تطور الجهادية في منطقة الساحل
تمرّ بلدان الساحل، هذه المنطقة الإفريقية الشاسعة، بفترة من الأزمات والتغيير: فقد استولت المجالس العسكرية الجديدة على السلطة، في حين يتراجع الوجود الفرنسي والأمريكي. وفي هذا السيناريو المعقد، غيرت الحركات الإسلامية في المنطقة أهدافها السياسية وأساليب عملها.
إن أزمة الساحل لها جذور تاريخية عميقة، إلا أن انهيار مالي في عام 2012 يعدّ على نطاق واسع بمثابة بداية الجولة الحالية من العنف وعدم الاستقرار. بعد أكثر من اثني عشر عاماً من تلك الأحداث، هناك استمرارية وتغيير عندما يتعلق الأمر بالجهادية الساحلية. على الجانب الجهادي، لا تزال بعض الوجوه المألوفة قائمة، حتى مع انتشار التمرد على مساحة واسعة. اختلط الجهاديون المتشددون الذين يعملون على نطاق إقليمي بالرعاة والقرويين الذين انجذبوا إلى الجهادية كجزء من منظومة البقاء والانتقام والسلطة. على جانب الحكومة، سقطت الأنظمة المدنية في يد الانقلابات العسكرية، وطُردت القوات الفرنسية إلى حد كبير من المنطقة، وتم تهميش المساعدات الأمريكية لمكافحة الإرهاب، والآن يتقرب المسؤولون والمرتزقة الروس من المجالس العسكرية الجديدة. ومع ذلك، في ظل الخلافات الدبلوماسية بين باماكو وباريس، أو نيامي وواشنطن، هناك بعض الافتراضات المشتركة بين كل هذه الحكومات، وهي القناعة (الخاطئة) بأن العسكر يمكنهم القتل للخروج من المشكلة. يبدو أن دول الساحل الوسطى، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، على استعداد للبقاء تحت الحكم العسكري، في حين تستمر التمردات الجهادية، والعنف الذي تثيره وتستغله، بما في ذلك انتهاكات قوات الأمن الحكومية والمذابح التي ترتكبها الجماعات شبه العسكرية، في الصمود.
من هم الجهاديون؟
إن فهم المشهد الجهادي في منطقة الساحل يمكن أن يبدأ بإياد أغ غالي. هو الآن في الستينيات من عمره، وهو رئيس جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التحالف الجهادي الأبرز في المنطقة، والمنظمة الأم لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين هي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهو نفسه تابع لتنظيم القاعدة المركزي. كان تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، قبل أن يحمل هذا الاسم وقبل انضمامه إلى القاعدة، القوة الاستكشافية الأولى التي جلبت الجهادية إلى منطقة الساحل في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث أقام روابط مع المجتمعات المحلية في شمال مالي وموريتانيا والنيجر من خلال التجنيد والزواج المختلط والشراكات الاقتصادية، وربما حتى دفع الرشاوى للمسؤولين المحليين.
كان أغ غالي، وهو من جماعة الطوارق العرقية، زعيماً للمتمردين في تسعينيات القرن العشرين، وأصبح مستشاراً للحكومات بعد ذلك؛ ومع انتشار عمليات الاختطاف التي قام بها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في منطقة الساحل وحصوله على مبالغ فدية متزايدة من الحكومات الأوروبية، كان أغ غالي وسيطاً رئيساً بين الجهاديين وحكومات المنطقة. وفي أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012، عندما تشكل تمرد آخر في شمال مالي، وجد أغ غالي نفسه غير محبوب بين جيل جديد من المتمردين. لذا لجأ إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، سواء من باب الانتهازية أو القناعة، ودخل حظيرة الجهاديين بنفسه بشكل كامل. وقد نجحت حركته المتحالفة مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أنصار الدين، في إزاحة المتمردين الانفصاليين والسيطرة على شمال مالي.
لقد أدى التدخل العسكري الفرنسي المسمى بعملية سرفال إلى تشتيت الجهاديين في أوائل عام 2013. وبقي الفرنسيون، وحوّلوا عملية سرفال إلى مهمة أكثر توسعاً تسمى عملية برخان في عام 2014. ما بين 2013 و 2022، قتلت عمليات مكافحة الإرهاب الفرنسية العشرات من كبار الجهاديين. وكان من بين القتلى ملازمون قدامى لأغ غالي، على سبيل المثال العقيد السابق في الجيش مالك أغ وناسناط، الذي قُتل في عام 2018. كما قضت القوات الفرنسية على أعلى مستوى من قادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مالي، بما في ذلك، في عام 2020، الزعيم العام للتنظيم عبد المالك دروكدال.
في الفترة من 2013 إلى 2015، كانت هناك حالة من الهدوء: كان الفرنسيون في حالة هجوم ضد الجهاديين، وكان الجهاديون يتجادلون مع بعضهم البعض، وفرض الفرنسيون وشركاؤهم مجموعة من مبادرات الاستقرار المزعومة: نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وبرنامج تدريب الاتحاد الأوربي، وفي عام 2015، اتفاق سلام بين المتمردين السابقين في الشمال والحكومة المالية في الجنوب. اليوم، اختفت كل مبادرات الاستقرار هذه، ولم يبق منها سوى القليل من الأثر.
وبينما كان الفرنسيون وحلفاؤهم يسعون إلى تحقيق الاستقرار في مالي، كان الجهاديون يتقاتلون مع بعضهم البعض، ولكنهم أعادوا تنظيم صفوفهم في نهاية المطاف. فقد ترأس حليف أغ غالي، أمادو كوفا، القادم من وسط مالي، تمرداً هناك بدءاً من عام 2015. واكتسبت التعبئة الجهادية في منطقتي موبتي وسيغو في مالي أرضية شعبية بسرعة مذهلة، مما أدى إلى تنشيط التوترات الكامنة حول الأرض والسلطة والعرق. وردت قوات الأمن المالية بوحشية، فمارست العقاب الجماعي ضد الفولانيين (مجموعة كوفا العرقية)، وتسامحت مع الميليشيات العرقية المنافسة التي بدأت أيضاً في استهداف الفولانيين. وفي أواخر عام 2016، ظهرت مجموعة متحالفة في بوركينا فاسو، وأعلنت عن نفسها باسم أنصار الإسلام.
في عام 2017، ومع احتدام الصراع في وسط البلاد، جمع أغ غالي وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي معظم الوحدات الجهادية في منطقة الساحل في ما أصبح يُعرف الآن بجماعة نصرة الإسلام والمسلمين. وقد لقي ثلاثة من القادة المؤسسين الخمسة للجماعة مصرعهم على أيدي الفرنسيين، لكن أغ غالي وكوفا تمسكا بالجماعة. وفي لحظات حاسمة، تمكن أغ غالي وكوفا من التباهي بنفسيهما: فقد ظهر كوفا في مقطع فيديو عام 2019، بعد أشهر من إعلان الفرنسيين عن وفاته، واستضاف أغ غالي حفلة في الصحراء للسجناء الجهاديين المحررين في عام 2020، مع التأكد من نشر صور الحفلة بعد ذلك، وكأنه يُظهر للجميع من هو الرجل القوي في شمال مالي.
لقد برز بعض القادة الجدد، لكن لا يبدو أنهم مختلفون كثيراً عن القدامى. ففي بوركينا فاسو، توفي زعيم أنصار الإسلام إبراهيم ديكو، ربما بسبب مضاعفات مرض السكري، في عام 2017؛ وخلفه شقيقه جعفر. وفي وسط مالي، إلى جانب كوفا، هناك آخرون يعملون في مجال الوعظ الجهادي، مثل محمود باري. وفي الجزائر، خلف دروكدال في قيادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي مخضرم مسن آخر، يوسف العنابي. وفي الوقت نفسه، في عام 2015، أعلن فصيل منشق عن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتطور إلى ما يعرف اليوم باسم تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل. وهذه المجموعة، التي قادها سلسلة من الشخصيات التي تنحدر أو تدعي أنها تنحدر من أقاليم الصحراء المغربية، أكثر وحشية من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين.
لكن منذ عام 2012، تحول الهيكل الأساسي للجهادية في المنطقة بشكل متزايد من العمليات الإرهابية النخبوية إلى التمردات الريفية الجماعية. إن القادة مهمون، ولكن الأمر نفسه ينطبق على الجنود، الذين يبدو أن معظمهم من الرعاة الشباب والقرويين. وهم ينجذبون إلى المشروع الجهادي مع وصول الصراع العنيف إلى عتبة دارهم، أو بعض المناطق القريبة، مما يؤدي إلى تنشيط مخاوف الفناء وإشعال تأثيرات الدومينو، حيث تنفجر التوترات الكامنة – بين المزارعين والرعاة والصيادين، بين الطبقات الاجتماعية أو بين العبيد السابقين والأسياد السابقين، وبين الجماعات العرقية والطبقية – في حرب مفتوحة. يتحدث الصحفيون والأكاديميون بشكل متكرر عن استغلال الجهاديين أو تلاعبهم بالتوترات المحلية، لكن هذه الصياغة تعني وجود فئة متنقلة من الجهاديين المحترفين الذين يستغلون المخدوعين المحليين. لذلك، فالأدق أن نقول إن الجهاديين ليسوا فقط محركي الدمى؛ إنهم مشاركون أساسيون في السياسة والصراعات المحلية.
إلى حد ما، يتماشى هذا الاتجاه الساحلي مع الاتجاهات في أماكن أخرى من القارة: فالحركات الأكثر إصراراً هي تلك التي تغرس أنيابها في المناطق الريفية، مثل حركة الشباب الصومالية أو ولاية غرب إفريقيا التابعة لتنظيم لدولة الإسلامية في نيجيريا، وهي التي تبتز السكان وترهبهم، بينما تتحدى سلطة الدولة. ويتمثل اتجاه آخر في التحول من الجهود العلنية لبناء “دول أولية” جهادية، كما فعلت القاعدة وحلفاؤها في شمال مالي في عامي 2012 و2013، إلى مشاريع حكم ظل هجينة وغير رسمية ومتنوعة محلياً. في مالي وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، سعى الجهاديون إلى مثل هذا الحكم من خلال حملات الترهيب والحصار، والتحالفات على مستوى المجتمع، ووجود المحاكم والقضاة، وغيرها من الآليات. ومرة أخرى، يعكس هذا الاتجاهات في أماكن أخرى في إفريقيا؛ فقد استولى تنظيم تابع للدولة الإسلامية بشكل دوري على أراضٍ في موزمبيق، وخاصة منذ عام 2020، ولكن غالباً ما تم صده في النهاية من قبل القوات الموزمبيقية أو الأجنبية.
ولكن إذا لم يعد الجهاديون يعلنون إماراتهم، كما فعلوا في عام 2012 في مالي (أو في عام 2014 في نيجيريا، أو في العديد من الأماكن في العالم في الفترة 2012-2015)، فما الذي يسعون إليه إذن؟ أحد الأنماط المفترضة هو الانتشار الجغرافي. فعلى النقيض من الخرائط المثيرة للقلق التي نراها تصور نصف القارة الإفريقية كمنطقة للنشاط الجهادي، كانت عملية انتشار الجهاديين غير متساوية على الدوام. فقد بدأت الجهادية الساحلية مع بحث رواد القاعدة الجزائريين عن فرص عسكرية واقتصادية جديدة خارج حدود الجزائر، ولم يكن هدفهم العسكري الأول مالي بل موريتانيا؛ واليوم، أصبحت موريتانيا هادئة نسبياً. وفي بعض المناطق، مثل وسط مالي وشمال بوركينا فاسو في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انفجرت الجهادية بسرعة على شكل تمرد جماعي بعد الهجمات الأولية للجهاديين؛ وفي مناطق أخرى، مثل جنوب مالي أو شمال كوت ديفوار، بدت الهجمات الجهادية أكثر تقطعاً. وهناك مناطق أخرى يشير إليها الصحفيون والمحللون باعتبارها مناطق محتملة للتوسع، مثل شمال غرب نيجيريا وشمال غانا، والتي ظلت عصية بشكل مدهش على الاختراق الجهادي.
في أراضيهم الأساسية، خاض الجهاديون في منطقة الساحل مرحلة ممتدة من التجارب. وفي بعض الأحيان، ينقلون القتال مباشرة إلى جيوش المنطقة: على سبيل المثال، هاجمت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المعسكر الرئيسي للجيش المالي في كاتي، على بعد أقل من عشرين كيلومتراً من العاصمة باماكو، في يوليو / تموز 2022؛ وفي بوركينا فاسو، اقتحمت الجماعة نفسها قاعدة عسكرية أخرى في بلدة جيبو الشمالية في نوفمبر / تشرين الثاني 2023. وفي أوقات أخرى، يبدو أن الجهاديين يحاصرون بشكل منهجي المراكز الإدارية الرئيسية. منذ عام 2022، على سبيل المثال، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الساحل على العديد من البلدات في منطقة ميناكا في مالي، ويبدو أنه على استعداد للسيطرة على مدينة ميناكا نفسها. ومع ذلك، يمتنع الجهاديون عن إعلان سيطرتهم بشكل علني.
أعداء الجهاديين
بما أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الساحل أصبحا من الفاعلين الثابتين في المنطقة، فإن التغيير في أطراف الصراع خلال السنوات القليلة الماضية تمثل بشكل أساسي في أن مالي وبوركينا فاسو والنيجر شهدت جميعها انقلابات عسكرية. بدأت موجة الانقلابات الحالية في مالي في عام 2020 ثم انتشرت إلى البلدين الآخرين في عامي 2022 و2023. والواقع أنه من نواكشوط إلى الخرطوم، لا يوجد الآن رئيس دولة ليس إما ضابطاً عسكرياً متقاعداً أو في الخدمة الفعلية.
في منطقة الساحل الوسطى، فقدت الشعوب ثقتها في نوع معين من الساسة المحترفين ذوي التوجهات الباريسية. وكان هؤلاء الساسة وجوهاً مألوفة منذ تسعينيات القرن العشرين، قبل وقت طويل من ولادة معظم سكان المنطقة. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تصاعدت الإحباطات إزاء ما اعتبره العديد من المواطنين فساد وعدم كفاءة القادة المدنيين، وخاصة مع انتشار الانفلات الأمني. ولم تمثل الانتخابات بالضرورة الإرادة الشعبية، وخاصة إعادة انتخاب الرؤساء الحاليين؛ فمن بين الرؤساء المدنيين الثلاثة الذين أطيح بهم في النهاية في انقلابات، كان اثنان في ولايتهما الثانية، وكان الثالث هو الخليفة المختار بعناية للرئيس السابق. وأظهر استطلاع تلو الآخر أن المواطنين يثقون في العسكر والزعماء الدينيين، في حين ينظرون إلى الرؤساء المدنيين والهيئات التشريعية بازدراء. في مثل هذه الأجواء، قد تتنوع الأسباب ـ الاحتجاجات الجماهيرية التي أعقبت الانتخابات في مالي، أو غضب الجنود في الخطوط الأمامية إزاء الخسائر في ساحات المعارك في بوركينا فاسو، أو محاولة إقالة قائد الحرس الرئاسي في النيجر ـ ولكن النتيجة كانت واحدة. وما كان لافتاً للنظر ليس الانقلابات فحسب، بل وأيضاً المقاومة المحدودة للغاية من جانب المجتمع المدني أو المواطنين العاديين. فقد رحب العديد من المواطنين، على الأقل في العواصم، بهذه الانقلابات.
لقد شهدت مالي وبوركينا فاسو والنيجر حكماً عسكرياً في الماضي، بما في ذلك فترات طويلة من الدكتاتورية العسكرية خلال الحرب الباردة. وشهدت البلدان الثلاثة أيضاً انقلابات ما بعد الحرب الباردة. لكن الانقلابات التي حدثت في التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت قصيرة العمر نسبياً. لقد اتبعت أحد ثلاثة أنماط: أولاً، سرعان ما استنفد بعض الضباط شعبيتهم، مثل إبراهيم باري ماينسارا في النيجر، الذي أطلق عليه جنوده النار بعد أكثر من ثلاث سنوات بقليل من توليه السلطة في عام 1996؛ أو أمادو سانوغو في مالي، الذي تعرض للضغوط للتنازل عن السلطة بعد أسابيع فقط من قيادته لانقلاب في عام 2012. ثانياً، اعتبر بعض الانقلابيين أنفسهم أوصياء على الدولة بشكل مؤقت، مثل المجلس الأعلى لاستعادة الديمقراطية في النيجر، الذي نقل السلطة إلى مدني منتخب بعد أربعة عشر شهراً فقط من انقلابهم في عام 2010. ثالثاً، سارع بعض الانقلابيين إلى خلع ملابسهم العسكرية وارتداء ملابس مدنية والترشح للانتخابات، مثل محمد ولد عبد العزيز في موريتانيا. وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن المجالس العسكرية الحالية عازمة على البقاء في السلطة لفترة طويلة. ومن اللافت للنظر أن المجلس العسكري في مالي ظل في السلطة لفترة أطول من أي زعيم عسكري في منطقة الساحل تولّى السلطة بين عامي 1991 و2020، ويتحرك المجلس العسكري في مالي حالياً لتمديد “فترة انتقاله” حتى عام 2027. والواقع أن الحاكم العسكري الذي يقود انقلاباً ثم يرفض الانسحاب، حتى ولو لمجرد الخروج من الزي العسكري، هو شيء لم نشهده في منطقة الساحل منذ ثمانينيات القرن العشرين.
لقد وصلت جميع المجالس العسكرية إلى السلطة ووعدت بمحاربة الجهاديين بشكل أقوى، لكن انعدام الأمن تفاقم تحت إشرافها. لم تبدأ المجالس العسكرية الحرب. قبل وبعد وصولها، كان العنف يرتفع عادة عاماً بعد عام. حتى قبل انقلاب أغسطس / آب 2020 في مالي، الأول من الموجة الأخيرة، كان لدى بوركينا فاسو مليون نازح داخلياً. ومع ذلك، تسببت المجالس العسكرية في تفاقم العنف بأربع طرق رئيسية.
أولاً، قلصت المجال الذي بدا وكأنه موجود، وخاصة من حوالي 2017-2020 في مالي، ومن حوالي 2020-2022 في بوركينا فاسو، ومن حوالي 2016-2023 في النيجر، للتفاوض مع الجهاديين. لم تسفر المفاوضات عن أي شيء أكثر، خلال ذلك الوقت، من الصفقات المحدودة (وقف إطلاق نار محلي، وتبادل الأسرى، وما إلى ذلك)، لكن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أشارت على الأقل إلى استعدادها النظري للتوصل إلى تسوية أوسع نطاقاً، وحتى تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل أثبت براجماتيته في بعض النواحي. ومن خلال حملات القمع الوحشية والخطابات العدوانية، نجحت المجالس العسكرية في إغلاق الباب أمام الفرص المحدودة للتوصل إلى تسوية التي بدت موجودة في وقت ما.
ثانياً، لم يؤد عنف المجالس العسكرية إلى إعاقة السلام فحسب، بل أشعل الصراع بشكل مباشر. كانت عمليات القتل الجماعي وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها المجالس العسكرية مروعة، وأسوأ مثال على ذلك مذبحة مارس/ آذار 2020 التي ارتكبتها القوات المسلحة المالية وحلفاؤها من مجموعة فاغنر في بلدة مورا بوسط مالي، ولكن هناك العديد من الحوادث الأخرى. علاوة على ذلك، فإن عمليات القتل الجماعي هذه تخيف وتنفّر المدنيين الذين تحتاج إليهم المجالس العسكرية في حال أرادت إعادة بناء تماسك وطني حقيقي.
ثالثاً، سمحت المجالس العسكرية – وخاصة في مالي وبوركينا فاسو – للمنظمات شبه العسكرية العنيفة بالعمل على أراضيها. في مالي، كانت مجموعة فاغنر، المرتزقة المتحالفين مع الكرملين، هي التي أعيد تسميتها بفيلق إفريقيا بعد الوفاة الدرامية لزعيمها يفغيني بريغوزين في أغسطس / آب 2023. وقد دعمت مجموعة فاغنر/ فيلق إفريقيا أسوأ تجاوزات القوات المسلحة المالية. في بوركينا فاسو، ارتكب “متطوعو الدفاع عن الوطن”، وهي ميليشيا مناهضة للتنظيمات الجهادية، العديد من الانتهاكات وأصبحوا هدفاً للجهاديين؛ كما اتهم الصحفيون رئيس بوركينا فاسو نفسه، إبراهيم تراوري، باستخدام المتطوعين كوسيلة للتخلص من المعارضين الذين يزعجونه، وتجنيدهم قسراً في المجموعة وإلقائهم في طريق الموت.
رابعاً، كانت المجالس العسكرية غير متسقة في سلوكها. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2020، كان المجلس العسكري في مالي، بعد توليه السلطة، يختتم عملية تبادل أسرى مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، في حين كان، في الوقت نفسه، يستعرض قوته ضد الجماعة نفسها في بلدة فارابوكو. وتعلن المجالس العسكرية أنها موجودة هناك لتأمين دولها ضد الجهاديين، لكنها غالباً ما تبدو أكثر اهتماماً بأعداء آخرين، بما في ذلك الصحافيون، وقادة النقابات العمالية، والسياسيون المدنيون، ونشطاء حقوق الإنسان الذين تعتقلهم في عواصمها. في أواخر عام 2023، شن المجلس العسكري في مالي هجوما كبيراً على الشمال، ليس لمواجهة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، بل للتنافس مع جماعة متمردة سابقة والانتقام منها، والتي ـ بسبب تك الحملة ـ تحولت الآن مرة أخرى إلى التمرد. والواقع أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تبدو حريصة على الاستفادة من الموقف واستعادة حلفائها القدامى.
ولعل هناك سبب خامس في تصاعد العنف يعود إلى نهاية سياسة مكافحة الإرهاب الفرنسية. فقد طردت المجالس العسكرية في باماكو، وواجادوجو، ونيامي، القوات الفرنسية باسم السيادة، كما قاومت نيامي الجهود الأمريكية الرامية إلى إملاء شروط الشراكة الأمنية.
ولكن هل يساهم قطع هذه الشراكات في العنف؟ ربما. ومع ذلك، كانت الأمور عنيفة قبل الانقلابات أيضاً. علاوة على ذلك، حملت العملية الفرنسية بذور نهايتها المحبطة. فقد اقترنت مكافحة الإرهاب الفرنسية ظاهرياً باستراتيجية أمنية ونهج متعدد الأوجه يشمل التحديات السياسية والاقتصادية في المنطقة. ومع ذلك، اعتمد الحضور الفرنسي بشكل كبير، من الناحية السياسية، على تعاون القادة المدنيين الذين يتمتعون بشرعية هشة. وفي الوقت نفسه، كما أشرنا أعلاه، تزايد العنف وأصبح أكثر تعقيداً: فإلى جانب الجهاديين والجيوش الوطنية والجيوش الأجنبية، نشأت أيضاً ميليشيات طائفية ومنظمات شبه عسكرية وقطاع طرق وغير ذلك. وتساءل المدنيون بشكل متزايد عما كان الفرنسيون يفعلونه على أرض الساحل. والواقع أن الانقلابات لم تعرقل التقدم السياسي أو الأمني، بل استجابت لأزمة كانت قائمة بالفعل ثم أدت إلى تفاقم تلك الأزمة.
ومن المفارقات اللافتة أن لغة المجالس العسكرية تحاكي في بعض الأحيان لغة الفرنسيين الراحلين. ففي أبريل/ نيسان، تباهت القوات المسلحة المالية بأنها “حيدت زعيماً إرهابياً مهماً من جنسية أجنبية أثناء عملية واسعة النطاق” في شرق مالي. وقد تكررت مثل هذه العبارات ـ “تحييد” أو “القضاء” على “زعماء إرهابيين” كبار ـ مراراً وتكراراً في البيانات الصادرة عن عملية برخان الفرنسية، حتى مع تدهور الوضع بشكل مطرد في منطقة الساحل. وسواء كان مدنياً في الرئاسة أو عقيداً، وسواء كانت قوات ساحلية أثناء القتال أو قوات أجنبية، يبدو أن كل صانع قرار تقريباً يعتقد أن المشكلة في المقام الأول أمنية، ويمكن حلّها بالعنف وإطلاق النار.
الحلول؟
من الصعب أن نحدد الحلول المحتملة لأزمة الساحل دون أن ننحدر إلى عبارات مبتذلة؛ فالمفردات المستخدمة في التقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث أو في المؤتمرات السياسية الأوروبية التي تبدو بلا نهاية بشأن منطقة الساحل أصبحت بالية: “الحكم الرشيد”، “إصلاح قطاع الأمن”، “تمكين المجتمع المدني”، “مكافحة التطرف العنيف”. يشير هذا النوع من المصطلحات إلى تآكل الأفكار الفعالة. ولا تزال القوى الخارجية ترغب في استمالة القادة، وتنفيذ مشاريع الهندسة الاجتماعية، والزعم (حتى بعد الكوارث الأمريكية في أفغانستان والعراق) بأن مكافحة التمرد يمكن أن تتحقق من خلال تطبيق مباشر للعقائد المدرسية. وفي منطقة الساحل، ورث القائمون على السلطة الآن أوضاعاً سيئة بشكل لا يمكن تصوره، ولكنهم استقبلوا هذه الأوضاع أيضاً بنقص واضح في الخيال. فقد كان الحكام العسكريون أشبه بالحكام المدنيين في اهتمامهم بالاستيلاء على السلطة في العواصم أكثر من اهتمامهم بالموت الجماعي المنتشر في المناطق النائية.
في نهاية المطاف، سوف يخرج القادة الجهاديون من المشهد بطريقة أو بأخرى. وتحت الضغوط المحلية والدولية، سوف تقام انتخابات ـ ربما تكون مجرد انتخابات رمزية، كما حدث في تشاد في مايو/ أيار ـ تعيد بعض مظاهر النظام الدستوري إلى منطقة الساحل الوسطى. لكن المجهول الحقيقي هو ما قد يحدث لهؤلاء المقاتلين الشباب، وما إذا كان بوسع أحد أن يقدم لهم بديلاً سياسياً للحرب التي لا تنتهي.
الكاتب: أليكس ثورستون