تقارير ودراسات

نظام أردوغان يتجاهل مموّلي داعش في تركيا

على مدى سنوات طويلة، غضت الحكومة التركية الطرف عن قيام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بنقل الأموال عبر شركات وهمية أنشأها في تركيا بين عناصره وعبر الحدود، مستغلاًّ النظام المالي التركي.

وكشف تحقيق أجراه موقع “نورديك مونيتور” عن ثلاث شركات وهمية، من بين عشرات أخرى، أنشأها عملاء معروفون من تنظيم داعش في العاصمة المالية التركية إسطنبول. ولم تبذل هذه الشركات، التي تستخدم حسابات تم فتحها في البنوك التركية، أي جهد لإخفاء التحويلات المالية بين تركيا وسوريا. والواقع أن مكتب إحدى هذه الشركات استُخدِم كمقرّ لحملة انتخابية محلّية من قِبَل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام الماضي.

العميل الذي استخدمه داعش كممول هو مواطن سوري مقيم في تركيا يبلغ من العمر 46 عاماً، ويدعى عماد المشنوق. وفقاً لمعلومات سرية حصل عليها موقع نورديك مونيتور، فقد تم تسجيل المشنوق كلاجئ، ومنح الإقامة في تركيا، وحصل حتى على رقم هوية وطني (99205533826). سمح له هذا بإنشاء شركات وفتح حسابات مصرفية وإجراء معاملات مع وكالات الحكومة التركية والوصول إلى الخدمات العامة.

وتشير أوراقه الثبوتية إلى أنه استقرّ في منطقة باشاك شهير بإسطنبول، وهي معقل المحافظين في حزب العدالة والتنمية الحاكم. وكانت أول شركة ساعد في تأسيسها هي “الجواد العقارية للإنشاءات والمواد الغذائية المحدودة”، وهي شركة تعمل في مجال العقارات والبناء وتجارة المواد الغذائية.

وتعد أعمال العقارات والبناء من بين القطاعات الأساسية في تركيا التي تستخدمها الشبكات الإجرامية والإرهابية لغسل الأموال وتحويل الأموال غير المشروعة إلى أموال نظيفة يمكن بعد ذلك نقلها من خلال المؤسسات المالية.

تأسست الشركة في 12 أغسطس / آب 2015 وسجلت في البداية باسم تالا الفرا، التي نقلت أسهمها لاحقاً إلى سحر بهادر في 9 يناير / كانون الثاني 2019، وكلتاهما سوريتان. استعادت الفرا الأسهم بعد عام لكنها نقلتها مرة أخرى في 13 أبريل / نيسان 2022 إلى رجل يبلغ من العمر 49 عاماً يُدعى أحمد ضاحي، والذي جاء أيضاً إلى تركيا كلاجئ سوري وحصل على الجنسية التركية. في 30 سبتمبر / أيلول 2022، تولى المشنوق إدارة الشركة ونقل مكتبها إلى منطقة باشاك شهير حيث يقيم.

في أغسطس / آب 2023، نقل المشنوق مكتب الشركة إلى مجمع تجاري في شارع عدنان مندريس رقم ب5 في باشاك شهير. واستُخدم هذا المكتب في الوقت نفسه كمقر حملة محلي للرئيس أردوغان خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعام 2023. ولا تزال صورة جوجل ايرث الملتقطة في ديسمبر / كانون الأول 2023 تُظهر شركة المشنوق الأخرى، “بيكو”، إلى جانب ملصقات للرئيس التركي أردوغان.

في 6 يناير / كانون الثاني 2016، أسس المشنوق شركته الثانية في إسطنبول، وهي شركة “بيكو توريزم المحدودة”، وهي وكالة سياحة وسفر مقرها في منطقة الفاتح. وقد سمح له هذا المشروع بالوصول إلى صناعة السفر وإدارة الحجوزات والتنسيق مع شركات الطيران وشركات الحافلات والفنادق وشركات تأجير السيارات. وتُظهِر بيانات السجل التجاري أنه باع أسهمه إلى ضاحي في 15 أبريل / نيسان 2022، لكنه أعاد شراءها بعد سبعة أشهر.

ويبدو أن المشنوق وضاحي كانا ينسقان عملياتهما التجارية، وينقلان مراراً وتكراراً أسهم الشركات التي كانا متورطين فيها ذهاباً وإياباً فيما بينهما.

في مواجهة صعوبات متزايدة في استخدام محلات المجوهرات وبيوت الصرافة لنقل الأموال لصالح داعش، قرر المشنوق إنشاء شركة مجوهرات خاصة به، والتي تعمل أيضاً كبيت صرافة. في 24 يناير / كانون الثاني 2022، كلف ضاحي بإنشاء شركة مجوهرات تسمى “شركة كويومكولوك المحدودة” في منطقة إسنيورت بإسطنبول. في 7 ديسمبر 2022، نقل ضاحي ملكية الشركة إلى المشنوق.

تعتمد تجارة المجوهرات في تركيا في أغلب الأحيان على النقد، كما يعمل العديد من تجار المجوهرات كمراكز غير رسمية لتبادل العملات الأجنبية. ويشكل هذا القطاع أحد السبل الأساسية التي تستغلها الجماعات الإرهابية، مثل داعش، لنقل الأموال بوسائل مختلفة، وغالباً ما تستخدم ما يُعرف بنظام الحوالة.

ولم تتخذ الحكومة التركية أيّ إجراء ضد مشاريع المشنوق التجارية التي أنشئت لصالح داعش، حتى واجهت ضغوطاً متزايدة من الولايات المتحدة ومجموعة العمل المالي (فاتف). وقد أدرجت مجموعة العمل المالي تركيا على قائمة مراقبة موسعة، يشار إليها عادة باسم “القائمة الرمادية”، بسبب أوجه القصور في آليات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب منذ عام 2021.

وقد وجه هذا التطور ضربة قوية للاستثمار الأجنبي في تركيا، وأدّى إلى زيادة أقساط المخاطر على الاقتراض الحكومي في وقت كانت البلاد تعاني بالفعل من صعوبات مالية واقتصادية.

ولإبعاد نفسها عن القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي، كان لزاماً على حكومة أردوغان أن تثبت أنها تتخذ إجراءات ضد غاسلي الأموال وممولي الإرهاب وشبكات الجريمة المنظمة. وفي هذه المرحلة، أصبحت أنشطة المشنوق التجارية في تركيا محور تحقيق جنائي، بعد سبع سنوات كاملة من تأسيس عملياته هناك.

وقد شكلت لائحة الاتهام التي أعدها مكتب المدعي العام في إسطنبول وقدمها إلى المحكمة في أبريل/ نيسان 2024 نقطة تحول بالنسبة إلى المشنوق، الذي أُدرج كمشتبه به في قضية تمويل الإرهاب إلى جانب 18 فرداً آخرين.

وكشفت التحقيقات التي أجرتها إدارة مكافحة الإرهاب في الشرطة عن قيام المشنوق وآخرين بتحويل الأموال إلى سوريا باستخدام الشركات التي أنشأوها في تركيا، وغالباً ما كانوا يستخدمون نظام الحوالة، وكانوا يتواصلون عبر تطبيق واتساب الذي كان بالفعل تحت مراقبة أجهزة الحكومة التركية.

وأشار التقرير الذي أعدته هيئة التحقيق في الجرائم المالية في تركيا (ماساك)، وهي مؤسسة معينة من قبل مجموعة العمل المالي في تركيا، إلى أن المشنوق، من خلال شركاته، متورط في تحويلات مالية مع شخصيات معروفة من تنظيم داعش تم تجميد أصولها بموجب عقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وكشف التقرير أن المشنوق قام بتحويل عدة مليارات من الليرات التركية عبر شركاته منذ عام 2017، على الرغم من عدم تسجيل أي تعاملات رسمية، وأكثر من 200 مليون ليرة عبر حساباته المصرفية الشخصية، فيما لا يزال المبلغ الذي تمكن من تحويله عبر نظام الحوالة الذي لا يسجل في المعاملات المصرفية مجهولاً.

كما لوحظت أنشطة مشبوهة في الإقرارات التي قدمها المشنوق. ففي تركيا، يُطلب من الشركات تقديم سجلات عن مشترياتها من السلع والخدمات التي تتجاوز مبلغاً معيناً (5000 ليرة تركية). وتُقدم هذه الإقرارات، مع نموذج الإخطار بشراء السلع والخدمات، ونموذج الإخطار ببيع السلع والخدمات، إلى هيئة الضرائب.

تبين من مراجعة استمارات شراء وبيع السلع والخدمات التي قدمها المشنوق أنها لا تتطابق مع الأنشطة التجارية التي كان من المفترض أن يمارسها ضمن المنطقة التي حصل على ترخيص العمل فيها.

على سبيل المثال، في شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 2023، قام أبو علاء، المعروف أيضاً باسم عبد الحميد حديب أو فواز، وهو أحد عملاء داعش في الرقة بسوريا، بتحويل 600 ألف دولار إلى إسطنبول في 20 معاملة مختلفة من خلال شركة المجوهرات “بيكو” التابعة للمشنوق.

بعبارة أخرى، كانت السلطات التركية على علم بأن المعاملات كانت تجري وأن الشركات كانت في الواقع شركات وهمية، لكنها لم تتحرك حتى اللحظة الحرجة عندما قررت حكومة أردوغان اتخاذ إجراءات صارمة ضد المشنوق وشركائه لإظهار استعداد تركيا للتعاون مع مجموعة العمل المالي لإزالة نفسها من القائمة الرمادية.

وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها. ففي 28 يونيو/ حزيران 2024، أي بعد شهرين فقط من إعلان السلطات التركية فتح قضية جنائية ضد ممولي داعش، أزالت مجموعة العمل المالي تركيا من القائمة الرمادية.

في غضون ذلك، ألغت وزارة المالية التركية، برئاسة محمد شيمشك، شرط تقديم الشركات لنماذج الإخطار بشراء وبيع السلع والخدمات اعتباراً من سبتمبر/ أيلول من هذا العام، مشيرة إلى الحاجة إلى تقليل العبء الورقي على الشركات.

وتضمنت لائحة الاتهام أيضاً دليلاً مهمّاً على شكل محرك أقراص محمول تم الحصول عليه من داعش قبل عدة سنوات أثناء اعتقال أحد أعضاء التنظيم في مقاطعة كيليس الحدودية التركية بالقرب من سوريا. احتوى محرك الأقراص على وثائق باللغة العربية تفصل أنشطة داعش في سوريا من عام 2019 إلى عام 2021. وقد تم تقديم بعض هذه الوثائق في إصدارات مترجمة إلى اللغة التركية كدليل ضد المشنوق والمشتبه بهم الآخرين.

وفي وثيقة بعنوان “ولاية الشام في الدولة الإسلامية ـ الأمن”، أرسلها عمر أمير داعش في حلب في 16 مارس / آذار 2021 إلى نائب حاكم داعش في الشام، تفصّل الوثيقة قلق داعش من الحملة المالية على التنظيم في العديد من البلدان، وتحث على توخي الحذر. جاء في الوثيقة: “إذا كان مكان تحويل الأموال معروفاً في المنطقة، فقد يؤدي ذلك إلى القبض على أعضائنا، حيث يمكن للكاميرات في المكتب تسجيلهم وكشف وجوههم. ولهذا السبب تم اعتقال العديد من الإخوة. كما نعلم أن العديد من شركات تحويل الأموال ترسل تسجيلات الكاميرات والصور والأسماء وتقارير أنشطة التحويل إلى الطواغيت”.

وأوصى أمير داعش باستخدام شركات وهمية لتحويل الأموال في شكل خطوط ائتمان وتحويلات أسهم لتجنب الكشف عنها. وقال أمير داعش: “ليس من الممكن بالنسبة لنا إجراء تحويلات كبيرة. الحل البديل هو استخدام طرق الائتمان [الإيداع] بين الشركات. وهذا يتطلب إقامة علاقات مع شركات معينة. لدينا بالفعل علاقات مع بعض الشركات. نحن نقيم اتصالات مع أصحاب الشركات الذين قُتلت عائلاتهم أثناء الجهاد في الدولة الإسلامية”.

وفي لائحة الاتهام، وجهت إلى المشنوق تهمة “الانتماء إلى منظمة إرهابية مسلحة”، و”انتهاك قانون منع تمويل الإرهاب”، و”شراء أو حمل أو حيازة أسلحة نارية وذخائر غير مرخصة”. وهي تهم تصل عقوبتها إلى 42 عاماً في السجن في حال إدانته. ويطالب المدعي العام بعقوبات مختلفة لـ 18 مشتبهاً آخرين متورطين في نفس القضية.

لا يُتوقع أن يحدث تغيير حقيقي بعد انتهاء المحاكمة، نظراً لأن معظم قضايا داعش في تركيا غالباً ما يتم إطلاق سراح المتهمين فيها أثناء جلسات الاستماع، مع إدانة عدد قليل جداً منهم بالفعل. في بعض الحالات، حتى أولئك القلائل من أعضاء داعش الذين أدينوا في محاكم أدنى درجة يتم نقض الأحكام الصادرة ضدهم عند الاستئناف، حيث يعمل نظام العدالة الجنائية في تركيا، المتأثر بشدة بالإسلاميين والقوميين، بمثابة باب دوار للمشتبه بهم من أعضاء داعش.

الكاتب: عبد الله بوزكورت*

 

الرابط:

https://www.meforum.org/mef-online/erdogan-regime-ignored-isis-financiers-in-turkey-for-years

 


* صحفي استقصائي ومحلل مقيم في السويد يدير شبكة البحوث والرصد النورديكية، وهو أيضاً رئيس مركز ستوكهولم للحرية. بوزكورت هو مؤلف كتاب “تركيا معطلة: إخراج الديمقراطية عن مسارها” (2015). عمل سابقاً كصحفي في نيويورك وواشنطن وإسطنبول وأنقرة.

زر الذهاب إلى الأعلى