تقارير ودراسات

الدين كأداة للقوة الناعمة: تصدير إيران للإسلام الشيعي الاثني عشري إلى سوريا

كجزء من جهودها الرامية إلى تعزيز “محور المقاومة” في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، تعمل إيران على توطين السكان الذين ينتمون إلى فرع الإثني عشرية من الإسلام الشيعي في سوريا.

بثت إحدى وسائل الإعلام المعارضة السورية مؤخراً مقطع فيديو على الإنترنت لشباب ينتهكون حرمة قبر معاوية، أول خليفة أموي، في مدينة دمشق القديمة. لقد اعتاد السياح الشيعة من العراق وإيران منذ فترة طويلة على زيارة دمشق للصلاة في أضرحتها، ولا يعد تسجيل النقاط بين السنة والشيعة بالأمر الجديد. ومع ذلك، فإن مثل هذه المشاهد تشير إلى ظاهرة أكثر معاصرة: محاولة إيران تحويل عناصر من المجتمع السوري نحو فرعها من الإسلام الشيعي.

حظيت شبكات الوكلاء الإيرانيين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط بتغطية إعلامية واسعة منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس. وكانت التقارير تميل إلى التركيز على شبكة الوكلاء العسكريين الإيرانيين، ولكن لم يتم الاهتمام بشكل كبير بدور إيران في هندسة المجتمع المدني. إن تصدير الإسلام الشيعي، وتحديداً فرع “الاثني عشرية”، هو أحد القنوات الرئيسة التي عززت من خلالها إيران “محور المقاومة” في الشرق الأوسط.

ومن الجدير بالذكر أن “المحور” يتجاوز حدود الإسلام الشيعي؛ فحلفاء إيران يشملون كلاً من نظام الأسد العلوي وجماعة الإخوان المسلمين السُنّية (التي تشكل حماس فرعاً منها)، وكثيراً ما تتخذ طهران مواقف تأخذ في الاعتبار العالم الإسلامي بأسره، وخاصة في تعاملها مع إسرائيل والولايات المتحدة. كما أن دعم الشيعة لإيران في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليس بالإجماع، كما أظهر الخلاف بين إيران ورجل الدين العراقي المؤثر مقتدى الصدر.

ولكن في سوريا، يهدف تصدير إيران للإسلام الشيعي الاثني عشري إلى نشر النفوذ الإيراني بطريقة مباشرة للغاية: العمل على توطين السكان الشيعة المؤيدين لإيران في ذلك البلد. وهذا يذهب إلى أبعد من جهود التبشير في لبنان، حيث عملت طهران على تسييس مجتمع شيعي اثني عشري قائم بالفعل.

المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون

إن الخريطة الطائفية في سوريا متنوعة، حيث تضم أغلبية سنية، فضلاً عن أقليات مسيحية وعلويين ودروز وشيعة إسماعيليين. ويشكل العلويون، إلى جانب الدروز والإسماعيليين، نحو 13% من السكان، وهم يتمتعون بامتيازات معينة في نظام يدين بالولاء لأسرة الأسد العلوية. ويختلف العلويون والشيعة الاثنا عشر عن السنة في اعتقادهم أن الإمام علي والأئمة الأحد عشر من بعده، هم القادة الشرعيون للمجتمع الإسلامي بعد النبي محمد. ومع ذلك، تختلف العقيدة العلوية بشكل ملحوظ عن الإسلام الشيعي الاثني عشري في احتفالها بأعياد الميلاد، وتفسيرها لأركان الإسلام مثل الصوم والزكاة، والإيمان بالتناسخ (انتقال الروح بعد الموت).

وبعيداً عن أوجه التشابه الطائفية القليلة، ظلت إيران واحدة من أقرب حلفاء عائلة الأسد منذ الثورة الإيرانية عام 1979، حيث قدمت لهم الدعم العسكري وخط ائتمان طويل ساعد على إبقاء بشار الأسد طافياً خلال الحرب الأهلية السورية. وفي مايو/ أيار من العام الماضي، زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي دمشق لأول مرة منذ عام 2011، في وفد ضم وزراء النفط والدفاع والخارجية والاتصالات الإيرانيين، معلناً: “ستقف إيران دائماً إلى جانب سوريا”.

لقد مهد الانهيار الاجتماعي والنزوح الديمغرافي في سوريا في زمن الحرب الطريق أمام إيران لتكثيف جهودها في “التشييع”، والتي سبقت الحرب الأهلية. وتشمل هذه الجهود إنشاء ما لا يقل عن 70 مركزاً دينياً وثقافياً شيعياً، وإعادة توطين الشيعة السوريين. وقد حدث أول مثال بارز على ذلك في عام 2017، عندما شجعت إيران، من خلال حلفائها في حزب الله، نقل الشيعة السوريين من قرى كفريا والفوعة في محافظة إدلب إلى مناطق سنية سابقة بالقرب من دمشق.

علاوة على ذلك، سهّل نظام الأسد على إيران تغيير التوازن الطائفي في سوريا. ففي عام 2014، أصدر بشار الأسد تشريعاً يقضي بتعليم المذهب الشيعي الاثني عشري في المدارس الحكومية السورية، وفي عام 2018، أنشأ مرسوم رئاسي مجلساً فقهياً يخصص حصة للشيعة الاثني عشرية، مما مهد الطريق أمام رجال الدين الأجانب لتولي مناصب دينية عليا. كما تم تخفيف قواعد التأشيرة للزوار من العراق وإيران، مما تسبب في ارتفاع حاد في أعداد القادمين إلى دمشق. وهذا أمر غير مسبوق في بلد لم يكن فيه أي أقلية شيعية اثني عشرية من قبل بحجم كبير.

وربما الأهم من ذلك، في عام 2018، أقر الأسد “قانون التجديد الحضري”، الذي مكّن الدولة من تأميم الممتلكات المهجورة، وبالتالي تسريع الاستحواذ الأجنبي على العقارات التي تُركت شاغرة في أعقاب القتال العنيف. وقد مثل هذا الضوء الأخضر للجهات التابعة لإيران للاستحواذ على ممتلكات للشيعة من العراق ولبنان وأفغانستان، في عملية تركزت على مواقع ذات أهمية دينية. وتشمل هذه المناطق محافظة دير الزور، حيث يُعتقد أن معركة صفين عام 657 قد وقعت، وخارج دمشق، حيث يقع قبر السيدة زينب بنت علي ومقبرة باب الصغير. الأولى هي المكان الذي هزم فيه معاوية الإمام علي وظهر فيه الانقسام السني الشيعي، والأخيرة هي أماكن مقدسة شيعية مهمة.

البناء على أرض مألوفة

إن توغل إيران في المجتمع المدني السوري يشبه نشاطها التبشيري في لبنان المجاور، وهي عملية استمرت عقوداً من الزمن وبدأت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. فقد دخل الحرس الثوري الإيراني المناطق الشيعية في وادي البقاع، بعد غزو إسرائيل لجنوب لبنان في عام 1982. وتبع الحرس الثوري المهندسون والمخططون في منظمة جهاد البناء، التي أشرفت على بناء البنية الأساسية والمرافق الطبية والمدارس، فضلاً عن توفير التدريب المهني والمساعدة الزراعية، في واحدة من أكثر المناطق حرماناً في لبنان.

كانت جهاد البناء ذات فائدة اقتصادية محدودة بالنسبة إلى طهران، ولكنها وفرت الركائز لتحالف طويل الأمد مع حركة أمل، ثم حزب الله في وقت لاحق. كما وفرت الدعوة الشيعية الدعم الداخلي، حيث احتوت خزانات المياه التي وفرتها جهاد البناء على شعارات عن أئمة الشيعة، في حين كان المشاركون في ورش التدريب الزراعي يُرسلون بشكل روتيني إلى المزارع النموذجية والأضرحة الشيعية في إيران لتعميق ارتباطهم بالإسلام الشيعي.

وكانت النتيجة إنشاء معقل إيراني في المناطق الشيعية التي يسيطر عليها حزب الله في جنوب بيروت وسهل البقاع، والتي تشكل الآن عنصراً أساسياً في “محور المقاومة” الإيراني ضد إسرائيل والغرب.

في لبنان، وفي العراق أيضاً، كانت إيران تتمتع بميزة وجود عدد كبير من الشيعة، وهو ما مكنها من ممارسة قوتها الناعمة بسهولة. وفي سوريا، كان عليها أن تبتكر، ففضلت إعادة توطين المناطق السنية سابقاً بالشيعة من العراق ولبنان وأفغانستان، وتحويل الأغلبية السنية تدريجياً. وكثيراً ما كان التحول يحدث بشكل سرّي، على أمل الحصول على معاملة أفضل من جانب الميليشيات المدعومة من إيران. وكما حدث في لبنان، وفرت منظمة جهاد البناء التي يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني، من خلال إنشاء البنية الأساسية فضلاً عن المرافق الصحية والتعليمية في المناطق المحرومة، أساساً متيناً يمكن التبشير من خلاله.

نهاية اللعبة الإيرانية

إن محاولات إيران لتغيير التوازن الطائفي في سوريا لا تُظهر أي مؤشرات على التراجع، ومن المرجح أن تستمر التغييرات التي أحدثتها بالفعل في المجتمع المدني السوري، نظراً لقوة الميليشيات التابعة لها في سوريا والنفوذ الممنوح للمنظمات الدينية الشيعية من قبل نظام الأسد.

لقد تراجعت أعداد السكان ذوي الأغلبية السنية في محافظتي دير الزور ودمشق بشكل ملحوظ منذ اندلاع الحرب في عام 2011. وحتى لو نجحت إعادة الإعمار في نهاية المطاف في استعادة بعض الحياة في سوريا ـ متى كان ذلك ممكناً ـ فإن السنة سوف يشعرون بحوافز أقل للعودة إلى مناطق تشبه إلى حدّ كبير محافظة إيرانية مقارنة بالوطن الذي تركوه وراءهم.

والأمر الحاسم هنا هو أنه بعد عقود من بناء الوكلاء والعمل التبشيري في لبنان والعراق واليمن، فإن ترسيخ موطئ قدم شيعي في سوريا من شأنه أن يعزز “محور المقاومة” الإيراني، ويفتح “هلالاً شيعياً” يمتد من البحرين، عبر إيران والعراق وسوريا، إلى وادي البقاع والبحر الأبيض المتوسط. ومن خلال هذا، ستواصل إيران استخدام القوة الخشنة، في شكل ميليشياتها بالوكالة، والقوة الناعمة، في شكل نفوذها على الأنظمة المتعاطفة والمجتمعات المدنية الخاضعة لها، للمناورة دون قيود.

الرابط:

https://www.rusi.org/explore-our-research/publications/commentary/religion-soft-power-tool-irans-export-twelver-shia-islam-syria

زر الذهاب إلى الأعلى