العلاقة طويلة الأمد بين إيران وتنظيم القاعدة
في بداية شهر سبتمبر/ أيلول 2018، نشرت مجلة “نيو أمريكا” ورقة بحثية استندت إلى وثائق من تنظيم القاعدة تم استردادها، وخلصت إلى أنه “لا يوجد دليل على التعاون” بين الجماعة الإرهابية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. وتشيد دراسة “نيو أمريكا” بنفسها؛ لأنها تتبنى نهجاً “يتجنب التسييس” في مناقشة العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة، لكن هذا أمر مشكوك فيه، ويحتاج إلى مراجعة.
لقد حظيت رواية ما برواج في بعض أجزاء مجتمع السياسة الخارجية خلال أيام حرب العراق، واكتسبت زخماً منذ صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2014، مفادها أن إيران يمكن أن تكون شريكاً في المنطقة، على الأقل ضد الإرهاب (السُنّي)؛ لأن طهران تشترك في هذا الهدف مع الغرب. وفي عهد الرئيس باراك أوباما، أصبحت هذه الفكرة سياسة قابلة للتطبيق: تحركت الولايات المتحدة لإخراج الحكومة الإيرانية من عزلتها ودمجها في النظام الدولي.
كانت الأداة الأساسية لإعادة إيران إلى المجتمع الدولي هي الاتفاق النووي أو خطة العمل الشاملة المشتركة. ولكن هذا لم يكن سوى جانب واحد؛ فقد حدثت التطورات الأكثر أهمية على الأرض في المنطقة. ففي العراق، حصل وكلاء إيران على الدعم الجوي من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش، مما ساعد طهران على صياغة التسوية السياسية المناسبة لها في ذلك البلد في أعقاب “الخلافة”. وفي سوريا، أبلغ التحالف إيران أن نظامها بالوكالة لن يتضرر، وسمحت الضربات الجوية ضد داعش لبشار الأسد بتركيز الموارد على تدمير التمرد السائد الذي كان يشكل التهديد الحقيقي لحكمه.
لقد قدمت إدارة أوباما والجهات الخارجية المتعاطفة معها الكثير من التحليلات لشرح كيفية خدمة هذه التطورات للمصالح الغربية، وبُذِل الكثير من الجهد لإخفاء علاقة إيران بتنظيم القاعدة، وهذا خطأ. فكما يعني فشل خطة العمل الشاملة المشتركة في تقييم عمل إيران النووي في الماضي بشكل صحيح أن الاتفاق معيب بطبيعته؛ لأنه بدون هذه المراقبة الأساسية يصبح الامتثال مستحيلاً، فإن الأمر نفسه ينطبق على محاولات التطبيع مع النظام الإيراني دون حساب واقعي لسلوكه في الماضي، وخاصة علاقته الطويلة بتنظيم القاعدة.
لقد سعت الثورة في إيران عام 1979، والتي جلبت آية الله العظمى روح الله الخميني إلى السلطة، إلى تجاوز الخطوط العرقية والطائفية في الترويج لجاذبيتها. ولا شك أن النخبة الثورية كانت تؤمن بمهمتها المتمثلة في تصدير تفسيرها لـ”الإسلام الحقيقي”، ولكن كانت هناك اعتبارات عملية أيضاً. فقد كان لدى النظام الديني الشيعي الفارسي الذي يحاول شق طريقه في عالم عربي ذي أغلبية سنية كل الحوافز لتقديم نفسه في إطار عالمي، وقد فعل ذلك. فقد قال الدستور الإيراني إن الثورة الإيرانية “حركة تهدف إلى الانتصار لكل المضطهدين”. ومن هذا المنطلق، ناضلت الثورة لإيرانية من أجل تثبيت استقرارها في نظام إقليمي يرفضها.
لقد حقق نظام الخميني نجاحاً كبيراً في تنشيط الإسلاميين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ومهما كانت الشكوك التي كانت تراود الإسلاميين السُنّة بشأن النظام الشيعي، فإن الثورة الإيرانية كانت في نظرهم دليلاً ملموساً على أن النظام المعادي للغرب، القائم على الشريعة الإسلامية، قادر على السيطرة على دولة كبرى. ففي مصر، احتضن الإسلاميون الخميني بقوة. وقد استلهم الثوار العنيفون في الجماعة الإسلامية، بقيادة “الشيخ الأعمى” عمر عبد الرحمن، ما حدث في إيران. وكان أيمن الظواهري، الزعيم السابق لتنظيم القاعدة، والذي كان في ذلك الوقت زعيماً لجماعة الجهاد الإسلامي المصرية، من المعجبين البارزين بالثورة الإيرانية. والواقع أن الظواهري نجح في إقامة روابط مباشرة مع الجمهورية الإسلامية، مستفيداً من مساعدتها له على محاولته قلب النظام في القاهرة. لقد دعمت جماعة الإخوان المسلمين أيضاً، في معقلها في مصر وخارجها، الثورة الإيرانية، باستثناء فرعها السوري بعد أن سحق نظام الأسد المتحالف مع إيران بوحشية تمرداً ضم عناصر من الإخوان المسلمين في حماة عام 1982.
نشأت القاعدة في عام 1988 من “مكتب الخدمات” الذي استخدمه عبد الله عزام وأسامة بن لادن لتزويد الجهاديين العرب الذين قدموا إلى أفغانستان لمحاربة الاحتلال السوفييتي بالموارد. اغتيل عزام في نوفمبر / تشرين الأول 1989، وتضمنت قائمة المشتبه بهم أجهزة الاستخبارات الغربية والحكومة الباكستانية والظواهري. عاد بن لادن إلى موطنه، المملكة العربية السعودية، في نوفمبر / تشرين الأول 1989 بعد انسحاب الجيش السوفييتي من أفغانستان، لكنه سرعان ما اصطدم بالسلطات. وبعد الرفض القاطع لعرض بن لادن بتشكيل قوة من الجهاديين للدفاع عن المملكة ضد صدام حسين بعد غزو الكويت، أصبحت معارضته أكثر تطرفاً، وتم تحديد إقامته في مدينة جدة الساحلية. في أبريل / نيسان 1991، تمكن بن لادن من مغادرة المملكة العربية السعودية إلى باكستان، ظاهرياً لحضور مؤتمر إسلامي. كان بن لادن يقيم في بيشاور على الحدود بين باكستان وأفغانستان، وقد سُحبت منه الجنسية السعودية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1991، عندما اكتشفت الرياض أن عملاء القاعدة يهربون الأسلحة إلى المملكة من اليمن. وفي ديسمبر/ كانون الأول 1991، وصل بن لادن إلى السودان، حيث رحب به المنظر الإسلامي حسن الترابي بحماس. وكان الانقلاب الأخير في السودان، بقيادة الضابط العسكري عمر البشير، الذي لم تكن لديه رؤية سياسية خاصة به، قد فتح الطريق أمام الترابي لإقامة نظام متوافق مع رؤية بن لادن.
كانت علاقات الخرطوم بطهران ودية بشكل عام، استناداً إلى وجهة نظر سياسية مماثلة، وإن كانت هناك بعض التعقيدات. فمن وجهة نظر إيران، كان السودان في وضع جيوسياسي جيد لموازنة المملكة العربية السعودية ومصر، ولكن العلاقات الوثيقة للنظام السوداني مع صدام وعدم الاستقرار في البلاد أثارت تساؤلات حول مصداقيته. وبالنسبة إلى نظام البشير-الترابي، ملأت إيران الفجوة التي خلفتها العلاقات المتوترة مع دول الخليج، وقدمت موارد كبيرة، مالية وعسكرية، للضغط على الحرب الأهلية في جنوب السودان، وإن كان نشاط إيران التبشيري نيابة عن نسختها من المذهب الشيعي أزعج بعض الأشخاص في دائرة الترابي.
وكانت علاقة النظام السوداني بتنظيم القاعدة أكثر وضوحاً. فقد كانت القاعدة “مختلطة بالحكومة السودانية” على حد تعبير أحد ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابقين: فقد وفرت الخرطوم للقاعدة الأرض لمعسكرات التدريب والخدمات الرسمية مثل طباعة جوازات السفر، ووفرت القاعدة للخرطوم المال والأسلحة، وحتى المقاتلين، ومعدات البناء، لمساعدة الدولة على مواصلة حربها والبدء في إعادة إعمار البلاد.
وفي هذه البيئة، بدأ الاتصال بين القاعدة والنظام الإيراني.
لم يقم فريق العمل الذي وضع تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر / أيلول بمراجعة شاملة لأرشيفات وكالة الأمن القومي الأمريكية. وكما أوضح فيليب شينون في كتابه الصادر عام 2008 بعنوان “اللجنة: التاريخ غير الخاضع للرقابة للتحقيق في الحادي عشر من سبتمبر”، فإن السبب الوحيد وراء الاطلاع على ملفات وكالة الأمن القومي هو أن إحدى الموظفات، بمبادرة منها، بحثت عن هذه الملفات ثم اشتكت من تجاهل هذا الكنز الهائل من الأدلة. وعلى مدى عطلة نهاية أسبوع واحدة، قامت اللجنة بالتنقيب في مئات الصفحات من وثائق وكالة الأمن القومي، وهي مراجعة غير شاملة. وعلى الرغم من ذلك، يقول شينون إن النتائج كانت مثيرة للقلق: فقد أصبح من الواضح بسرعة أن “العلاقات بين إيران وتنظيم القاعدة كانت أكثر مباشرة مما كان معروفاً من قبل، وأكثر حداثة”.
إن التقرير النهائي للجنة 11/9 يشير بشكل عابر إلى الصلات التي كانت تربط إيران بتنظيم القاعدة في السودان (ص 61) وبخالد شيخ محمد، مهندس “عملية الطائرات” في 11/9 (ص 145-149)، ثم يتضمن قسماً في الفصل السابع (ص 240-241) بعنوان “المساعدة من حزب الله وإيران لتنظيم القاعدة”. وكما لاحظ شينون في وقت لاحق، فإن هذا القسم، الذي يستند إلى وثائق وكالة الأمن القومي، جاء في “سياق محدود”، ومن الواضح أنه تم إدخاله في اللحظة الأخيرة. وللتعويض عن هذا، تختتم اللجنة بالقول إن “هذا الموضوع يتطلب مزيداً من التحقيق من جانب الحكومة الأمريكية”. وبطبيعة الحال، أغلقت اللجنة أبوابها بعد ذلك، ولم يبدُ أن أحداً من المسؤولين الرسميين كان مهتماً منذ ذلك الحين.
إن أقرب فرصة لإحياء هذه المسألة علناً كانت سلسلة من الدعاوى القضائية المترابطة التي رفعتها أسر ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ضد الحكومة الإيرانية في المحاكم الفيدرالية الأمريكية ما بين 2011 و2016. وقد شهدت القضايا المعروضة على المحكمة تقديم جبل من الأدلة، بما في ذلك ثلاثة منشقين عن أجهزة الاستخبارات الإيرانية، وأحكام نهائية حمّلت طهران المسؤولية عن هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
ولكن ما الذي توصلت إليه لجنة التحقيق في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول من خلال النظرة السريعة إلى الروابط بين إيران وتنظيم القاعدة؟
“في أواخر عام 1991 أو 1992″، كتبت اللجنة، في إشارة إلى الفترة التي أعقبت وصول بن لادن إلى السودان مباشرة، تم الاتصال من خلال الترابي وتم التوصل إلى “اتفاق غير رسمي” بين إيران وتنظيم القاعدة “للتعاون على تقديم الدعم ـ ولو كان مجرد تدريب ـ للأعمال التي يتم تنفيذها في المقام الأول ضد إسرائيل والولايات المتحدة. وبعد فترة وجيزة، سافر كبار عملاء القاعدة والمجندين إلى إيران لتلقي التدريب على المتفجرات”.
وبعد فترة وجيزة، تم التوصل إلى اتفاق شبه رسمي عندما التقى بن لادن شخصياً مع عماد مغنية، القائد العسكري لحزب الله، لتنسيق العمليات ضد الغرب. لم يكن مغنية مجرد عميل للحرس الثوري الإيراني؛ بل كان ضابطاً مفوضاً بالكامل. قبل الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، كان مغنية مسؤولاً عن قتل عدد من الأمريكيين أكبر من أي شخص آخر. ويضيف تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول: “في خريف عام 1993، ذهب وفد آخر من القاعدة إلى وادي البقاع الشمالي الذي يسيطر عليه حزب الله في لبنان، حيث قدم لهم عملاء إيرانيون تدريباً على المتفجرات، فضلاً عن الاستخبارات والأمن”.
قد لا تقتنع مجلة “نيو أميركا” بوجود أي “تعاون عملي” بين إيران وتنظيم القاعدة، ولكن هذا “الترتيب” الذي تم في البقاع في أوائل تسعينيات القرن العشرين كان وثيق الصلة إلى حد كبير. ولم تتعمق العلاقات إلا بعد ذلك، ولا يمكن حتى لغياب “الإشارات الودية” إلى الحكم الديني الإيراني في وثائق تنظيم القاعدة أن يمحو هذه الحقيقة.
في أوائل تسعينيات القرن العشرين، شنّت الدولة المصرية حملة صارمة على الحركات الإسلامية، ففر العديد من قادتها إلى الخارج. ومع اندلاع الحرب في البوسنة ما بين 1992 و1995، وجدت جماعة الجهاد الإسلامي المصرية والجماعة الإسلامية ملاذاً آمناً هناك، ورحبت الحكومة البوسنية، بقيادة علي عزت بيجوفيتش وحزبه “العمل الديمقراطي”، بالدعم من المجاهدين الأجانب المرتبطين بتنظيم القاعدة ومن إيران. وذهب الظواهري إلى البوسنة أثناء الحرب وأقام علاقة عمل مع مغنية، الذي التقى به عدة مرات. وعملت إيران جنباً إلى جنب مع الجهاديين المرتبطين بتنظيم القاعدة في البوسنة، وساعدت على تنظيمهم في شكل من الجيش الأيديولوجي الذي تصوره عزت بيجوفيتش، وفي الوقت نفسه، تسللت طهران وسيطرت على معظم البنية الأمنية البوسنية، وخاصة قوة الشرطة السرية الوحشية التابعة لحزب العمل الديمقراطي، والتي نفذت عمليات اغتيال سياسي للمعارضين المسلمين وجرائم حرب أخرى. حاولت الولايات المتحدة إيجاد مصالح مشتركة مع إيران في البوسنة؛ وانتهت هذه الجهود بمحاولة طهران اغتيال رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هناك.
في الثامن عشر من مايو/ أيار 1996، طرد النظام السوداني بن لادن وتنظيمه، ورتب بن لادن لرحلة جوية إلى أفغانستان. وتحركت الخرطوم تحت ضغط من الحكومات الغربية (كما نرى الآن، كان هذا الضغط مضللاً إلى حد ما). ووثقت الاستخبارات الأمريكية “استمرار الاتصالات بين المسؤولين الأمنيين الإيرانيين وكبار شخصيات القاعدة بعد عودة بن لادن إلى أفغانستان” كما أشارت لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
في الثالث عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، نفذ تنظيم القاعدة هجوماً داخل المملكة العربية السعودية، ففجر سيارة مفخخة خارج منشأة تدريب تديرها الولايات المتحدة للحرس الوطني السعودي في الرياض، وقُتِل خمسة أمريكيين وهنديان. وفي الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران 1996، هدمت شاحنة مفخخة أقساماً كبيرة من مجمع أبراج الخبر السكني للقوات الأمريكية على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، مما أسفر عن مقتل 19 شخصاً. وقد أثبتت الأدلة اللاحقة أن العملية كانت إيرانية، ونفذها عملاء أطلقوا على أنفسهم اسم حزب الله الحجاز أو حزب الله السعودي. ويشير ماثيو ليفيت، المسؤول السابق في مكافحة الإرهاب في وزارة الخزانة الأمريكية، في كتابه “البصمة العالمية لحزب الله اللبناني”، إلى أن العملية برمتها “خططت لها ومولتها ورعتها القيادة العليا” في إيران. وأدار الإيرانيون العملية من سفارتهم في دمشق. وكما يشير ليفيت، ففي دولة بوليسية مطلقة مثل دولة الأسد، من الصعب أن نصدق أن النظام السوري لم يكن على علم بما كان يحدث، وبغض النظر عن أي علم مسبق، فإن نظام الأسد كان متواطئاً بعد وقوع العملية من خلال السماح لمرتكبيها بالفرار عبر أراضيه.
وقد أعلن بن لادن مسؤوليته عن تفجير أبراج الخبر (وحادثة سقوط طائرة بلاك هوك في الصومال عام 1993) خلال مقابلة أجراها معه في نوفمبر/ تشرين الثاني 1996 في جبال تورا بورا عبد الباري عطوان، رئيس تحرير صحيفة القدس العربي التي تتخذ من لندن مقراً لها. وخلصت لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول إلى أنه في حين كانت الأدلة على مسؤولية إيران واضحة، وأن أولئك الذين نفذوا الهجوم كانوا “في الأساس، وربما حصرياً” من أصول إيرانية، “فإن هناك أيضاً دلائل تشير إلى أن تنظيم القاعدة لعب دوراً ما، لكنه ليس معروفاً حتى الآن”. وقد ألقت التحقيقات اللاحقة التي أجراها محللون مستقلون بظلال من الشك على تورط تنظيم القاعدة، ولكن السؤال يظل مفتوحاً.
كان الحدث المحوري في تطور تنظيم القاعدة كمنظمة، وبالتأكيد كعلامة تجارية، هو تفجيرات السابع من أغسطس / آب 1998 التي استهدفت السفارتين الأمريكيتين في شرق إفريقيا. ففي حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحاً، فجر انتحاري في شاحنة سترته الناسفة أمام السفارة الأمريكية في دار السلام بتنزانيا، مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً وإصابة ما يقرب من مائة آخرين. وبعد أقل من عشر دقائق، ضرب هجوم مماثل تقريباً السفارة الأمريكية في نيروبي بكينيا، مما أسفر عن مقتل 213 شخصاً، منهم 12 أمريكياً، وإصابة أكثر من أربعة آلاف شخص آخرين، أغلبهم من الأفارقة وكثير منهم مسلمون.
كانت الهجمات على السفارتين في طور الإعداد من الناحية المفاهيمية وحتى في الجوانب التشغيلية مثل الاستطلاع منذ يناير/ كانون الثاني 1994، على أبعد تقدير، بتوجيه من أول أمير عسكري لتنظيم القاعدة، علي أمين الرشيدي (أبو عبيدة البنشيري)، لكن الهجمات واجهت “سلسلة من التعقيدات”، كما يقول تقرير لجنة 11 سبتمبر/ أيلول. ويفسر انتقال القاعدة من السودان إلى أفغانستان في مايو/ أيار 1996، ووفاة الرشيدي في نفس الشهر، هذا جزئياً، ومع ذلك لا يزال هذان الأمران يثيران التساؤل.
وعلى الرغم من تباهي بن لادن، فإن تنظيم القاعدة لم ينجح في تنفيذ تفجير أبراج الخبر؛ بل على الأكثر لعب دوراً ضئيلاً في المخطط الإيراني. ومع تفجير السفارتين، كان لدى تنظيم القاعدة 28 شهراً بين التخطيط للهجوم والتعقيدات التي شهدها مايو/ أيار 1996. وكان تنظيم القاعدة يتمتع بالسيطرة المشتركة على الدولة السودانية ومركز عملياتي ضخم وممول جيداً بالقرب من أهدافه. فلماذا فشل في تنفيذ مؤامرته؟ وربما يكون السؤال الأكثر أهمية هو: لماذا نجح تنظيم القاعدة بعد 27 شهراً، وهو متمركز في أفغانستان النائية؟
في هذه الفترة، لا يوجد خلاف على أن “أعضاء القاعدة تلقوا المشورة والتدريب” من إيران، وعادة من خلال حزب الله، كما توثق لجنة 11 سبتمبر/ أيلول، ولا يوجد خلاف أيضاً على أن بن لادن “أظهر اهتماماً خاصاً بتعلم كيفية استخدام الشاحنات المفخخة” مثل تلك التي استخدمها عملاء حزب الله الإيراني ضد ثكنات مشاة البحرية الأمريكية ومقر المظلات الفرنسي في بيروت في أكتوبر/ تشرين الأول 1983، والتي أسفرت عن مقتل 241 جندياً أمريكياً و58 جندياً فرنسياً وستة مدنيين؛ بإجمالي 305 أشخاص.
“لقد كان الدعم من إيران وحزب الله حاسماً في تنفيذ القاعدة لتفجيرات السفارتين في عام 1998″، كما كتب جون بيتس، القاضي الفيدرالي الأمريكي الذي نظر في الدعوى القضائية التي رفعتها أسر ضحايا تفجيرات السفارتين في عام 1998 للمطالبة بالتعويضات بموجب قانون الحصانات السيادية الأجنبية ضد السودان وإيران، وتحديداً ضد وزارة الداخلية السودانية، والحرس الثوري ووزارة الاستخبارات والأمن في إيران. ويشير بيتس إلى تركيز بن لادن على تفجير ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في عام 1983 وحقيقة أن القاعدة “رغبت في تكرارها”. وكتب بيتس: “قبل تدريب أعضاء القاعدة في إيران ولبنان، لم تنفذ القاعدة أي تفجيرات ناجحة واسعة النطاق”، كما كتب: “لم تكن القاعدة تمتلك الخبرة الفنية المطلوبة لتنفيذ تفجيرات السفارتين”. وقد تغير هذا بعد أن “سعى بن لادن إلى الحصول على الخبرة الإيرانية لتعليم عملاء القاعدة كيفية تفجير المباني”، وتلقى مسؤولون في القاعدة، بما في ذلك محمد صلاح الدين زيدان، المعروف باسم سيف العدل، أحد كبار المسؤولين العسكريين في القاعدة حتى يومنا هذا، تدريباً في معسكرات حزب الله. وهناك، “في وقت قصير”، كما كتب بيتس، “اكتسبت القاعدة القدرات اللازمة لتنفيذ تفجيرات السفارتين في عام 1998”. وفي ضوء ذلك، خلص بيتس إلى أن إيران “قدمت المساعدة المادية والدعم” لتنظيم القاعدة لتنفيذ الهجمات على السفارتين”.
وعلى الرغم من أن بن لادن أصدر فتواه في فبراير/ شباط 1998، معلناً الحرب على الولايات المتحدة، ومؤكداً أن المسلمين ملزمون “بقتل الأمريكيين وحلفائهم ـ المدنيين والعسكريين ـ في أي بلد يمكن فيه القيام بذلك”، فإن هجمات السفارتين هي التي “أقنعت [خالد شيخ محمد] بأن بن لادن ملتزم حقاً بمهاجمة الولايات المتحدة”، كما جاء في تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. وعندما قدم محمد عاطف (أبو حفص المصري)، خليفة الرشيدي في منصب القائد العسكري للقاعدة، خالد شيخ محمد إلى بن لادن في منتصف عام 1996، في أول اجتماع لهما منذ زمن الجهاد ضد السوفييت، رفض خالد شيخ محمد مبايعة بن لادن ومضى في طريقه. وتشير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول إلى أن “بن لادن قرر في النهاية، بناء على ضغط من عاطف، إعطاء خالد شيخ محمد الضوء الأخضر لتنفيذ عملية الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول في وقت ما في أواخر عام 1998 أو أوائل عام 1999”.
كانت المحطة الأخيرة على الطريق إلى الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول هي الهجوم على المدمرة الأمريكية كول في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2000 في ميناء عدن في اليمن. فقد فجر اثنان من عناصر تنظيم القاعدة نفسيهما على جانب السفينة الحربية، فأحدثا ثقباً في جانب السفينة وقُتل 17 من أفراد طاقمها. ويؤكد تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول أن هذه كانت “عملية كاملة للقاعدة”. فقد “اختار بن لادن هدف الهجوم وموقعه، واختار الانتحاريين، ووفر الأموال اللازمة لشراء المتفجرات والمعدات”، وكان القائد الميداني لتنظيم القاعدة في اليمن هو عبد الرحيم الناشري، الذي تصرف بناء على تعليمات بن لادن.
في عام 2015، في قضية أخرى رفعت بموجب قانون الأمن السيبراني ضد السودان وإيران، أشار القاضي رودولف كونتريراس إلى ما تم إثباته في القضايا السابقة: أن إيران مكنت القاعدة من تنفيذ هذا النوع من الهجمات من خلال نقل الخبرة، ولفت كونتريراس الانتباه أيضاً إلى الدعم اللوجستي، من خلال اتخاذ إيران “كنقطة عبور لنقل الأموال ومقاتلي القاعدة”. وفيما يتعلق بهجوم عام 2000، انتقل الناشري “عبر إيران … قبل وبعد التفجير” وفقاً لوثائق كونتريراس، و”في السنوات التي سبقت تفجير كول، شاركت إيران بشكل مباشر في إنشاء شبكة القاعدة في اليمن ودعمت التدريب واللوجستيات للقاعدة في منطقة الخليج”. ووفقاً للأدلة المقدمة إلى كونتريراس، كتب الظواهري “شكراً للإيرانيين على مساعدتهم” في إنشاء شبكات القاعدة في اليمن.
في هذه المرحلة، لم يعد هناك شك في ماهية تنظيم القاعدة: شبكة عالمية فتاكة ملتزمة بالحرب ضد الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. لذا، فإن ردّ فعل طهران على هذه الحقيقة مثير للاهتمام. يقول تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول: “لقد بذلت إيران جهوداً متضافرة لتعزيز العلاقات مع تنظيم القاعدة بعد الهجوم على المدمرة يو إس إس كول في أكتوبر/ تشرين الأول 2000”. وتشير اللجنة إلى بعض المقاومة من جانب بن لادن، ولو لتجنب الثمن السياسي المتمثل في اعتباره قريباً للغاية من الإيرانيين [الشيعة]، ولكن التنسيق المباشر وغير المباشر لم يتوقف.
ولعل الأمر الأكثر أهمية، كما كان الحال مع مؤامرة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول التي بدأت تتبلور، هو أن إيران سهلت سفر الجهاديين من تنظيم القاعدة إلى أفغانستان، ومنها من خلال تجنب وضع “أختام على جوازات سفرهم” وفقاً لتقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. “وكانت مثل هذه الترتيبات مفيدة بشكل خاص لأعضاء تنظيم القاعدة السعوديين”. فقد سافر ما يقرب من ثلاثة أرباع “الخاطفين” الأربعة عشر ـ أي نصف طياري الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ـ “إلى إيران أو منها بين أكتوبر/ تشرين الأول 2000 وفبراير/ شباط 2001”.
وهناك أيضاً أدلة قوية على أن إيران، من خلال حزب الله، “كانت تتابع عن كثب سفر بعض هؤلاء الخاطفين المستقبليين”.
يوثق تقرير لجنة 11/9 سلسلة غريبة من الأحداث التي وقعت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000:
ـ سالم الحازمي، أحد الذين هاجموا طائرة الخطوط الجوية الأمريكية الرحلة رقم 77 التي استهدفت مبنى البنتاغون، سافر من السعودية إلى بيروت لأسباب غير معروفة.
ـ أحمد الغامدي، أحد القتلة على متن طائرة يونايتد إيرلاينز الرحلة 175 التي اصطدمت بالبرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي، كان مسافراً من إيران إلى بيروت، وكان “أحد كبار عناصر حزب الله” على متن نفس الرحلة.
ـ في منتصف الشهر، سافر وائل الشهري وشقيقه وليد، اللذان نفذا “خطف” الطائرة الأولى التي ضربت البرجين، وهي الرحلة رقم 11 لشركة الخطوط الجوية الأمريكية، وأحمد النعمي، الذي كان من بين ركاب الرحلة رقم 93 لشركة الخطوط الجوية المتحدة عندما سقطت في شانكسفيل بولاية بنسلفانيا، إلى إيران. وتقول لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول: “كان واحداً من مساعدي أحد كبار عملاء حزب الله على متن الرحلة نفسها”.
ـ سافر سطام السقامي (الرحلة 11) وماجد موقد (الرحلة 77) من البحرين إلى إيران أيضاً في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000. ومن المحتمل أن خالد المحضار (الرحلة 77) استقل طائرة من سوريا إلى إيران في فبراير/ شباط 2001، وسافر داخل إيران، ثم عبر إلى أفغانستان.
وكما تشير لجنة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، فإن هذا لا يعني أن “إيران أو حزب الله كانا على علم بالتخطيط لما أصبح فيما بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول”. فمن غير المرجح أن يكون جميع المشاركين على علم بالضبط بما كانت عليه الخطة في ذلك الوقت. ومع ذلك، فإن هذا يتطلب إجابات. فوفقاً للجنة، “بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، رغبت إيران وحزب الله في إخفاء أي دليل سابق على التعاون مع الإرهابيين السنة المرتبطين بتنظيم القاعدة”. وكان بوسع إيران أن تعترف بما كانت تعرفه؛ ولكنها تصرفت بدلاً من ذلك وكأن لديها ما تخفيه.
لقد جلبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول على تنظيم القاعدة الانتقام الذي كان المنشقون داخل اللجنة التنفيذية يخشونه. ولم يكتف الأمريكيون ببضعة صواريخ موجهة بشكل خاطئ، بل نجحوا هذه المرة في إسقاط نظام طالبان الذي كان يؤوي تنظيم القاعدة، وطرد التنظيم من مخابئه ومعسكرات تدريبه في أفغانستان.
في كتابهما الجديد “المنفى: هروب أسامة بن لادن”، يقدم أدريان ليفي وكاثرين سكوت كلارك أدلة على أنه في تلك اللحظة من الخطر الوجودي في أواخر عام 2001، تدخلت دولتان لإنقاذ تنظيم القاعدة: باكستان وإيران.
إن الأحداث التي يتتبعها ليفي وسكوت كلارك تجعل المرء يتساءل كيف يمكن الاستمرار في اعتبار باكستان دولة حليفة. يستعرض المؤلفان المساعدة التي قدمتها جماعتا جيش محمد ولشكر طيبة، وهما جماعتان جهاديتان تعملان بالوكالة عن الجناح “س” في جهاز الاستخبارات الباكستاني، لعملاء القاعدة الهاربين، ومساعدتهم على الدخول إلى باكستان وإيوائهم. وقد تم تعيين حامد جول، رئيس جهاز الاستخبارات الباكستاني السابق، للإشراف على الكثير من هذا التنسيق. وكان سلوك الضباط العاملين، وخاصة رئيس جهاز الاستخبارات الباكستاني آنذاك، الفريق محمود أحمد، الأكثر إثارة للصدمة على الإطلاق. فقد وثق ليفي وسكوت كلارك أن أحمد قال لزعيم طالبان الملا محمد عمر: “لا تسلموا الشيخ أسامة أبداً”، قبل أن يفتح قناة لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع طالبان، ويقدم التدريب والمعلومات لاستخدامها ضد الأمريكيين، ويرسل إمدادات كافية لقطع الطرق. عندما حوصر بن لادن في تورا بورا، لم تسقط المطرقة الباكستانية على السندان الأمريكي؛ لأن وكلاء إسلام آباد فتحوا المشاكل على جبهة أخرى، وكادوا أن يدفعوا شبه القارة الهندية إلى حرب نووية، عندما حاولوا قصف البرلمان الهندي.
ولكن الدعم الإيراني كان حاسماً أيضاً في تمكين القاعدة من تجاوز هذه العاصفة. ويشير ليفي وسكوت كلارك إلى أن بن لادن نجح من خلال قلب الدين حكمتيار، أمير المجاهدين القديم، في إقامة خط اتصال مع قاسم سليماني، القائد السابق لقوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، وهي الوحدة المكلفة بتصدير الثورة الإسلامية الإيرانية عن طريق الإرهاب والتخريب. ويتابع المؤلفان أن سليماني وافق شخصياً في يناير/ كانون الثاني 2002 على قرار إيواء القاعدة في إيران، وفي غضون شهرين قبلَ عدد كبير من الجهاديين العرض، بما في ذلك عائلة بن لادن وجميع المسؤولين التنفيذيين والعسكريين والدينيين في القاعدة تقريباً.
في أفغانستان، عرضت إيران على طالبان صواريخ أرض-جو ومعدات أخرى ومعلومات استخباراتية لاستخدامها ضد قوات حلف شمال الأطلسي في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول 2001، قبل بدء التدخل العسكري، ومن المرجح أنها نقلت الأسلحة قبل ذلك. وكادت طالبان وإيران أن تخوضا حرباً في أواخر عام 1998 بعد أن قتلت طالبان دبلوماسيين إيرانيين في مزار شريف؛ وكان حل تلك الأزمة بمثابة بداية لعملية المصالحة بين النظامين التي كانت متقدمة للغاية بحلول وقت تدخل حلف شمال الأطلسي في أفغانستان. وكان خير الله خير خواه، حاكم ولاية هيرات على الحدود الإيرانية ما بين 1999 وسقوط طالبان، قد عُين في هذا المنصب بهدف محدد هو “تحسين العلاقات بين إيران وحكومة طالبان”. والتقى خير خواه والظواهري وحكمتيار بمسؤولين إيرانيين في يناير/ كانون الثاني 2000 لمناقشة العمليات المشتركة لمواجهة الولايات المتحدة و”تعزيز علاقات طالبان بالحكومة الإيرانية”. لقد احتفظ حكمتيار، أحد زعماء التمرد الرئيسيين في أفغانستان، بالدعم الإيراني طوال وجود حلف شمال الأطلسي. وبحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت الأسلحة الإيرانية سمة صارخة بشكل متزايد لقدرات طالبان، وبحلول عام 2014، لم تستمر طالبان في تلقي الأسلحة الإيرانية فحسب، بل تم استضافتها علناً في معسكرات تدريب داخل إيران وأصبحت تحظى بدعم سياسي مفتوح.
لقد أدركت الحكومة الأمريكية أن أغلب قادة القاعدة كانوا في إيران في أواخر عام 2002. وعندما بدأ الأمر يجتذب الانتباه بعد بضع سنوات، قال المسؤولون الأمريكيون إنهم كانوا “تحت الإقامة الجبرية الفعلية” وغير قادرين على فعل الكثير. واستناداً إلى أفضل المصادر المتاحة؛ أي الرجال الذين كانوا هناك، يخلص ليفي وسكوت كلارك إلى أن هذا صحيح جزئياً. ويصف المؤلفان ظروف عيش أشبه بسجن مفتوح، حيث كان عملاء القاعدة وأسرهم محصورين في قواعد فيلق القدس، وفي نقاط مختلفة، مما خلق توترات كبيرة بما يكفي لاندلاع أعمال شغب. كما ضغطت القاعدة على إيران من خلال أخذ الرهائن. وقد ضمنت إحدى هذه الصفقات إطلاق سراح نجل بن لادن، حمزة، الذي برز لاحقاً كمتحدث باسم التنظيم. ومع ذلك، لم ترغب القاعدة قط في تحرير نفسها بالكامل من إيران، وكانت الاحتجاجات من جانب أولئك الموجودين في إيران تتلخص في المطالبة بظروف إقامة أفضل؛ وكان الخلاف حول شروط الصفقة مقبولاً من قِبَل الجميع: وكان ثمن الضيافة الإيرانية هو بقاء الجهاديين من القاعدة، حيث يمكن للحرس الثوري العثور عليهم.
ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أنه على الرغم من التوترات التي تسود العلاقات بين طهران وتنظيم القاعدة، كما تشير دراسة “نيو أمريكا”، فإن العلاقات بينهما كانت وما زالت تتسم بالاتساق: فمهما توترت العلاقات بين الطرفين، فإن إيران لم تفكر قط في تسليم زعماء القاعدة إلى الغرب، أو حتى إلى الحكومة الأفغانية، على الرغم من الطلبات المتكررة من الجانبين. ومن بين الإغفالات الواضحة التي وردت في دراسة “نيو أميركا”، حيث قيل إن انعدام الثقة بين إيران وتنظيم القاعدة “يشير إلى افتقار العلاقة التعاونية المتطورة”، أن إيران تسهل العمليات الإرهابية الخارجية التي ينفذها تنظيم القاعدة.
لقد تعامل سيف العدل “بشكل مباشر مع كبار ضباط قوة القدس على أساس منتظم، وكان يعرف بعضهم منذ عام 1995″، كما كتب ليفي وسكوت كلارك، وفي إحدى المرات التي زار فيها إيران بعد عام 2001، كان سيف العدل هو الذي تواصل بشكل مباشر ومتكرر مع سليماني. وكان سيف العدل قد أصبح غاضباً للغاية من مؤامرات خالد شيخ محمد الفاشلة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، حتى أنه دعاه إلى الاستقالة في يونيو/ حزيران 2002. وكانت رؤية سيف العدل لما ينبغي لتنظيم القاعدة أن يفعله مختلفة عن الهجمات السريعة منخفضة المستوى التي كان خالد شيخ محمد يخطط لها، وكان سليماني قد أوضح لسيف العدل “في أكثر من مناسبة أن إيران مستعدة للمساعدة إذا كانت هي أيضاً ستستفيد من العمليات”. وكان هذا هو الحال مع تفجيرات مايو/ أيار 2003 في العاصمة السعودية، والتي نظمها وأدارها سيف العدل من “أسره” في إيران. وقبل ذلك، كان “أسير” إيراني آخر، وهو رئيس الشؤون الخارجية في تنظيم القاعدة، عبد الله رجب عبد الرحمن (أبو الخير المصري)، يقوم “بتخزين المواد الانشطارية لهجوم جديد على هدف أمريكي لم يتم تحديده بعد” بحسب تقرير ليفي وسكوت كلارك.
وعلى هذا، يبدو أن التعريف الإيراني لـ “الاعتقال” يشمل مساعدة تنظيم القاعدة على تنفيذ هجمات إرهابية في الخارج والسماح له بالعمل على “قنبلة قذرة”. وهذا بالتأكيد ليس التعريف التقليدي.
كان سيف العدل ونوابه العسكريون في إيران مسموحاً لهم بدعم أحمد الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي) وحركته الجهادية في العراق، المعروفة الآن باسم داعش. وفي إيران، بينما كان سيف العدل في قاعدة للحرس الثوري، توصل إلى اتفاق مع الخلايلة يربط القاعدة وحركة داعش ببرنامج مشترك لطرد الأمريكيين من العراق وإقامة “الخلافة”. وقد كتب محمد خليل الحكايمة (أبو بكر ناجي) جزءاً رئيساً من الإطار التكتيكي لتحقيق هذه الغاية، وهو دليل “إدارة التوحش”، في ذلك الوقت تقريباً، وكان الحكايمة أيضاً في إيران. ساعد الإيرانيون الزرقاوي بشكل مباشر: فقد تم اعتقاله لفترة وجيزة في إيران قبل أن يرسله النظام إلى العراق ومعه المال والأسلحة ومعدات الاتصالات. في كتابهما عن تطور تنظيم الدولة الإسلامية وأساليب عمله: “تنظيم الدولة الإسلامية: داخل جيش الإرهاب”، يلاحظ مايكل فايس وحسن حسن أنه من المستحيل استبعاد السياسات الحكومية لإيران وسوريا من القصة. فقد كشفت سلسلة من القضايا التي ركزت على دور الأسد في التحريض على حملة الإرهاب والفظائع التي شنها تنظيم الدولة الإسلامية عن الكثير من المعلومات حول دور إيران في نفس الأنشطة. وكان العراق مجرد منطقة واحدة من العالم العربي التي دعمها عملاء القاعدة المتمركزون في إيران.
لقد أدرك بن لادن مدى أهمية إيران لعملياته، ويمكن ملاحظة ذلك في الوثائق التي عُثر عيها في مخبئه في أبوت آباد، باكستان. ففي أواخر عام 2007، كتب بن لادن رسالة إلى زعيم التنظيم السابق للدولة الإسلامية، والذي كان في ذلك الوقت قد قطع ظاهرياً ارتباطه بتنظيم القاعدة، ووبخه على التحريض ضد إيران في خطاب له. كتب بن لادن: “كنا نتوقع منك التشاور معنا بشأن هذه الأمور المهمة، فكما تعلم، إيران هي الشريان الرئيس لنا للأموال والأفراد والاتصالات، وكذلك مسألة الرهائن”. “أنا ضد التهديد [تجاه إيران]”. وفي وقت لاحق من عام 2007، أظهرت رسالة أخرى، من المرجح أن يكون بن لادن قد كتبها أيضاً، أن القاعدة حاولت إخفاء روابطها بإيران بعد أن سربت الحكومة السعودية بعض المعلومات الاستخباراتية عن هذه العلاقة إلى الصحافة.
في عام 2011، اعترفت وزارة الخزانة الأمريكية علناً بـ”الصفقة السرية” التي استضافت بموجبها إيران زعماء تنظيم القاعدة، وهي جزء من “دعم إيران غير المسبوق للإرهاب”، كما عبر عن ذلك وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية ديفيد كوهين. وأوضحت وزارة الخزانة أن “هذه الشبكة تعمل كخط أنابيب أساسي تنقل من خلاله القاعدة الأموال والوسطاء والعملاء من مختلف أنحاء الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا”. وفي أعقاب ذلك مباشرة، اتخذت طهران بعض الخطوات لجعل علاقاتها بتنظيم القاعدة أقل وضوحاً، لكن عقوبات وزارة الخزانة في عام 2014 أكدت مدى قصر أمد هذه الخطوة. فقد وثقت هذه العقوبات دور إيران في نقل الأسلحة والأموال والرجال إلى تنظيم القاعدة في سوريا، وهي الدولة التي يُفترض أن إيران تقاتل فيها مثل هؤلاء الجهاديين. في عام 2016، أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن “إيران سمحت منذ عام 2009 على الأقل بإنشاء خط أنابيب أساسي لتسهيل عمليات تنظيم القاعدة عبر أراضيها، حيث يغذي قادة تنظيم القاعدة في باكستان فروعهم وعملائهم في العالم العربي وخارجه”. وكشفت تسريبات حديثة من داخل العالم الجهادي أن سيف العدل لا يزال في إيران، حيث يتمتع بحرية توزيع التعليمات والموارد.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، أصدرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ما يقرب من نصف مليون وثيقة استولى عليها عملاء من القوات الخاصة الأمريكية من مجمع بن لادن في أبوت آباد خلال الغارة التي شنتها هذه القوات لقتل زعيم تنظيم القاعدة في عام 2011. وأشارت بعض هذه الوثائق إلى العلاقة المتوترة، ولكن التعاونية بشكل عام، بين إيران وتنظيم القاعدة. وكتب أحد كبار عملاء القاعدة، الذي لم يُكشف عن هويته، عن العلاقة المبكرة مع إيران، حيث عرضت الجمهورية الإسلامية على تنظيم القاعدة “المال والأسلحة والتدريب في معسكرات حزب الله في لبنان في مقابل ضرب المصالح الأمريكية في المملكة العربية السعودية والخليج”.
الكاتب: كايل أورتن