التحول إلى السلفية المتطرفة في ألمانيا

إن ألمانيا ليست بمنأى عن ظاهرة التطرف الديني. فعلى مدى السنوات الماضية، غادر نحو ألف مقاتل أجنبي البلد إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات الجهادية. وقد حدث هذا أيضاً في بلدان أخرى مختلفة في أوروبا الغربية، من فرنسا إلى بلجيكا، ومن هولندا إلى بريطانيا العظمى، مما أثر بشكل رئيس على المجتمعات التي ثبت أن اندماج المهاجرين من الجيل الثاني والثالث فيها معقد بشكل خاص. ومع ذلك، فإن الحالة الألمانية تقدم خصائص مميزة تنضاف إلى تلك التي قد تحدث في أماكن أخرى، مما يجعل مجتمعها حالة دراسية فريدة من نوعها. فمقارنة بدول أوربية أخرى، شهدت ألمانيا تحول عدد أكبر كثيراً من مواطنيها، الذين لا ينتمون إلى أصول مهاجرة، إلى الإسلام السلفي المتطرف. وعلى مدى عدة عقود من الزمان، شهدت البلاد هجرة جماعية إلى مناطق جغرافية محددة جيداً من أراضيها، حيث تمكنت الجماعات المتطرفة من إيجاد تربة خصبة في البلاد دون أي معارضة حقيقية من جانب السلطات ـ على سبيل المثال، قدرة هذه الجماعات على الظهور وتوزيع المواد الدعائية في الشوارع أمر محظور في العلمانية الفرنسية ـ والعلاقة الدقيقة للغاية التي تربط الألمان بماضيهم أدت إلى تفضيل السلطات عدم فرض أيّ شكل من أشكال الهوية الوطنية المحددة على الأجيال الجديدة من الألمان والمهاجرين. وفي هذا السياق، كان لدى الجماعات المتطرفة الكثير من الوقت والمساحة للترويج علناً لأيديولوجيتهم بطريقة منظمة ومهيكلة. وقد قامت عدد من المبادرات التي تقودها جماعات سلفية بتوزيع آلاف النسخ من القرآن الكريم ومواد أخرى ذات صلة. ومع حلول ما يسمى بالربيع العربي، غادر العديد من المسلحين المنتمين إلى هذه الجماعات البلاد للقتال في سوريا والعراق. وعند هذه المرحلة، تدخلت السلطات الألمانية بتجريم مثل هذه الأفعال، وتوجيه الاتهامات واعتقال بعض قادتهم. وعلى الرغم من هذا، أعاد بعض الأعضاء، على الأقل أولئك الذين بقوا في ألمانيا، تجميع صفوفهم واستأنفوا أنشطتهم الدعائية مع التركيز أيضاً على اللاجئين.
وقد تابع توماس مويكه، عضو “شبكة منع العنف”، وهي فريق من الخبراء يعمل منذ عام 2001 على منع التطرف الأيديولوجي والديني، هذه التطورات عن كثب. وفي السنوات الأخيرة، شارك مويكه بشكل مكثف في الحيلولة دون انتشار الإسلام المتطرف بين الشباب الألمان، ومتابعة حالات حساسة بشكل خاص، ورعاية برامج إزالة التطرف لأولئك الذين انضموا بالفعل إلى مجموعات معينة، ومؤخراً مساعدة المقاتلين الأجانب الذين قرروا التخلي عن ساحة المعركة والعودة إلى ألمانيا.
*-دكتور مويكه، متى بدأت تلاحظ وجود إسلام متطرف في ألمانيا؟
خلال السنوات الماضية، بدأنا نرى العديد من الشباب والفتيات يغادرون إلى مناطق الحرب، وخاصة سوريا، فضلاً عن وجود جماعات متطرفة في ألمانيا تستخدم الدين الإسلامي كوسيلة لنشر الدعاية بين الشباب من أجل تحقيق أهدافها الأيديولوجية الخاصة. قبل ذلك، لم يكن هناك أي حالات مهمة، على الرغم من وجود مشاكل مرتبطة بالهجرة والاندماج. لم يشعر جزء من السكان الذين لديهم تاريخ من الهجرة بأنهم جزء حقيقي من المجتمع، ومع مرور الوقت، أشاروا إلى أن هذه الظاهرة ناجمة عن نقص الاندماج، وبالتحديد نتيجة لكونهم مسلمين. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، طرأت تغيرات كبرى. فقد بدأ الناس الذين ليس لديهم تجربة مع الهجرة في التحول إلى الإسلام، وأعلنوا ولاءهم ليس للدين، بل للتطرف.
*- إن عدد الأشخاص الذين لم يسبق لهم الهجرة والذين اعتنقوا الإسلام في ألمانيا أعلى بكثير من مثيله في البلدان الأوروبية الأخرى. لماذا؟
إن ألمانيا تدفع ثمن عدم تطور الإسلام الألماني. فمنذ فترة من الزمن، كانت هناك محاولات مختلفة للتأثير على تطور الإسلام في أوروبا وألمانيا من الخارج. ولعبت دول في الخليج العربي، إلى جانب دول أخرى مثل تركيا، دوراً كبيراً في تصدير مفهومها الخاص للإسلام. وما كان ينقص ألمانيا هو تطوير إسلام مستقل عن النفوذ الأجنبي. فقد ظلت المؤسسات الإسلامية التي تقدم الخدمات الدينية للمؤمنين، والمرتبطة غالباً بحكومات بلدانها الأصلية، قائمة لعقود من الزمان. وينطبق هذا، على سبيل المثال، على أكبر منظمة إسلامية في ألمانيا، وهي الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، والذي يتم تمويله مباشرة من وزارة الشؤون الدينية في الحكومة التركية وفقاً لاتفاقية تم توقيعها قبل سنوات طويلة بين برلين وأنقرة. ويتم إرسال أئمة هذه المنظمة مباشرة من تركيا ويتناوبون على العمل كل خمس سنوات. ومن المؤسف أن هذا الاتجاه منتشر على نطاق واسع. فهؤلاء الأئمة يأتون في الغالب من الخارج، ولم يتلقوا تدريباً هنا ولم يكونوا قط أعضاء في هذا المجتمع ولم يتواصلوا معه على الإطلاق. وقد ساهم هذا في خلق حالة من التناقض داخل المجتمع الإسلامي الألماني، الذي يكافح قادته للوصول إلى الشباب الذين ولدوا ونشأوا هنا وتلبية احتياجاتهم الدينية والروحية. وقد استغل السلفيون هذا الوضع وتمكنوا من التحدث إلى الشباب باستخدام رموزهم الدينية واللغوية الخاصة.
*- ما هي المجموعات الأكثر نشاطاً ونجاحاً في ألمانيا؟
إن الحركة الأكثر خطورة هي التطرف السلفي، الذي يؤيد فكرة أن قانون الله [الشريعة] هو القانون الوحيد الذي يجب أن يطبق، ويرفض كل ما أنتجه الإسلام بعد الأجيال الثلاثة الأولى التي تلت النبي محمد. والديمقراطية ليست جزءاً من رؤيتهم للعالم، ولهذا السبب يركزون على إحداث ثورة في المجتمع، بدءاً بفرض برنامجهم الخاص. ينقسم السلفيون بين أولئك الذين يمارسون العنف بشكل علني، ويريدون تغيير المجتمع من خلال شن حرب مقدسة، وأولئك الذين يعتمدون على العمل السياسي. إن الفرع السياسي هو الذي نما أكثر في السنوات الأخيرة. في ألمانيا يوجد حوالي 10000 من المتشددين النشطين المعروفين الذين يروجون لرؤيتهم للعالم علناً من خلال أنشطة التجنيد والتلقين المتواصلة. وهم المسؤولون عن حقيقة أن حوالي 1000 شاب وشابة غادروا البلاد للانضمام إلى الجماعات الجهادية في مناطق الحرب.
*- يقول السلفيون السياسيون أن لا علاقة لهم بالجهاديين الذين يمارسون العنف. هل هناك خط فاصل واضح بينهم؟
إن الخط الفاصل بين السلفية السياسية والسلفية المسلحة دقيق للغاية. إن زعيم الفرع السياسي يُدعى بيير فوجل، وهو أصولي ديني متطرف بشكل واضح. إن كل شخص حر في أن يعيش بطريقة أصولية، ولكن عندما يحاول المرء تغيير المجتمع من خلال فرض مبادئه الخاصة، فإنه يصبح متطرفاً. لقد رأينا أن العديد من الرجال المحيطين به انتقلوا إلى السلفية المسلحة. وهو نفسه يعترف بأن العديد من الشباب المرتبطين به، والذين كان واعظاً لهم، غادروا للقتال في سوريا. وفيما يتعلق بالعنف، فإن فوجل يتبنى موقفاً تكتيكياً. فعندما وقع هجوم في فرنسا، نأى بنفسه عنه، قائلاً إن المنتمين إلى داعش لا يفهمون كيف يفكر الأوربيون، وأن الهجمات الإرهابية في أوروبا لا تحقق أي فائدة. إنه تقييم بارد مبني على حسابات نفعية.
*- ما هي أهداف السلفيين؟ ما نوع المجتمع الذي يريدون خلقه في ألمانيا وأوربا؟
إن الهدف النهائي هو خلق مجتمع ديني متجانس حيث يتم تعريف كل من يخالفهم بأنه “كافر” وبالتالي يفقد الحق في الوجود. وكما يقترح المتطرفون اليمينيون التجانس على أساس العرق، فإن السلفيين يؤسسون تجانسهم على أساس الدين. وفي نهاية المطاف، سيؤدي هذا إلى إلغاء الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنوع الديني والثقافي.
*- ما هي، في نظركم، استراتيجيتهم في ألمانيا وأوروبا لتحقيق هذه الأهداف؟ وهل من الممكن أن يحققوها، كما يقولون، من دون اللجوء إلى العنف؟
لا، إن ما يفعلونه ليس ديناً، بل أيديولوجية متطرفة تستخدم الدين كأداة لتحقيق أهدافها. ولن يتمكنوا من تحقيق ذلك في ألمانيا دون ردود فعل عنيفة. إن مبادئنا الدستورية القائمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يمكن تغييرها، وإذا تم التشكيك فيها، فإن الوسيلة الوحيدة المتاحة لتغييرها هي العنف.
*- كيف يتم تمويل هذه المجموعات؟
إن هذا الأمر معروف لدى الأجهزة الأمنية، ولا أعتقد أنها ترغب في الكشف عنه للعامة. ولكن ما نعرفه هو أن لديهم قدراً كبيراً من المال. ويعمل بعضهم في تنظيم رحلات الحج إلى مكة، وهو ما يجلب لهم المال، ولكنه مفيد أيضاً في تجنيد الحجاج محلياً. وفي هذه الرحلات، التي تنطوي على مشاركة روحية قوية، يتم استقطاب الحجاج بسرعة إلى قضيتهم.
*- أنت تعمل مع العديد من الأشخاص في ألمانيا الذين اعتنقوا الإسلام في السنوات الأخيرة وتم تجنيدهم من قبل السلفيين المتطرفين، هل هناك سمات مشتركة بينهم؟
لا، من الممكن أن يحدث هذا لأي شخص. حتى الآن عملت مع 350 شخصاً تحولوا إلى التطرف في ألمانيا، بعضهم سافر إلى مناطق الحرب ثم عاد إلى الديار في نهاية المطاف. كل قصة فريدة من نوعها ولا يمكن تكرارها. وتشمل هذه القصص مهاجرين وألماناً من كل الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، وليس جميعهم بالضرورة قادمين من بيئات غير مستقرة. ولا توجد أسباب أساسية مماثلة. ولكن بشكل عام، يمكننا القول إنهم في كثير من الأحيان شباب قليلو الخبرة تم تجنيدهم من قبل آخرين لعبوا على عواطفهم.
هؤلاء الشباب لم يكن لهم أي علاقة بأي نوع من أنواع الدين قبل اعتناقهم الإسلام. وبعد أن اقترب منهم هؤلاء الأشخاص [المجندون] واستمعوا إلى قصصهم عن “الإسلام الحقيقي”، انبهروا به دون أن يدركوا حتى التنوع الذي يميز هذا الدين. إنهم لا يدخلون عالم السلفيين وهم متطرفون بالفعل؛ بل تحدث العملية بمجرد دخولهم إلى هذا العالم. يمر جميع الشباب بفترات معينة يبحثون خلالها عن الاتجاه الصحيح، وبعضهم يمر بأزمات حقيقية. وفي هذه اللحظة تتدخل الجماعات المتطرفة، وتقدم لهم الإجابات على أسئلتهم الوجودية وتجعلهم يشعرون بأنهم جزء من مجموعة متماسكة. لقد عملت، على سبيل المثال، مع إحدى العائلات حيث كان الأب ناشطاً في حركة بيغيدا (اختصاراً للأوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب، وهي حركة سياسية متجذرة بعمق في أراضي ألمانيا الشرقية السابقة) وكان يكره المسلمين. وبعد أن تشاجر مع ابنته البالغة من العمر 14 عاماً لأسباب نمطية، انضمت إلى السلفيين انتقاماً منه. وفي حالة أخرى، فقدت فتاة تبلغ من العمر 17 عاماً والدها، الشخص الأكثر أهمية في حياتها. وفي المدرسة، اقتربت منها مجموعة سلفية وواستها وأقنعتها بالانضمام إلى مجموعة الحوار الخاصة بهم. حضرت الفتاة المجموعة دون أن تعرف حتى من هم السلفيون، وبعد شهرين غادرت البلاد معهم.
*- يعترف قادة السلفية الألمانية بأن العديد من الشباب الذين جندوهم ذهبوا للقتال في سوريا، لكنهم يؤكدون أن من يغادرون يتركون الجماعة قبل مغادرتهم. فهل هذا صحيح؟ أم إن هناك تنظيماً آخر وراء هذا ترتبط به كل هذه المجموعات؟
إن هذه العملية يمكن تتبعها بدرجة من الدقة. فالخطوة الأولى التي يستخدمها السلفيون في التعامل مع الشباب هي توزيع نسخ من القرآن الكريم وكتب دينية تقليدية في الشوارع. ولا يقترب الشاب عادة من الأكشاك التي توزع فيها هذه الكتب من تلقاء نفسه، بل يحدث هذا في أغلب الأحيان عن طريق صديق، ربما شخص يدرس في نفس المدرسة، فيقول له: “تعال والتقِ بإخوتي، إنهم أشخاص صالحون”. ويقترب الشابان سوياً من الأكشاك التي توزع فيها الكتب، حيث يجدان أشخاصاً طيبين للغاية يستقبلونهما بود وترحاب غير متوقعين. ولا يناقش هؤلاء الأشخاص أي مواضيع تتعلق بالدين في البداية، لكن في ما بعد يدعون الشخص إلى الحضور والتحدث في غرف خاصة. وما يحدث هو أن هذه السياقات الخاصة حاسمة. فالشاب يشعر بإحساس مذهل بالانتماء وبقرب عاطفي هائل. فهم لا يتحدثون معه عن أي أيديولوجية غريبة لا يعرفها، بل يدمجونه في مجموعتهم المغلقة بسلاسة، حيث يطبخ الجميع معاً ويلعبون كرة القدم معاً. ثم يبدأ الشاب شيئاً فشيئاً في سماع أن المسلمين في هذا المجتمع منبوذون ومضطهدون؛ في هذه المرحلة، يُعرَض على الشاب استطلاعات علمية تفيد بأن المسلمين يواجهون مشاكل أكبر في الوصول إلى سوق العمل وإيجاد مسكن. إن الرسالة التي يتم نقلها هي أن المسلمين يتعرضون للتمييز في كل مكان، مما يؤدي إلى تحديد هوية الضحايا الجماعية، ثم يتم استخدام عبارات معينة مثل “الإسلام والديمقراطية لا يمكن التوفيق بينهما” و”كمسلم، لا يوجد شيء أنتمي إليه في ألمانيا”. ما يحدث خلال هذه المرحلة هو شيء عميق للغاية؛ فجأة يصبح الشاب غريباً عن المجتمع الذي ولد ونشأ فيه. لم يعد هذا منزله، ولم يعد وطنه. هذا هو الشكل الأول من أشكال الاقتلاع. تبدأ المرحلة الثانية عندما يقال له / لها إن أسلوب الحياة الإسلامي يجب أن يُنقل أيضاً إلى أشخاص آخرين، بدءاً من المحيط الأسري. فجأة يجد هؤلاء الشباب أنفسهم في مواجهة والديهم، ويطالبونهم بالتحول إلى الإسلام الحقيقي. في البداية، يشعر الآباء بالخوف ولا يعودون يتعرفون على أولادهم. إذا لم يقتنع الآباء، كما يحدث عادة، فإنهم يعتبرون هم أيضاً كفاراً. والنتيجة هي أن المرء ينفر من والديه. ثم يمتد هذا إلى كل العلاقات الاجتماعية السابقة، من فريق كرة القدم إلى مجموعة الأصدقاء. في هذه المرحلة، يتماهى الشاب مع هذه المجموعة من الناس الذين يحملون أفكاراً متشابهة ويتصرفون كطائفة، ولا يقبل أي شيء يتعارض مع ما يقولونه. ذات مرة، قال لي شخص مقرب من داعش: “سأكون مديناً لك إذا قطعت رأس والدي لأنه لا يصلي بانتظام”. تشير هذه الجملة إلى مدى عمق هذا الاغتراب. ثم، في مرحلة معينة، يُعرض على هؤلاء الشباب أفلام مروعة تصور كيف يُقتل المسلمون ويغتصبون ويعذبون. على سبيل المثال، تُستخدم مقاطع فيديو للجرائم الرهيبة التي ارتكبها نظام الرئيس السوري بشار الأسد للعب على القيم الأخلاقية التي يتمتع بها جميع الشباب، والقول إن هذه الجرائم لم يرتكبها رجال الأسد فقط، بل يرتكبها الكفار بشكل عام. عند هذه النقطة، يتم نطق كلمات معينة، مثل: “كيف يمكنك النوم في سرير دافئ هنا في ألمانيا بينما يُقتل إخوتك وتُغتصب أخواتك في أماكن أخرى؟”. وهذا له تأثير. يشعر الشاب بأن من واجبه أن يفعل شيئاً. في تلك اللحظة، وبشكل عفوي على ما يبدو، يقرر الذهاب في رحلة إلى الخارج. وهذا ما كان ينتظره الواعظون [المجندون] منذ البداية. في تلك اللحظة، يجد الشاب كل ما يلزم ليغادر على الفور. كل شيء منظم بشكل جيد للغاية من الناحية اللوجستية للوصول إلى مناطق الحرب بسرعة. بمجرد بلوغ هذا المستوى من الإقناع، يكون من الصعب دائماً إقناعهم بالتراجع.
*- كيف وصلوا إلى سوريا؟
إن عملية التهريب تتم عادة عبر تركيا، حيث كانت الحدود مع سوريا مفتوحة. وكل ما يتطلبه الأمر هو رحلة جوية إلى إسطنبول تليها حافلة أو سيارة أجرة إلى مدينة حدودية. ثم يتم عبور الحدود سيراً على الأقدام حتى يتم استقبال الشخص من قبل جبهة النصرة أو رجال داعش الذين ينتظرون على الجانب الآخر. كان النظام بأكمله محكماً ولم تحدث أي مشاكل على الإطلاق. أخبرني بعض الشباب أن المهربين الذين رافقوهم في تركيا قالوا لهم: “إذا سمعتم إطلاق نار أثناء عبوركم الحدود، فلا تقلقوا، إنهم مجرد جنود أتراك يطلقون النار في الهواء”. كما سمعنا أن بعض هؤلاء الشباب الذين عادوا من سوريا إلى تركيا أوقفتهم السلطات التركية واستجوبتهم وأخبرتهم بأنه من الأفضل لهم عدم العودة إلى ألمانيا وأنه لا ينبغي لهم إخبار أي شخص بما رأوه، مما يؤكد حقيقة أن جزءاً من المؤسسات التركية كان يفضل ألا يعود هؤلاء الشباب إلى ألمانيا. لقد تغيرت الأمور الآن مع تغير الأجندة الجيوسياسية. لم تعد المصالح التركية تتلخص في إضعاف الأسد كما كانت لفترة طويلة [بل أصبح الهدف إسقاطه].
*- ما الذي جعل العديد من هؤلاء الشباب يندمون على الاختيار الذي اتخذوه ويقرّرون العودة؟
إن اختبار الواقع يحدث عادة عندما يجد المتحول الشاب نفسه في معسكر تدريب في سوريا. وعندما يدخل المرء مثل هذا المكان، يتم احتجازه على الفور؛ ويجب عليه تسليم جواز سفره. والنظام صارم للغاية ولديهم أيضاً نظام قضائي داخلي قاسٍ للغاية. ويمكن للمرء أن يسمع صراخ أولئك الذين يتعرضون للتعذيب. كانت هناك حالات حيث يتم قطع رأس شخص متهم بالخيانة ثم وضع الجثة على سرير مع وضع الرأس فوقه وعرضه في جميع أنحاء المعسكر. منذ البداية كان من الواضح جداً ماذا سيحدث لأولئك الذين لا يتعاونون. لا يمكنهم طرح أي أسئلة أو التعبير عن أي شكوك دون المخاطرة بحياتهم.
*- كيف تمكن بعضهم من العودة إلى ديارهم؟
إن الفرار أمر خطير. وفي بعض الحالات، تمكن بعض الشباب من البقاء على اتصال هاتفي مع آبائهم، الذين بدورهم وضعونا على اتصال مباشر معهم. وفي إحدى الحالات، تم اختيار صبي لتنفيذ هجوم انتحاري. وكانت هناك حافلة تأتي بانتظام لتقل أولئك الذين من المقرر أن ينفذوا هجمات انتحارية، ولكي يتجنب ذلك، كان هذا الصبي يذهب دائماً إلى مؤخرة الطابور، منتظراً أن تمتلئ الحافلة حتى يتم إعادته في المرة التالية. ونتيجة لهذا قرر الرحيل. لا أستطيع تقديم تفاصيل عن الطريقة التي غادر بها هو وغيره، لكن العملية تتضمن الفرار بسرعة كبيرة نحو الحدود التركية. وفي بعض الحالات، سافر الآباء إلى مناطق الحرب لإعادة أولادهم إلى ديارهم، وهو أمر خطير للغاية ولا ننصح به. ولكن إذا ذهبوا، فنحن نعتني بهم ونوجههم. وعلى الرغم من أننا لسنا موجودين على الأرض، فإننا نتابع كل خطوة من خطوات هروبهم، بما في ذلك عودتهم إلى ألمانيا بالتنسيق مع السلطات الألمانية.
*-ماذا يحدث للشباب الذين يعودون إلى ألمانيا؟
فجأة، يجد الشاب نفسه جالساً أمامنا، ووالده على يساره وأمه على يمينه، وكلاهما كانا خائفين على حياته لشهور. بالطبع، يسأل الأب “كيف فعلت هذا؟”. يجلس الصبي بصمت مليئاً بالخجل وينظر إلى الأرض، وقد أدرك الآن ما فعله بعائلته. يواصل الأب السؤال “لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟” والابن غير قادر حقًّا على الإجابة. لا توجد إجابات، فهو لا يدرك ما حدث. يستغرق الأمر أسابيع أو أشهراً من المحادثات قبل أن يتمكن من فهم سبب اتخاذه لهذا القرار. هذا يتيح لي فهم مدى تلاعب المجندين السلفيين ومستوى خبرتهم في تقنيات الإقناع. إذا شاهد المرء مقاطع فيديو بيير فوجل على الإنترنت، يمكنه أن يرى كيف يستخدم تقنيات اتصال محددة في خطاباته وكيف يحاول جعل الناس يرتبطون به. حتى تعبيراته العاطفية مفتعلة وليست حقيقية. هذه مشاهد لها تأثير على الشباب.
*- هل هناك خطر أن يرغب هؤلاء المقاتلون السابقون العائدون في مواصلة مساراتهم المتطرفة هنا في ألمانيا؟
نعم، بالطبع. هناك من يعود ويشعر بالارتباك ويتساءل: “هل ما رأيته هو الإسلام حقًّا؟”. هؤلاء الناس يبحثون عموماً عن الحوار من أجل العثور على إجابات، ومن المهم جدًّا أن يكون لديهم محاور. والبعض الآخر يظل صامتاً ولا يعبر عن أيديولوجيته. من الصعب معرفة عددهم. هناك من يريد فقط بداية جديدة، بينما يظل آخرون صامتين في انتظار العودة إلى ساحة المعركة. هذا هو الخطر الأعظم.
*- هل تستطيع تأكيد وجود استراتيجية عودة للمقاتلين الأجانب حتى يتمكنوا من مهاجمة ألمانيا وأوروبا؟
إن ألمانيا وأوروبا معرضتان للهجوم في أي وقت. فتنظيم داعش ومن يشتركون معه في أيديولوجيته يفكرون على المستوى العالمي. إنه حركة دولية لا تعترف بالحدود. ذات مرة التقينا بشاب عاد لتوه، وكان في السجن ومكتئباً. لقد تخلى عن داعش وبالتالي شعر بأنه خان الإسلام، وكان متأكداً من أنهم سيقطعون رأسه في غضون أسبوعين أو ثلاثة. وعندما سألته مذهولاً عن هؤلاء الذين سيقطعون رأسه؟ أجاب بأن جنود داعش سيغزون ألمانيا قريباً. وعندما أوضحنا له أن هذا لن يحدث، لم يصدق وظل مقتنعاً بأنه سيموت على أي حال لخيانته لإسلام. إن مجتمعاتنا معرضة للخطر. ومن الأسهل بكثير الآن تنفيذ هجمات مقارنة بما كان عليه الحال قبل عشرين عاماً، عندما كان الأمر يتطلب قدراً من التحضير اللوجستي. وإذا كان هناك رجال مقتنعون بإلحاق الضرر بالمجتمع، فهم قادرون اليوم على القيام بذلك. فكيف يتطور مجتمع يعيش في قلق دائم من التعرض لهجوم؟ وكيف يعيش المواطنون في هذا المناخ الدائم من انعدام الأمن؟ إن السلفيين الألمان لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف من أصل ثمانين مليون نسمة، ومع ذلك، فهم قادرون على إثارة الخوف. وهذا ما يريده الإرهابيون عموماً.
*- ينشر السلفيون دعايتهم علانية بين اللاجئين الشباب الذين وصلوا إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة. يقول ثمانون في المائة من السوريين. إنهم لم يفرّوا من داعش أو المتمردين بل من قصف بشار الأسد. يدعي السلفيون إن الأقلية الهاربة من داعش لا تريد أي علاقة بهم لأنهم يربطونهم بالجرائم التي رأوا الإرهابيين يرتكبونها هناك. ومع ذلك، فإن آخرين لن يجدوا أي مشكلة في التعامل معهم؛ لأنهم يشتركون معهم في نفس المعتقدات. هل لديك أيّ دليل على ارتباط ارتفاع عدد السلفيين المتطرفين بوصول اللاجئين؟
نعم، على الرغم من أن 10% فقط من حالات التطرف التي عملنا عليها حتى الآن كانت متعلقة باللاجئين. في أغلب الحالات، الأشخاص المعنيون ولدوا ونشأوا في ألمانيا. وعلى الرغم من هذا، فقد شهدنا زيادة كبيرة في الاتصال بين اللاجئين والعالم السلفي. إن الانتماء المشترك للإسلام السني يسمح بإيجاد أرضية مشتركة، وبالتالي، فإن انتشار نشاط الدعاية السلفية المكثف بين اللاجئين أمر مفهوم. فالذين يصلون عادة هم من المسلمين ويبحثون حولهم عن أماكن يمكنهم فيها أداء واجباتهم الدينية. وبهذه الطريقة يتم تأسيس الاتصال بالسلفيين الذين يسيطرون على العديد من المساجد وأماكن العبادة. وفي حين أن الفارين من داعش لا يريدون أن يكون لهم أي علاقة بالسلفيين؛ فإن آخرين قد يرغبون في التواصل معهم. وإذا لم ينجح الاندماج، فإن اللاجئين يخاطرون بأن يصبحوا فريسة سهلة للمجندين.
*- كيف تتدخل عندما ترى حالة تتعلق بتطرف لاجئ؟
إننا نتدخل من خلال زميل يتحدث لغتهم، وهو عنصر يؤسس في حد ذاته لأرضية مشتركة. والمشكلة بشكل خاص هي وصول اللاجئين الذين عاشوا الحرب وتعرضوا لصدمات نفسية بسببها. وكثير منهم من القاصرين غير المصحوبين بذويهم، الذين يجدون فجأة أن السلفيين يرحبون بهم ويعرضون عليهم مجتمعاً ودوداً يهتم بهم. وعند هذه النقطة يشعرون بأنهم ينتمون إلى شيء ما ويستجيبون لكل ما يُقال لهم. وعندما نرى حالات يرغب فيها لاجئ في الذهاب إلى المسجد والصلاة بأي ثمن؛ لأنه إذا لم يفعل، كما يقول، فسوف يذهب إلى الجحيم، يصبح من الواضح لنا أي نوع من الناس كان على اتصال بهم، لذا نتدخل على الفور. نحاول توفير البدائل لهؤلاء الشباب حتى يلتقوا بأنواع أخرى من الناس ويتحرروا من علاقة التبعية التي أقاموها مع السلفيين. نريد منهم أن يستمعوا إلى آراء مختلفة وأن يعرفوا أنه من المقبول طرح الأسئلة. ونحن نرى أن الصدمات غير المعالجة الناجمة عن الحرب يمكن أن تؤدي إلى تحول المرء بسرعة كبيرة إلى المتطرفين. وهناك بعض الذين فقدوا إرادة الحياة ولهذا السبب ينضمون إلى العالم السلفي.
*- هل لا يزال هناك أشخاص يغادرون إلى سوريا، على الرغم من خسارة داعش للحرب الآن؟
نعم، هناك أشخاص لم يعودوا يرغبون في العيش في هذا المجتمع. إنهم أناس يريدون القتال حتى الموت. من الصعب قبول هذا، كما يصعب قبول أن تقرر شابة ألمانية السفر إلى منطقة حرب لتُرجم بالحجارة؛ لأنها لم تعد عذراء. هؤلاء أناس فقدوا إرادة الحياة.
*-دكتور مويكه، لأسباب تاريخية واضحة، لا تريد ألمانيا توفير هوية ألمانية قوية للمهاجرين والأجيال الجديدة من المسلمين. ما هو الحل الاجتماعي الذي يمكن أن نتوصل إليه لمعالجة الموقف الذي وصفته لنا؟
في ألمانيا، كما في بلدان أوروبية أخرى، نحتاج إلى مجتمعات دينية مستقلة تقدم الخدمات الدينية بحرية حتى يتمكن الناس من العيش وفقاً لمعتقداتهم الخاصة دون المخاطرة بالتعرض لأشخاص يستغلون إيمانهم. نحن بحاجة أيضاً إلى تعليم سياسي قوي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في المدارس. هذه هي المبادئ التي تستند إليها هويتنا المشتركة. يجب أن نتجنب أن يصبح المتطرفون المحاورين الوحيدين للشباب. يجب علينا بعد ذلك تحليل الاستراتيجيات التي يستخدمها المتطرفون. إن استراتيجية داعش، التي نجحت حتى الآن، لا تقتصر على سوريا والعراق، بل إنها عالمية وموجهة ضد الغرب وضد الديمقراطية. إن الهدف من الهجمات ليس الوفيات في حد ذاتها، بل ردود الفعل التي تولدها. إنهم يريدون خلق استياء عام ضد الأقلية المسلمة في المجتمع حتى يتمكنوا من تجنيد أكبر عدد ممكن من الناس. لديهم عدوان؛ من ناحية عدو خارجي، الغرب المنحط، ومن ناحية أخرى عدو داخلي، هؤلاء الأعضاء من المجتمع المسلم الذين لا يقفون إلى جانبهم. في الوقت الحاضر، أصبح المجتمع الألماني خائفاً وكان هذا هو الهدف الذي حققه الإرهابيون. إذا أراد أحد أن يفعل شيئاً، فعليه أن يحرص على عدم المساهمة في توسيع هذا الخلاف والاستقطاب*.
* نشر هذا الحوار على موقع مؤسسة “ريست لحوار الحضارات”، وهي منظمة دولية تأسست في عام 2004 لتعزيز البحث حول العلاقة بين الثقافات، والتعددية الثقافية والدينية، والتقدم في مجال حقوق الإنسان، وتطور الديمقراطية في بيئات حضارية مختلفة.
