السلفية الجهادية بوصفها أيديولوجية دينية
إن الأيديولوجيات تؤدي وظائف أساسية عديدة، أولها إثارة الوعي لدى مجموعة من الناس بأن قضية معينة تستحق اهتمامهم. وتشرح الأيديولوجية لهذه “المجموعة الداخلية” لماذا تكون الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية على ما هي عليه. ولأن الأفراد غالباً ما يسعون إلى الحصول على تفسيرات في أوقات الأزمات، فإن الأيديولوجية تكتسب جاذبية خاصة، عندما ترى مجموعة من الناس نفسها في مأزق. الوظيفة الثانية هي وظيفة تشخيصية، حيث تنسب الأيديولوجية سبب / أو أسباب المأزق الحالي الذي تعيشه “المجموعة الداخلية” إلى “مجموعة خارجية”. ويتم تحديد “المجموعة الخارجية” من خلال معايير معينة وفقاً للسردية التي تقدمها الأيديولوجية. تكمن الوظيفة الثالثة للأيديولوجية في خلق هوية جماعية موحدة. في الوقت الذي يتم إلقاء اللوم على “المجموعة الخارجية” عن المأزق الذي تعيشه “المجموعة الداخلية”، تعمل الأيديولوجية على تحديد وإبراز الخصائص المشتركة لهؤلاء الأفراد الذين يلتزمون بأيديولوجية معينة أو من المحتمل أن يكونوا من أتباعها. الوظيفة الرابعة والأخيرة هي وظيفة برنامجية. وتتلخص في أن الأيديولوجية تقدم برنامج عمل محدداً يُزعم أنه يقدم الحلول لـ “الجماعة الداخلية” التي تمر بمحنة، وتحث أتباعها على تنفيذ مسار العمل هذا.
إن الأيديولوجيات تشكل روابط بين الأفكار والمعتقدات والأساطير من جهة، والعمل من جهة أخرى. ويمكن أن تكون وسيلة فعالة للحفاظ على السلطة السياسية لمجموعة معينة من الناس. ولكن في كثير من الأحيان، تُستخدم الأيديولوجيات كأدوات للمنافسة والصراع، حيث يمكن لأيّ مجموعة أن تستخدم الأيديولوجية كأداة للمعارضة والتنافس. فبمجرد أن تستوعب المجموعة المعتقدات المرتبطة بأيديولوجية معينة، توفر هذه الأيديولوجية “خريطة معرفية” تعمل على تحديد الطريقة التي يتم بها إدراك الحقائق الاجتماعية، مما يجعل الواقع أسهل فهماً، وأكثر تماسكًا، وبالتالي أكثر مغزى. ولهذا السبب، تقدم الأيديولوجيات قدراً من الأمان والراحة في مواجهة الغموض، وخاصة في أوقات الأزمات.
إن الأيديولوجيات قد تتسبب في خلق انقسامات كبيرة بين أتباعها وغيرهم من الناس. فوفقاً لكريستوفر فلود، فإن الأفراد الذين يقتنعون بشكل خاص بأيديولوجية معينة قد يظهرون “قدرة ملحوظة على تجاهل أو إنكار أو إعادة تفسير المعطيات التي لا تتوافق مع مبادئ نظامهم العقائدي”. من ناحية أخرى، يميل أصحاب الأيديولوجية أنفسهم إلى أن يكونوا “صريحين في ادعاءاتهم المعرفية، واستبعاديين في عضويتهم، واستبداديين في قيادتهم، وصارمين في أحكامهم الأخلاقية، ومصرين على صوابية قضاياهم”.
فبالنسبة إلـى “المجموعة الداخلية”، تحفز الأيديولوجية دوافع التماهي مع قضية معينة، وبالتالي الشعور بالهدف. ويمكن أن يشكل هذا الشعور بالهدف هوية مشتركة بين الأعضاء، وفي الوقت نفسه يزيد من حدة المعارضة والشعور بالانفصال عن الأفراد الذين لا يشاركونهم معتقداتهم.
السلفية الجهادية: دين أم أيديولوجيا؟
إن السلفية الجهادية أقرب إلى الأيديولوجية منها إلى الدين، لأنها، مثل غيرها من الأيديولوجيات، هي نتاج جانبي للتصنيع الذي اجتاح أوروبا بداية من القرن التاسع عشر، وبالتالي فهي نتاج للحداثة، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتأثيرات المربكة للعولمة، التي أدخلت تغييرات سريعة في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد تحدت هذه التحولات المفاهيم الراسخة والمتجذرة للهوية المرتبطة بالهياكل الاجتماعية التقليدية.
إن السلفية الجهادية أيديولوجية؛ لأن وظائفها تتفق في جوهرها مع وظائف الأيديولوجيات الأخرى. فعلى غرار الوظيفة التفسيرية الأولى للأيديولوجية، فإن هدف السلفية الجهادية هو رفع مستوى الوعي بين المسلمين بأن دينهم في تراجع. وفي حين كان الإسلام في ذروته خلال القرون الأولى من وجوده، فإن السلفية الجهادية تحث المسلمين على إدراك أن المد قد تحول، وأن الإسلام في حالة دائمة من الانحسار على المستويات الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية.
ثانياً، وعلى نحو مماثل للوظيفة التشخيصية للأيديولوجيات الحديثة، يحدد السلفيون الجهاديون المصدر المزعوم لمعضلة الإسلام في الهجمات المستمرة من جانب تحالف معادٍ للإسلام يضم “الصليبيين” و”الصهاينة” و”المرتدين”.
إن الوظيفة الثالثة للسلفية الجهادية تتوازى أيضاً مع وظيفة أيديولوجية أخرى، ألا وهي محاولتها خلق هوية جديدة لأتباعها. وقد زعم العديد من العلماء أن المسلمين والمتحولين الغربيين الذين يتبنّون مبادئ السلفية الجهادية يعانون من أزمة هوية. وبالنسبة إلى أولئك الذين أربكتهم الحداثة، فإن الجهاد السلفي يوفر لهم إحساساً جديداً بالذات وبالانتماء في شكل عضوية إلى كيان فوق وطني. ويحاول السلفيون الجهاديون غرس فكرة في نفوس المسلمين مفادها أن الهوية الوحيدة التي تهم حقًّا هي الانتماء إلى الأمة، وهي المجتمع الإسلامي العالمي الذي يوفر للمسلمين المضطهدين الراحة والكرامة والأمن والشرف.
وأخيراً، وكما هي الحال مع كل الأيديولوجيات، يقدم السلفيون الجهاديون برنامج عمل، ألا وهو الجهاد، والذي يُفهَم من منظور عسكري. وهم يؤكدون أن الجهاد سوف يعكس مسار التاريخ وينقذ المسلمين من بؤسهم. ويمجدون الاستشهاد بوصفه وسيلة مضمونة يمكن من خلالها شن الجهاد وتحقيق النصر، ومن هنا جاء انتشار الهجمات الانتحارية بين الجماعات السلفية الجهادية.
وعلى غرار الأيديولوجيات الأخرى، تميز السلفية الجهادية بشكل حاد بين أتباعها وأولئك الذين لا يتبنون عقائدها. ويوصف الغربيون عادة بالكفار، في حين يُوصَم المسلمون المعتدلون بالمرتدين. وبالنسبة إلى أشد السلفيين الجهاديين تطرفاً، فإن المسلمين الذين يرفضون مبادئ السلفية الجهادية أخطر من الكفار، وبالتالي يستحقون الموت أولاً.
ومثل زعماء الأيديولوجيات الأخرى، يتجاهل مفكرو وقادة السلفية الجهادية المعلومات التي قد تتعارض مع حججهم أو قد تضعفها، أو ينكرونها، أو يعيدون تفسيرها، وهم يفسرون العنف الذي يمارسونه على المسلمين الآخرين على أنه أمر مشروع دينياً، ويتجاهلون النصوص المقدسة الإسلامية التي تحرم الاقتتال الداخلي أو قتل المدنيينن، وهم يلقون باللوم على الغرب بمفرده في كل محنة حلت بالمسلمين.
إن السلفية الجهادية كأيديولوجية تشترك في الكثير من القواسم مع الأيديولوجيات اليسارية المتطرفة في أوربا في القرن العشرين. فمثل اليسار المتطرف، تصف السلفية الجهادية مشروعها للتغيير جزئيًّا بأنه ثورة ضد الظلم، وترفض القيم البرجوازية والإمبريالية والمادية. ويتلخص هدف كل من الحركات اليسارية والجماعات السلفية الجهادية في الأساس في السعي المخاتل إلى تحقيق مجتمع أكثر عدالة. ويُنظَر إلى العنف بوصفه وسيلة مبررة لتحقيق غاية نبيلة. ويعتقد السلفيون الجهاديون والثوريون اليساريون المتطرفون أن نطاق أنشطتهم وأهمية أفعالهم عالمية بطبيعتها، وكذلك أهدافهم. وكما لاحظ ستيفن هولمز، فإن الخلافة بالنسبة إلى السلفيين الجهاديين “هي المعادل الديني ليوتوبيا الشيوعية التي تحدث عنها ماركس”.
إن السلفية الجهادية إذا كانت أيديولوجية، فما هي علاقتها بالدين؟ وكيف تختلف الأيديولوجيات عن الأديان؟ إن الأديان تختلف عن الأيديولوجيات في جانبين مهمين، وهما جمهورها المستهدف وعلاقتها بالنظام القائم. فمن حيث جمهورها المستهدف، تركز الأيديولوجيات في المقام الأول على الجماعة، في حين تركز الأديان على الفرد. وكما أشار بروس لورانس، “تركز الأديان على تعظيم المنفعة الفردية من خلال المشاركة الجماعية، في حين تركز الأيديولوجية على تعظيم المنفعة الجماعية من خلال المشاركة الفردية”. وعلى وجه التحديد، وبسبب انشغالها بالمجموعة ككل، فإن الأيديولوجية تتطلب قدراً كبيراً من الولاء والالتزام من جانب العضو الفرد. كذلك تشترط الأيديولوجيات، مثل الأديان، الموافقة اللفظية من أعضائها، ولكنها تهتم أكثر من الأديان بالسيطرة الكاملة على أفكار وأقوال وأفعال أتباعها. وتنطبق هذه الخاصية، على سبيل المثال، على تنظيم القاعدة، الذي تبنى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول نهج “إما أن تكون معنا أو ضدنا”.
ثانياً، تميل الأديان إلى دعم الأنظمة القائمة، في حين تميل الأيديولوجيات إلى مواجهتها. “إن الأيديولوجيات لا تعكس العالم فحسب، بل إنها تسعى إلى تشكيله أيضاً”، كما كتب لورانس. “إنها تميل إلى إظهار ما ينبغي للآخرين أن يفعلوه، وتصحيح أخطائهم ومساعدتهم على تحقيق أهدافهم”. وعلى هذا، فإن القادة الجهاديين، على النقيض من الزعماء الدينيين، لا يتوقفون عند مجرد الاختلاف مع أولئك الذين لا يشاركونهم معتقداتهم، بل إنهم يحاربونهم.
ولكن في حين أن السلفية الجهادية تختلف عن الإسلام بسبب طبيعتها الأيديولوجية، فإنها تختلف أيضاً عن الأيديولوجيات العادية في جانب مهم. فهي تميل إلى استخدام الكلمات والرموز والقيم الدينية لدعم خطابها. عادة ما تكون الأيديولوجيات خالية من الرموز الدينية. على سبيل المثال، كتب إيان آدمز أن “ما يفصل [الدين عن الأيديولوجية] هو أنه في حين أن السمة المركزية للفهم الديني هي مفهومه للإلهي، فإن السمة المركزية للفهم الأيديولوجي هي تصوره للطبيعة البشرية”.
ولكن على النقيض من الأيديولوجيات العلمانية، فإن السلفية الجهادية هي أيديولوجية دينية؛ لأنها تستحضر الدين بثلاث طرائق. أولاً، يصف السلفيون الجهاديون أنفسهم وأعداءهم بمصطلحات دينية. فيطلقون على أنفسهم أسماء دينية مثل “جيش محمد”، و”أسود الإسلام”، وبالطبع “المجاهدون”. وفي الوقت نفسه، يصفون أعداءهم بمصطلحات دينية أيضاً، فيشيرون إليهم بالصليبيين، أو المرتدين، أو الكفار. ثانياً، يصف السلفيون الجهاديون استراتيجيتهم ورسالتهم بأنها دينية. إن كفاحهم هو الجهاد، الذي يعرّفونه من منظور عسكري، ويتجاهلون مفهومه التقليدي الذي يشير إلى “الحرب الداخلية” ضد الإغراءات البشرية. كما يزعمون أن تكتيكهم الرئيس ليس الهجمات الانتحارية، بل “العمليات الاستشهادية”، وهو مصطلح يرتبط أصله بشكل ساخر بالإسلام الشيعي، الذي يراه السلفيون الجهاديون ارتداداً عن الإسلام الحقيقي. وأخيراً، يبرر السلفيون الجهاديون أعمال العنف التي يمارسونها بمراجع مستمدة انتقائياً من القرآن. ففي حين يستشهد أغلب المسلمين، بما في ذلك السلفيون غير العنيفين، بمصادر من القرآن والأحاديث النبوية ضد قتل المدنيين، يستشهد السلفيون الجهاديون بعدد من الآيات القرآنية والأحكام الحنبلية لدعم ادعاءاتهم.
التداعيات السياسية
إن تحديد طبيعة العقيدة السلفية الجهادية بوصفها أيديولوجية دينية ليس مجرد تمرين نظري أكاديمي، بل إنه ينطوي على تداعيات سياسية مهمة. والأمر الأكثر أهمية هو أنه ينبغي لنا أن ندرك بوضوح أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يواجهون ديناً ـ الإسلام ـ بوصفه عدوهم الرئيس، بل أيديولوجية هي السلفية الجهادية. ولكن حقيقة أن السلفية الجهادية ليست أيديولوجية علمانية عادية، بل هي أيديولوجية دينية، تشكل أهمية إضافية؛ لأنها تجعل محاولة تحدي هذه الأيديولوجية أكثر تعقيداً. فالسلفية الجهادية تستخدم المفاهيم والرموز الدينية لتعزيز قضيتها. وعلى الرغم من أنها تختار بشكل انتقائي من التقاليد الإسلامية فقط تلك العناصر التي تخدم أجندتها الضيقة، فإنها مع ذلك تستقي من نفس المصادر الدينية التي تشكل حياة وممارسات أكثر من مليار مسلم آخر. ولهذا السبب، فإن المسلمين العاديين ـ ناهيك عن غير المسلمين ـ يجدون صعوبة بالغة في مواجهة السلفية الجهادية دون المخاطرة باتهامهم باستهداف الإسلام ككل.
إن الغالبية العظمى من غير المسلمين يجدون صعوبة في إيجاد التوازن الصحيح بين مهاجمة السلفية الجهادية دون أن يُنظَر إليهم على أنهم يهاجمون الإسلام، وعلى هذا، فإن العقبات التي تواجه الولايات المتحدة وحلفاءها تبدو وكأنه لا يمكن التغلب عليها. إن النهج المناهض للإرهاب الذي يسلط الضوء على فساد الأيديولوجية السلفية الجهادية ليس على أسس دينية، بل على أسس علمانية، من المرجح أن يخلف التأثير المطلوب المتمثل في إضعاف جاذبية تلك الأيديولوجية. وبدلاً من تسليط الضوء على التناقضات العقائدية والدينية بين السلفيين الجهاديين، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن ينتهزوا كل فرصة لتسليط الضوء على العواقب الكارثية التي خلفها عنف هؤلاء على الحياة اليومية ليس فقط للغربيين، بل وأيضاً المسلمين أنفسهم في المقام الأول. ومن الحقائق البسيطة، وإن لم يتم التأكيد عليها بشكل كاف، أن الضحايا الأساسيين للسلفيين الجهاديين هم المسلمون، الذين يُقتلون ويصابون بأعداد أكبر كثيراً من غير المسلمين. ويبرر السلفيون الجهاديون علناً قتل المدنيين، بما في ذلك المسلمين، وفقاً لمنطق الغاية تبرر الوسيلة. ومن الحقائق الثابتة أيضاً أن زعماء المنظمات السلفية الجهادية يبشرون بنفاق بفوائد الاستشهاد، ولكنهم نادراً ما ينفذون عمليات انتحارية بأنفسهم، أو يرسلون أحباءهم في مثل هذه المهام، وأن التنظيمات الجهادية لا تقدم للمسلمين أي رؤية أخرى غير الجهاد الدائم، الذي غالباً ما يؤدي إلى نتائج عكسية، أو لا يؤدي إلى نتائج نهائياً، وهو احتمال غير جذاب على الإطلاق.
إن خوض معركة ضد أيديولوجية دينية مثل السلفية الجهادية مهمة صعبة تتطلب الالتزام والإبداع. ومع ذلك، فإن تسليط الضوء على بعض الحقائق البسيطة، ولكن المفيدة، حول النتائج الفعلية [السلبية] للسلفية الجهادية يمكن أن يقطع بنا شوطاً طويلاً.
الكاتب: عساف مقدم*
* زميل أول في مركز الأمن القومي في كلية فوردهام للقانون، وزميل في مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية، وأستاذ مشارك مساعد في جامعة كولومبيا.