التداعيات الإقليمية لاتفاق غزة على المحور الشيعي
يعمل المسؤولون الإقليميون والدوليون منذ فترة طويلة على وقف الصراع في غزة لتهدئة المنطقة التي تشهد حرباً على نطاق غير مسبوق منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023. دفع هجوم حماس حلفاء إيران غير الحكوميين – الذين يشكلون “محور المقاومة” – إلى الانخراط في هجمات على إسرائيل والولايات المتحدة والكيانات التجارية العالمية لدعم معركة حماس ضد القوات الإسرائيلية. تعهد حلفاء إيران في البداية بأنهم لن يوقفوا هجماتهم إلا عندما تكون هناك نهاية كاملة للحرب في غزة. أثار الصراع مظاهرات واسعة النطاق في العواصم الإقليمية احتجاجاً على نطاق وتأثير العمليات الإسرائيلية ضد حماس على سكان غزة. طالب المتظاهرون، وإن لم ينجحوا، حكوماتهم بقطع علاقاتها بإسرائيل والابتعاد عن الولايات المتحدة – المورد الرئيسي للأسلحة لإسرائيل.
إن وقف إطلاق النار في غزة، إذا اكتملت عملية تنفيذه على ثلاث مراحل، يحمل إمكانات كبيرة لإنهاء الصراعات التي تهز المنطقة منذ هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. وشارك مسؤولون من إدارة ترمب، وخاصة مبعوثه المعين إلى الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، في محادثات الدوحة التي أثمرت في النهاية عن الهدنة، سعياً إلى تهدئة المنطقة بالتزامن مع تنصيب ترمب لولاية ثانية. ويأمل فريق ترمب أن تؤدي التهدئة في الشرق الأوسط إلى تمكين الإدارة الجديدة من التركيز على المشاكل الأعلى في أجندتها للسياسة الخارجية، مثل تأمين الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، ومعالجة التهديد المتزايد من الصين.
في المنطقة، يرى المسؤولون الأمريكيون الجدد أن الحرب في غزة تشتت الانتباه عن الجهود الرامية إلى مواجهة البرنامج النووي الإيراني المتوسع والتهديد المستمر من جانب المنظمات الإرهابية الإقليمية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وقد يؤدي تهدئة الصراع في غزة إلى تسهيل الجهود التي يبذلها القادة المدنيون الإيرانيون للتفاوض على اتفاق نووي منقح وأكثر شمولاً مع إدارة ترامب، التي ألغت الاتفاق النووي الإيراني متعدد الأطراف لعام 2015 باعتباره تنازلاً مفرطاً لإيران. بالإضافة إلى ذلك، سيجد القادة الإيرانيون صعوبة في تبرير المزيد من تبادل إطلاق النار مع إسرائيل إذا انتهت الأعمال العدائية في غزة.
إن اتفاق غزة يحرم حلفاء إيران من مبرر واضح لمواصلة هجماتهم. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن الهدنة تمكن حركات “محور المقاومة” من تفسير قرارها بالتراجع باعتباره استجابة للهدنة وليس استراحة ضرورية من الضربات التي وجهتها إسرائيل والقوات التي تقودها الولايات المتحدة. وكانت النكسات التي عانى منها حزب الله اللبناني نتيجة للعمليات الإسرائيلية قد دفعت بالفعل زعماء الحزب إلى الانسحاب من المشاركة في الصراع في غزة. ويبدو أن الهدنة التي أبرمها الحزب مع إسرائيل في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بفترة طويلة، صامدة مع اقتراب الموعد النهائي للتنفيذ الكامل في السادس والعشرين من يناير/ كانون الثاني. ومن شأن انتهاء الحرب في غزة أن يقلل من احتمالات اشتعال الأعمال العدائية بين إسرائيل وحزب الله من جديد. ولم ينضم نظام الأسد، الذي انهار في أوائل ديسمبر/ كانون الأول على أيدي هجوم شنه المتمردون بقيادة جهاديين سُنّة، إلى أعضاء “محور المقاومة” الذين فتحوا جبهة نشطة ضد إسرائيل بعد هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ولم يُبد القادة الجدد لسوريا أي ميل لمحاربة إسرائيل، حتى لو انهارت الهدنة في غزة.
ومنذ الاتفاق على وقف إطلاق النار في غزة، وافق شريكان إيرانيان رئيسان إضافيان ـ وكلاهما كان تحت ضغط عسكري أو سياسي ـ علناً أو ضمناً على التراجع شريطة تنفيذ اتفاق غزة. وكان أحد هؤلاء الشركاء الإيرانيين، حركة أنصار الله الحوثيين في اليمن، آخر عضو رئيس في “محور المقاومة” لا يزال يقاتل بنشاط إسرائيل وداعميها، ولكن الهجمات التي تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل أدت إلى تدهور ترسانة الجماعة من الصواريخ والطائرات بدون طيار. وعلى الرغم من أن الحوثيين أعلنوا أن اتفاق غزة دفعهم إلى وقف هجماتهم، قال زعيم الحركة عبد الملك الحوثي في خطاب متلفز يوم الخميس: “سنواصل مراقبة التطورات في فلسطين خلال الأيام الثلاثة التي سبقت دخول اتفاق غزة حيز التنفيذ. وإذا استمرت المجازر الإسرائيلية، فسنواصل عملياتنا… وفي أي مرحلة يتراجع فيها العدوان [إسرائيل والولايات المتحدة] عن الاتفاق، سنكون مستعدين لتقديم الدعم العسكري لإخواننا الفلسطينيين”. وقد خيب البيان آمال المصادر التجارية والأمنية البحرية لفشله في طمأنتهم إلى أن التهديد الذي يواجه الشحن في البحر الأحمر قد انتهى.
لا شك أن إطلاق الحوثيين صاروخين باليستيين على إسرائيل يوم السبت أثار قلقاً عالميًّا، على الرغم من أن مجلس الوزراء الإسرائيلي صادق رسمياً قبل ساعات على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، واستعداد حماس لإطلاق سراح أول رهينة يوم الأحد. وإذا استمرت هجمات الحوثيين، فمن المرجح أن تصعّد إدارة ترامب العمليات القتالية ضد الجماعة وتعيد إدراجها رسمياً على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
في مسرح آخر، العراق، من المرجح أن تسفر الهدنة في غزة عن نهاية أكثر استدامة للعنف الذي تمارسه الميليشيات الشيعية العراقية المتحالفة مع إيران ضد القوات الأمريكية في البلاد. وحتى قبل التوصل إلى اتفاق بشأن غزة، كانت هذه الميليشيات تتعرض لضغوط كبيرة من حكومة بغداد التي سعت إلى تجنب التحول إلى ساحة للحرب بين إسرائيل و”محور المقاومة”. وقد تسامح القادة العراقيون مع بعض هجمات الميليشيات العراقية على إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تحت ضغط الغضب الشعبي إزاء الصعوبات الإنسانية التي تسببها عمليات إسرائيل ضد حماس. ومع ذلك، فإن هجمات الميليشيات الشيعية على القوات الأميركية في العراق ـ والتي سبقت وتجاوزت صراع غزة ـ كانت تعطل جهود الحكومة العراقية الرامية إلى تحقيق التوازن في علاقتها بكل من واشنطن وطهران.
في الأشهر الأخيرة، وخاصة منذ سقوط نظام الأسد في سوريا المجاورة، كانت بغداد أكثر وضوحاً في أنها ستقاوم الضغوط الإيرانية لطرد 2500 من القوات الأمريكية من البلاد. ويعتبر القادة العراقيون أن المساعدة العسكرية الأمريكية أكثر أهمية مما كانت عليه قبل انهيار الأسد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى احتمال تصاعد خطر تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجهاديين السُنّة في سوريا الذين يشكلون تهديداً للنظام الذي يقوده الشيعة في بغداد.
في مقابلة أجريت معه في يناير/ كانون الثاني، تأثر وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين بسقوط الأسد ووقف إطلاق النار في لبنان أكثر من الأحداث في غزة، حيث صرح: “قبل عامين أو ثلاثة أعوام كان من المستحيل مناقشة هذا الموضوع (نزع سلاح الميليشيات الموالية لإيران) في مجتمعنا… ولكن الآن، أصبح من غير المقبول وجود جماعات مسلحة تعمل خارج نطاق الدولة… بدأ العديد من الزعماء السياسيين والعديد من الأحزاب السياسية في إثارة الموضوع، وآمل أن نتمكن من إقناع زعماء هذه الجماعات بإلقاء أسلحتهم، وأن يكونوا جزءاً من القوات المسلحة تحت مسؤولية الحكومة”.
جاء تصريح حسين في خضم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وبعد أسبوع واحد من زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لإيران للحصول على موافقة طهران على خطة بغداد لكبح جماح الميليشيات المتحالفة مع إيران، وخاصة حليف الحرس الثوري الإيراني الوثيق كتائب حزب الله، لكن سرعان ما تبددت أي آمال قد تكون لدى السوداني في أن يوافق المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي على تفكيك وكلاء إيران في العراق في اجتماعهما، حيث نقلت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية عن خامنئي إصراره على ألا يقيد السوداني هذه الميليشيات بل عليه أن يعززها. ومع ذلك، فإن وقف إطلاق النار في غزة يقوض المبررات التي قد يستخدمها قادة الميليشيات العراقية لمقاومة جهود بغداد لتقييد أنشطتهم.
وبعيداً عن تهدئة الصراع الإقليمي، فإن نجاح الهدنة في غزة سيزيل العقبات التي تحول دون تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية والتي سعى كل من مسؤولي إدارة بايدن ومسؤولي إدارة ترامب إلى صياغتها. ومع ذلك، حتى لو تم تنفيذ اتفاق غزة بالكامل، فمن غير المرجح أن يتمكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من المضي قدماً في التطبيع في الأمد القريب. إن مستوى غضب الشعب السعودي إزاء عدد الضحايا المدنيين والدمار والوضع الإنساني المزري في غزة مرتفع للغاية ومن المستبعد أن يدعم هذه المبادرة بغض النظر عن الحوافز التي قد يقدمها فريق ترامب في المقابل. علاوة على ذلك، طالب محمد بن سلمان بأن التطبيع مع إسرائيل لا يتطلب إنهاء الصراع في غزة فحسب، بل وعلى نطاق أوسع، خارطة طريق لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
منذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يشر القادة الإسرائيليون ولا استطلاعات الرأي العام في إسرائيل إلى دعمهم لقيام دولة فلسطينية. علاوة على ذلك، فإن استعادة العلاقات بين إيران والسعودية بوساطة صينية في عام 2023 والانتكاسات الإقليمية لإيران في عام 2024 قد قللت، بالنسبة إلى القادة السعوديين، من الضرورة الاستراتيجية للتطبيع مع إسرائيل أو حتى التوقيع على اتفاقية أمنية ملزمة ذات صلة مع الولايات المتحدة.
المصدر: صوفان جروب