإسلام؟ في السلفية التحويلية، يؤدي استخدام الأشكال العنيفة إلى انجراف المزيد من الناس، كما نشهد بشكل متزايد في أوروبا، إلى التطرف بدلاً من العقيدة، وبالتالي التخلي عن سبب كونهم جزءاً من السلفية، أي المعتقد والممارسة المتشددين. ومن الواضح أن الجهاديين اليوم أصبحوا أقل سلفية ويفضلون العنف على العقيدة والممارسة التقليدية للعبادات الدينية. ومن جانبها، لم تحقق السلفية التخريبية أي نجاح سياسي ملحوظ، وهو ما قد يبدو طبيعياً؛ لأن وظيفتها هي “الاقتحام” الرمزي. بمعنى آخر، هذا الشكل الأخير من السلفية له بعد تافه أكثر من البعد السياسي المباشر، حيث إنه يتمحور حول المظالم الراديكالية والمتطرفة ضد المجتمع الغربي، ولكن من دون استراتيجية أو برنامج حكومي طويل الأمد. وفي هذه الحالة، عادة ما يحل الشعار محل البرنامج، ولم تقم أي مجموعة تمثل هذه السلفية التخريبية حتى الآن ببناء حزب سياسي، ولم تقرر أن تصبح فاعلاً سياسياً كلاسيكياً على غرار بعض الأحزاب المسيحية أو التنظيمات اليمينية أو اليسارية المتطرفة.
من المؤكد أن الحركات العنيفة ستظل نشطة ومرئية لسنوات عديدة قادمة، ولكن لم تنجح أي قوة دينية على الإطلاق في تحويل المجتمعات الحديثة من خلال العنف. السلفيون المحافظون، النشطون في أوروبا وأمريكا الشمالية منذ التسعينيات، موجودون، لكنهم لا يجمعون سوى بضعة آلاف من الأشخاص في كل بلد. وفي الوقت الحالي، يبتعدون عن النشاط السياسي. وأخيراً، يريد السلفيون التخريبيون التأثير على النظام العام، ولكن من دون أي قدرة حقيقية على التعبئة. ولذلك، فإن التطرف الصريح، لكنه غير قادر ديموغرافياً واجتماعياً على التأثير فعلياً على مسار الإسلام والمجتمعات الغربية، هو الذي يحدد السلفية في هذا الجزء من العالم. ولهذه الأسباب، وفي سياق الوضع الحالي، هناك سبب قوي للاعتقاد بأن السلفية ستضاف إلى القائمة الطويلة من الأصوليات التي تتحدى النظام الاجتماعي دون أن تتمكن أو حتى ترغب في تغييره أو تحويله عن حاله الطبيعي.
* أستاذ محاضر في العلاقات الدولية بمعهد الدراسات السياسية بباريس.
الرابط:
https://link.springer.com/article/10.1007/s11562-023-00515-y