تقارير ودراسات

هيئة تحرير الشام ومحاولة الترويج لشكل “معتدل” من الجهادية

تقترح هيئة تحرير الشام شكلاً من أشكال الجهادية “المعتدلة” وتواصل عملية إعادة صياغة هويتها بحثاً عن سمعة دولية أفضل وحلفاء جدد.

أفادت تقارير أن هيئة تحرير الشام، المنظمة الجهادية التي تسيطر على شمال غرب سوريا، سلمت للسلطات التركية 50 مسلحاً أجنبياً كانوا قد أسروا واحتُجزوا في السابق خلال حملاتها ضد الجماعات الجهادية المنافسة الموجودة في إدلب. وقد سمحت هذه الاستراتيجية القائمة على الأسر والاحتجاز على المدى الطويل بالفعل للتنظيم باستخدام السجناء كـ “سلع مساومة” للتفاوض مع نظرائه الحكوميين، مثل أنقرة وأجهزة المخابرات في بلدان المنشأ للمقاتلين. وتؤكد خيارات الجماعة الأخيرة رغبتها في تغيير صورتها الخارجية وبناء قنوات تعاون رسمية من أجل رفع اسمها من قوائم الإرهاب الدولية.

من هي هيئة تحرير الشام؟

هيئة تحرير الشام هي منظمة سلفية جهادية لها أصولها في الصراع الأهلي السوري، ولا تزال تمثل قوة معارضة فيه. وسابقتها هي جبهة النصرة، وهي منظمة معروفة تشكلت داخل المعارضة السورية في عام 2011 كفرع لتنظيم القاعدة. وقد أثبتت جبهة النصرة أنها لاعب متشدد في الصراع السوري، وقادرة على الاستفادة من الضرائب ومصادرة الأصول في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، فضلاً عن جذب العديد من الداعمين الماليين في الخليج.

وتحت قيادة أبو محمد الجولاني، أصبحت الهيئة “مستقلة” بحكم الأمر الواقع عن القاعدة. تحولت أولاً إلى جبهة فتح الشام، ثم لاحقاً، بفضل الاتحاد مع مجموعات أخرى مثل حركة نور الدين الزنكي ولواء الحق، إلى هيئة تحرير الشام، وبالتالي استكملت انفصالها عن القاعدة وأضفت الطابع الرسمي على كسر بيعتها (قسم الولاء) لها. تعرّف الجماعة نفسها اليوم بأنها “كيان مستقل لا يتبع أي تنظيم أو حزب، لا القاعدة ولا أحد غيرها”.

بعد المرحلة الأولية من الاستقرار في شمال غرب سوريا والقتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية المهزوم إقليمياً، تحافظ المنظمة اليوم على تحصين والدفاع عن الجزء المحتل من سوريا، وتركز بشكل أوسع على إقامة دولة إسلامية في سوريا، قادرة على الإطاحة بنظام الأسد الإجرامي وطرد الميليشيات الإيرانية التي تدعمه.

وفي حين أن وجود المنظمة يتركز الآن بشكل رئيس في محافظة إدلب، فإنها لعبت في الماضي دوراً كبيراً في محافظات حلب وحماة ودرعا ودمشق. وفي نهاية المطاف، أدت ممارساتها العنيفة واستراتيجيتها المناهضة للحكومة وإيران وتنظيم الدولة الإسلامية إلى وصفها بالمنظمة الإرهابية.

وعلى الرغم من ذلك، نجحت هيئة تحرير الشام في الهيمنة على الصراعات الداخلية بين التحالفات المتمردة المختلفة والجماعات الجهادية المتواجدة في إدلب. واليوم، لا تسيطر المجموعة بشكل كامل على أراضي مدينة إدلب، لكنها تسيطر على مداخلها الرئيسة وتشكل المجموعة ذات النفوذ الأكبر، والتي تملي قواعد اللعبة في منطقة شمال غرب سوريا.

التعاون مع السلطات التركية ومحاولة إعادة صياغة الهوية

إن تسليم هيئة تحرير الشام أعضاء الجماعات الجهادية المنافسة إلى السلطات التركية يمثل في المقام الأول محاولة من جانب المنظمة لـ “تنظيف” سمعتها وتقديم صورة أكثر مصداقية عن نفسها. في الواقع، تعمل الهيئة منذ فترة طويلة على إعادة صياغة هويتها بهدف تقديم تصور إيجابي عنها والنأي عن الصورة العنيفة المعروفة عنها حتى الآن.

قبل عام تقريباً، عندما تم تصوير زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني، كان يرتدي ملابس غربية ويضع سلاحه جانباً في محاولة للظهور بمظهر المحاور الموثوق العازم حقاً على التغيير، إلا أن الاستراتيجية المتبعة للتخلي عن دور “الإرهابي” شملت أيضاً جمع وبيع معلومات سرية إلى جهات فاعلة حكومية بشأن الجهاديين الآخرين المستعدين لتنفيذ عمليات في سوريا، أو في بلدان أخرى في المنطقة، بالإضافة إلى التواصل مع الحكومة التركية والجهات الفاعلة المحتملة التي تحتاج إلى حليف داخل الصراع السوري.

ويقال إن السجناء الأجانب الخمسين المذكورين هم من الرعايا الفرنسيين والمغاربة والسعوديين والأتراك، ويبدو أنهم كانوا تابعين لتنظيم الدولة الإسلامية وحراس الدين، وهي منظمة جهادية أخرى تابعة بشكل رسمي لتنظيم القاعدة المعارض للحكومة السورية. ومن المؤكد تقريباً أن هؤلاء الأفراد الذين تم تسليمهم إلى السلطات التركية قد استُخدموا للحصول من الجهات الفاعلة الدولية، سواء الحكومية أو غير الحكومية، على مقابل، وهو رفع هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهابيين الدوليين كخطوة أولى نحو دور جديد للمنظمة في الصراع السوري وفي إعادة الإعمار التي ستلي ذلك.

وكما قال عمر أبو حفص، وهو قيادي جهادي سابق متمركز في إدلب: “لقد تعاونت هيئة تحرير الشام دائماً مع تركيا في جميع المجالات، وسلمت العديد من العملاء إلى سلطاتها. [إن المنظمة] لها أهدافها السياسية، وهي محاولة إزالة اسمها من قوائم الإرهاب، ويمكن لتركيا أن تساعدها على تحقيق هذا الهدف من خلال علاقاتها مع الولايات المتحدة. ولهذا السبب تريد هيئة تحرير الشام تعزيز علاقاتها معها”.

لقد تقلبت العلاقات بين تركيا وهيئة تحرير الشام مع مرور الوقت، وذلك تبعاً لتطورات الصراع السوري والمواقف التي اتخذتها الهيئة تجاهه، بالإضافة إلى التحالفات التركية. وبما أن هيئة تحرير الشام تسعى إلى إحداث تغيير جذري في أسلوب عملها، وتراقب بقلق المعارك التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فقد سعت تركيا إلى الحصول على تعاونها.

وقد مهد التنسيق الأولي للسماح للدوريات التركية بدخول الأراضي السورية وحماية نقاط المراقبة نيابة عن أنقرة الطريق أمام الهيئة للبدء في التعاون مع لاعب دولي مهم على قدم المساواة تقريباً. إن التنسيق اللوجستي والعسكري مفيد لكلا الطرفين، في الواقع، إذا كانت هيئة تحرير الشام بحاجة إلى حليف موثوق به يمكنه أن يقدم لها الغطاء السياسي ويساعدها على التخلص من سمعتها كمنظمة إرهابية، فإن تركيا في المقابل بحاجة إلى التحالف مع جماعة مسلحة قوية وفاعلة في الصراع السوري، وليست قريبة حالياً من أي قوة أخرى، والتي يمكن الحصول على دعمها، وخاصة على المستوى الأمني، أو استغلالها للضغط على سوريا وبشكل غير مباشر على روسيا.

علاوة على ذلك، فرضت هيئة تحرير الشام في السنوات الأخيرة سيطرة مشددة على الحدود السورية التركية المتاخمة للمنطقة المحتلة، مما سهل التصدي لتهريب المخدرات عبر تلك الحدود، والسيطرة على الاتجار بالبشر، وحماية تركيا من دخول الجهاديين المنتمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ويقال إن تركيا أصرت في الماضي على إشراك هيئة تحرير الشام في عملية أستانا، وهي دلالة على قدر لا يستهان به من الثقة والاستعداد للمضي بعيداً لتحقيق المصالح المشتركة.

وبالإضافة إلى الحكومة في أنقرة، أفادت تقارير مؤخراً أن هيئة تحرير الشام وصلت أيضاً إلى الجيش السوري الحر، الذي يتألف من أكبر جماعات المعارضة المسلحة التي تقاتل حكومة الأسد. وتشير التقارير إلى أن تنظيم الجولاني يحاول التقرب من مختلف فصائل الجيش – المدعومة من تركيا أيضاً – من أجل التنسيق معها في القضايا الأمنية والعسكرية. ومن شأن هذا التنسيق أن يشكل الأساس لإدارة مدنية وعسكرية واحدة قادرة على حكم شمال غرب سوريا. وأخيراً، يتردد أن المجموعة تنوي الاندماج بشكل كامل مع فصائل الجيش السوري الحر من أجل زيادة فرص عدم سحقها من قبل الحكومة السورية والاعتراف بها دولياً كجزء من المعارضة التي لا توصف بالإرهابية.

الآفاق المستقبلية

على الرغم من الشائعات الداخلية المتضاربة، فليس سرًّا أن هيئة تحرير الشام تسعى إلى بناء سمعة جديدة. ولكن الماضي العنيف وانعدام المصداقية فيما يتصل بإمكانية التراجع عن المسار الجهادي يصعّبان عليها الأمر، في الوقت نفسه. وفي حين أن بعض مراكز الأبحاث والمنظمات [غير الحكومية] البارزة قد دعت بالفعل إلى رفع الهيئة من قوائم الإرهاب، بل وأثارت إمكانية تحويل المجموعة إلى شريك رسمي في مكافحة الإرهاب، فإنه لا توجد دلائل على أن محاولات التعاون هذه ستؤثر بشكل كبير على صورتها، أو أن أي دولة أخرى غير تركيا قررت وضع ثقتها رسمياً في المنظمة.

تدرك هيئة تحرير الشام أن المعركة ضد الإرهاب قد تكثفت وأن أي تحول لا بد أن يمر بالضرورة عبر قلب التحالفات وتغيير صورتها. ولزيادة فرص عدم السقوط على يد نظام الأسد، وربما لعب دور سياسي في سوريا في المستقبل، فإن بناء الجسور مع الدول والمنظمات الإقليمية والدولية أمر ضروري، وكذلك التعاون مع الجيران ذوي المصالح المشتركة.

وستكون العلاقة مع تركيا أساسية في تحديد أي تقارب محتمل مع الجهات الفاعلة الأخرى، وكذلك من أجل رفع اسم الهيئة من قوائم الإرهاب الدولية، وخاصة الأمريكية. وفيما يتعلق بواشنطن، فإن الاستراتيجية الأمريكية الأوسع نطاقاً في الشرق الأوسط سوف تكون حاسمة بشكل خاص؛ فمع ملاحظة الانسحاب الأمريكي الذي حدث في المنطقة ورغبة الولايات المتحدة في التركيز بشكل أكبر على الصين وروسيا، فإن التهديد الجهادي قد ينتقل إلى الخلفية ويفقد أهميته.

وعلى الرغم من محاولاتها تقديم شكل جديد من الجهادية “المعتدلة”، تظل هيئة تحرير الشام تنظيماً يروج للتطرف العنيف، فضلاً عن أنها تستضيف جماعات جهادية عنيفة مثل جماعة أنصار الإسلام، وكتيبة الإمام البخاري، وكتيبة التوحيد والجهاد. ومن غير المرجح أن تتمكن المجموعة، خارج نطاق التعاون المرتبط بالصراع السوري، من الترويج لهوية جديدة [معتدلة] على نحو فعال بما يكفي لإقناع القوى ـ وخاصة الغربية ـ بالتعامل معها.

إن المعضلة التي تثيرها هيئة تحرير الشام اليوم، كما هو الحال في حالات أخرى مماثلة، تتطلب من الغرب اتخاذ موقف حازم بشأن كيفية التعامل مع المجموعات ذات النهج المشابه. فهذه المجموعات، التي تسعى إلى تحقيق غرض سياسي وأيديولوجي أوسع نطاقاً، قد تصبح المحاور الرسمي لحكومات أو مؤسسات قانونية في المستقبل، فضلاً عن أنها قد تمثل ـ كما تفعل حركة طالبان اليوم في أفغانستان ـ الطرف الذي يجب الجلوس معه على طاولة المفاوضات للوصول إلى اتفاقيات وتسويات بالغة الأهمية.

 

الكاتب: مورييل دي ديو

 


* نشر هذا المقال في 16 مايو / أيار 2022، قبل إطاحة هيئة تحرير الشام بنظام بشار الأسد والاستيلاء على السلطة [بدعم تركي] في ديسمبر / كانون الأول 2024.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى