لقد أظهرت الأجزاء السابقة كيف ازدهرت العديد من المنظمات الإسلاموية المرتبطة بالإخوان المسلمين في البيئة المتسامحة في الولايات المتحدة. وفي هذه العملية، عمل الإسلاميون بجدّ وبشكل علني على إنشاء طابور خامس من الناشطين، لتقويض الأسس ذاتها التي قامت عليها أمريكا وتحدّي دستورها وتنوعها الديني.
إن غض الطرف عن جماعة الإخوان المسلمين وتطرفها الأيديولوجي ـ حتى ولو كان ذلك من أجل مكافحة التطرف العنيف والإرهاب ـ يشكل تهديداً مباشراً للنظام الديمقراطي. وبطبيعة الحال، قد يرحب الإخوان بمثل هذا التهديد، حيث تنص ورقة الاستراتيجية طويلة الأمد التي أصدرتها الجماعة في عام 1991 على أنها تأمل في “تدمير أمريكا من الداخل”. علاوة على ذلك، وكما ذكرنا آنفاً، يبدو أنهم أدركوا كيف يمكن استخدام مفاهيم معينة مثل “الديمقراطية” و”حرية التعبير” في أمريكا لكسب الجماهير.
إن التهديد الإسلاموي حقيقي، وهو نتيجة لعقود من التواصل وتشييد البنية الأساسية والإعداد الفكري والأيديولوجي. لقد أنفقت هذه الجماعات مليارات الدولارات في تكوين شبكات من المؤيدين ذوي التفكير المماثل وعملت بنشاط على الهندسة الاجتماعية (أي أسلمة المجتمع) لمدة تقرب من خمسة عقود. ومع تزايد “استقرار” جماعة الإخوان المسلمين في أمريكا ونضجها، أضافت مؤسسات جديدة، ووسعت نطاق تغطيتها جغرافياً وعلى مستويات متعددة: من المحلية إلى الدولية، ومن الجمعيات الخيرية إلى العلاقات العامة، وفي نهاية المطاف إلى السياسة الحكومية.
إن وثائق الإخوان المسلمين ذاتها تؤكد بوضوح على الحاجة إلى “إتقان فن التحالفات، وفن الاستيعاب، ومبادئ التعاون”. ونتيجة لهذه الاستراتيجية، تمكن أفراد مثل سامي العريان ـ الذي ادعى أنه نجح في إيصال أصوات المسلمين إلى الحزب الجمهوري في عام 2000 ـ من الوصول إلى أعلى مستويات الحكومة الأمريكية. ويشكل اكتساب النفوذ داخل الولايات المتحدة أهمية خاصة بالنسبة إلى الإخوان المسلمين؛ ذلك لأن هذه القوة العظمى تؤثر بشكل كبير على كيفية معاملة الإسلاميين في أجزاء أخرى من العالم. والواقع أن أحد الأهداف التي تم ذكرها في اجتماع فيلادلفيا في عام 1993 كان “تشكيل الرأي العام أو التوصل إلى سياسة للتأثير على الطريقة التي يتعامل بها الأمريكيون مع الإسلاميين”. وفي ضوء هذه المعلومات، ربما يكون من المفيد استكشاف عملية صنع القرار التي دفعت الولايات المتحدة إلى الضغط بشكل عشوائي من أجل إجراء انتخابات في الأراضي الفلسطينية، كما أدت إلى انتخاب وتمكين حماس التي ـ كما أوضحت هذه الدراسة بالتفصيل ـ ترتبط ارتباطاً قوياً ببعض أبرز المنظمات الإسلاموية الأمريكية وأكثرها نفوذاً.
إن قادة هذه المنظمات، الذين يتخفون وراء ستار حقوق الإنسان والعمل الخيري، نجحوا في إخفاء أجندتهم الحقيقية: دعم الإسلاموية، وحماية وتعزيز عمليات الجماعات المتطرفة التي تدعم الإرهاب. لذا فليس من المستغرب أن لا تدعم قطاعات كبيرة من القيادات الإسلاموية المؤسسية في أمريكا سياسة مكافحة الإرهاب الأمريكية. بل على العكس من ذلك؛ فهم يدينون تقريباً كل اتهام بالإرهاب، أو احتجاز، أو ترحيل، أو تحقيق، باعتباره هجوماً بدوافع دينية على الإسلام. وبدلاً من النظر في ما إذا كان الفرد المعني قد خرق أي قانون بالفعل، فإنهم يلقون باللوم بشكل غريزي على التعصب أو المؤامرة أو المشاعر المناهضة للمسلمين. على سبيل المثال، بعد أن داهم مكتب التحقيقات الفيدرالي مكاتب المؤسس المشارك لمؤسسة الأرض المقدسة غسان العشي في عام 2001، وصف المدير التنفيذي لكير نهاد عوض تصرفات الحكومة بأنها “حملة شعواء ضد المسلمين”. وتجدر الإشارة إلى أن العشي حوكم فيما بعد وأدين بتحويل الأموال إلى حماس.
إن الإسلاميين يتعمدون أحياناً القيام ببعض التصرفات الاستفزازية التي تهدف إلى جعل الجالية المسلمة الأمريكية تشعر بأنها تحت الحصار، ربما في محاولة لإجبارها على التوحد. ولعل حالة الأئمة الستة الذين مُنعوا من الصعود إلى طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الأمريكية في عام 2006 تشكل درساً مفيداً. فقد زعمت منظمة كير، التي تمثل هؤلاء الأئمة، أن هذه كانت حالة واضحة من “التمييز ضد المسلمين”. ولكن الأئمة مُنعوا من السفر ليس لأنهم مسلمون أو لأنهم قاموا للصلاة مباشرة خارج البوابة (ومرة أخرى على متن الطائرة، وهو أمر غريب لأن حتى المسلمين المتدينين لا يصلون بهذه الكثرة)، بل لأنهم تصرفوا مثل الخاطفين. فقد طالب الأئمة بالصعود إلى الطائرة في نفس الوقت على الرغم من أن اثنين منهم فقط كانا يحملان تذاكر الدرجة الأولى، ثم حاولوا الجلوس على متن الطائرة في تشكيل مريب (اثنان في الذيل، واثنان في الجزء الأوسط، واثنان في الدرجة الأولى). وكانوا يتمتمون بصوت عال باللغة العربية عن الجهاد ويلعنون الولايات المتحدة لتورطها في العراق. لقد طلبوا تمديدات أحزمة الأمان (والتي يمكن استخدامها كأسلحة مؤقتة)، على الرغم من أن أيّاً منها لم يكن كبيراً بما يكفي للاحتياج إليه. ولم يتعرض الركاب المسلمون الآخرون على متن الطائرة للمضايقة. ونظراً لسلوكهم المشبوه بشكل صارخ، فقد رأى الكثيرون أن الأئمة كانوا يحاولون عمداً استفزاز السلطات لإخراجهم من الطائرة بالقوة.
إن أعداداً لا تحصى من الشباب المسلمين الأمريكيين ـ سواء كانوا من المتحولين إلى الإسلام، أو من المسلمين المولودين في أسر علمانية، أو أولئك الذين نشأوا في أسر تقليدية ـ الذين التحقوا بالجامعات منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، يشعرون بالفضول إزاء الإسلام وهويتهم كمسلمين وأمريكيين في الوقت نفسه. وفي كثير من الأحيان ينتهي المطاف بهؤلاء الشباب والفتيات إلى الذهاب إلى فرع الجمعية الإسلامية الأمريكية المحلي بحثاً عن إجابات. ومن المؤسف أن الجمعية الإسلامية الأمريكية لا تزال في كثير من الأحيان الخيار الوحيد المتاح أمام طلاب الجامعات الراغبين في الانخراط في الشؤون الإسلامية. ولعل من غير المستغرب أن يجد تقرير بيو الذي صدر في مايو/ أيار 2007 أن ربع المسلمين الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و29 عاماً يعتقدون أن التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين يمكن تبريرها أحياناً للدفاع عن الإسلام، في حين أن 9% فقط من أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 30 عاماً يوافقون على هذا الرأي.
إن الإسلام بالنسبة إلى المسلمين غير الإسلاميين مسألة تتعلق بالإيمان الشخصي. وما دامت الحكومة تكفل لهم الحرية لممارسة عقيدتهم على النحو الذي يرونه مناسباً، فلن يكون لديهم أي سبب للتنظيم السياسي. ومن ثم فمن الضروري مساعدة المسلمين الأمريكيين ـ وخاصة الشباب منهم ـ على فهم الفارق بين الإسلام والإسلاموية؛ لأن المنظمات المختلفة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تقدم نفسها كممثلة للمجتمع الإسلامي الأمريكي، ليست جماعات دينية، بل هي كيانات سياسية لها أجندة أيديولوجية. وإذا استمرت الحكومة الأمريكية في التعامل مع هذه المنظمات، فلابد أن يتم ذلك في سياق مناقشة “حرب الأفكار”، وليس في إطار سلبي يعبر عن القلق إزاء الإساءة إلى حساسياتهم الدينية أو الروحية.
إن الاعتبار الآخر الذي يجب أن تولّيه الولايات المتحدة اهتمامها هو أن الطليعة الثورية الإسلامية لم تعد تقتصر على الناطقين بالعربية من أهل الشرق الأوسط؛ ذلك أن الإسلاميين المتشددين وحتى الإرهابيين اليوم وغداً هم مواطنون أذكياء من أهل الغرب، يتمتعون بالخبرة في مجال التكنولوجيا والإعلام. والواقع أن الأعمال الإرهابية داخل الولايات المتحدة تشكل انتكاسة ضخمة للإسلاميين الأمريكيين؛ ذلك أن استراتيجيتهم طويلة الأمد المتمثلة في التسلل التدريجي إلى داخل مؤسسات المجتمع الأمريكي تضررت بشدة في واقع الأمر بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، حيث أصبحت المنظمات الإسلاموية خاضعة على نحو متزايد لرقابة سلطات إنفاذ القانون. وليس من المستغرب أن تعرض أغلب هذه المنظمات تعاونها لمنع الإرهاب الإسلامي داخل الولايات المتحدة. وهذا هو السبب الرئيس أيضاً، وراء تفضيل البعض في الولايات المتحدة التعامل مع الإسلاميين. ولكن كما وصفنا آنفاً، فإن هذه سياسة مضللة، لأن التطرف الأيديولوجي هو السبب الجذري لمشكلة الإرهاب. وقد أشارت شرطة نيويورك صراحة إلى هذا الرابط في أحد تقاريرها عن التهديدات الإرهابية المحلية، حيث ذكرت أن “الأيديولوجية الجهادية السلفية هي المحرك الذي يحفز الشباب والفتيات، المولودين أو المقيمين في الغرب، على “الجهاد” من خلال أعمال إرهابية ضد بلدانهم المضيفة”.
إن التهديد الرئيس الذي يواجه أمريكا ليس استيلاء الإسلاميين على البلاد في نهاية المطاف، بل استيلاء الإسلاميين على مواطنيها المسلمين. ووفقاً للخطة طويلة الأمد التي وضعها الإخوان المسلمون لخلق عقلية “نحن وهم”، بدأ الإسلاميون في أوربا بالفعل في الدفع نحو إنشاء مجتمعات منفصلة ذاتياً، وهي العملية التي أطلق عليها البعض وصف “الفصل العنصري الطوعي”. وقد حظيت هذه التكتيكات بدعم حماسي من زعيم الإخوان المسلمين الراحل يوسف القرضاوي، الذي نصح المسلمين الذين يعيشون في الغرب مراراً وتكراراً بإنشاء “غيتوهات إسلامية” خاصة بهم لتجنب الاندماج الثقافي في المجتمعات الغربية. وإذا بدأ المسلمون الأمريكيون في تشكيل “مجتمعات موازية”، فسوف يصبح من الأسهل كثيراً على الإخوان المسلمين أن يدفعوا نحو إدخال الشريعة الإسلامية ـ كما يفهمونها ـ في هذه المجتمعات. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو بعيد المنال، فإنه لا يمكن استبعاده بالمطلق. ونظراً لأن معظم المنظمات الإسلامية الأمريكية تقع في أيدي الإسلاميين الذين يتمتعون بتمويل غير محدود على ما يبدو، واهتمام إعلامي، ونفوذ سياسي، فإن قلّة فقط من غير الإسلاميين سيكونون قادرين على مواجهتهم.