تقارير ودراسات

محور المقاومة يتقلص باستمرار

لقد أمضى النظام الإيراني عقوداً من الزمن في بناء محور المقاومة، وهو تحالف من الميليشيات المناهضة للغرب وسع نفوذ طهران إلى عمق العالم العربي. ولكن ما يستغرق سنوات من البناء قد ينهار بين عشية وضحاها. والعراق هو أحدث دولة يحاول العديد من قادتها الخروج من فلك إيران.

في العام الماضي، انزلق محور المقاومة بسرعة من ذروة قوته إلى الانحدار النهائي. فقد ضربت إسرائيل عضوين رئيسيين، حماس وحزب الله، وسقط النظام السوري بقيادة بشار الأسد في أيدي معارضيه. وفي لبنان، انتخب البرلمان رئيساً ورئيس وزراء جديدين لا تربطهما علاقات ودية بالمحور. وحتى وقت قريب، كانت طهران تحب أن تتفاخر بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية: دمشق وبيروت وصنعاء وبغداد. وقد انزلقت العاصمتان الأولى والثانية، ولا تزال العاصمة الثالثة تحت سيطرة الحوثيين، الذين يظلون موالين لطهران. ولكن ماذا عن العاصمة الرابعة؟

إن النفوذ الإيراني في بغداد يمر عبر الميليشيات والأحزاب السياسية الشيعية في البلاد. ومن الصعب أن يتمكن رئيس الوزراء العراقي من الحكم دون دعم الجماعات الشيعية. ومع ذلك، فإن درجة سيطرة طهران على بغداد تتغير باستمرار. فالأحزاب المؤيدة لإيران لا تستطيع تشكيل حكومة بمفردها؛ بل يتعين عليها تشكيل تحالفات مع أحزاب أخرى، بما في ذلك تلك التي يهيمن عليها الأكراد والسُنّة، الذين لا تربطهم أي صلة أيديولوجية تذكر بمحور المقاومة. وحتى بين الشيعة في العراق، فإن الموقف المؤيد لطهران محل نزاع شديد، وخاصة الآن بعد أن تحول ميزان القوى في المنطقة بعيداً عن إيران.

في عام 2021، هُزمت الأحزاب المؤيدة لطهران بشكل قاطع في الانتخابات البرلمانية العراقية. بدا مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي الكاريزمي والناقد الصريح لإيران، على وشك تشكيل حكومة. لكن القوات الموالية لإيران أشعلت اشتباكات عنيفة في الشوارع، وتمكنت من خلال مناورات دينية وبرلمانية من وقف ذلك. تولى محمد السوداني رئاسة الوزراء في أكتوبر / تشرين الأول 2022 فيما اعتُبر إلى حد كبير انتصاراً إيرانياً، لا سيما أن رئيس الوزراء الذي حل محله، مصطفى الكاظمي، كان أول حاكم غير إسلامي للعراق منذ سقوط صدام. أعاد الكاظمي العلاقات العراقية مع القوى السنية مثل المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، حتى مع الحفاظ على علاقات ممتازة مع إيران وتشجيع استعادة العلاقات الدبلوماسية الإيرانية السعودية.

ولكن قبضة طهران على بغداد ليست آمنة على الإطلاق. يعتمد السوداني على دعم الأحزاب المؤيدة لطهران، لكنه واصل أيضاً متابعة الكثير من أجندة الكاظمي الإقليمية لتعزيز العلاقات مع الدول العربية. وسبق لاثنين من شركائه الرئيسيين في الائتلاف، حزب التقدم الذي يهيمن عليه السنة، والحزب الديمقراطي الكردستاني، أن شكلا تحالفاً مع الصدر. حتى حزب السوداني الصغير، حركة الفرات، حاول ذات يوم التحالف مع الصدر. وهذا يعني أن الصدر حتى وإن خسر المعركة بين الشيعة في الوقت الحالي، فإن حلفاءه السابقين ما زالوا يتمتعون بقدر كبير من السلطة في العراق ويتقاسمونها مع الأحزاب الموالية لطهران حسب رغبتهم.

هناك العديد من القضايا التي تفرق العراقيين، ولكن هناك قضية واحدة تجمع بينهم: فهم لا يريدون أن يتحول العراق إلى ساحة معركة لصراعات إيران مع الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أنهم لا يرغبون في أن يكونوا ضمن الفريق الخاسر في المنطقة نظراً لتدهور حظوظ محور طهران. فعندما سقط الأسد، ودخلت طهران في حالة من الذعر، حاول العراقيون تطبيع العلاقات مع الإدارة السورية الجديدة. ففي السادس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول، زار رئيس المخابرات العراقية دمشق والتقى بالزعيم السوري الجديد أحمد الشرع. كما شارك العراقيون في اجتماعات جامعة الدول العربية مع سوريا.

الآن، يطالب العديد من العراقيين علناً بحل قوات الحشد الشعبي، وهي مظلة تضم معظم الميليشيات المدعومة من إيران تشكلت في عام 2014 لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وقد كانت قوات الحشد الشعبي، التي صُممت على غرار الحرس الثوري الإيراني، هي الأداة الرئيسة للتدخل الإيراني في العراق. وبدأ أعضاء الحكومة العراقية يشيرون إلى أنه بعد هزيمة الجماعة الإرهابية السنية (داعش)، لم تعد قوات الحشد الشعبي ضرورية.

ففي مقابلة أجريت معه الشهر الماضي، قال فؤاد حسين، وزير الخارجية العراقي وأحد أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني: “آمل أن نتمكن من إقناع زعماء هذه الجماعات بإلقاء أسلحتهم. فقبل عامين أو ثلاثة أعوام، كان من المستحيل مناقشة هذا الموضوع في مجتمعنا”.

واليوم، دعا الصدر أيضاً إلى ضرورة أن تحتكر قوات الأمن الحكومية، “وليس الميليشيات أو الجماعات الخارجة عن القانون”، السلاح. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن بعض الشخصيات من داخل إطار الائتلاف، وهو مظلة تضم في معظمها أحزاباً مؤيدة لطهران، أيدت هذا الموقف، من بينهم محسن المندلاوي، الملياردير الشيعي الكردي ونائب رئيس مجلس النواب. ومن المؤكد أن حل الميليشيات المسلحة أو دمجها في قوات الأمن الموالية للدولة من شأنه أن يجرد إيران من المصدر الرئيسي لنفوذها داخل العراق.

وقد تكون هذه الخطوة محسوبة أيضاً لتجنب المتاعب مع واشنطن. فوفقاً للتقارير، فإن إدارة ترامب تدرس فرض عقوبات جديدة على العراق ما لم يتم نزع سلاح قوات الحشد الشعبي. خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى، شن الرئيس دونالد ترامب ضربات بطائرات بدون طيار على بغداد أسفرت عن مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس. ونتيجة لذلك، أصدرت السلطة القضائية العراقية مذكرة اعتقال بحق ترامب. ولكن الآن بعد عودة الرئيس السابق إلى السلطة، ربما تتطلع الحكومة العراقية إلى تهدئة الأمور. فقد أرسل السوداني والرئيس الشرفي للعراق عبد اللطيف رشيد رسائل تهنئة إلى الرئيس الأمريكي عند انتخابه في نوفمبر / تشرين الثاني وتنصيبه الشهر الماضي. وفي حديثه إلى رويترز الشهر الماضي، قال وزير الخارجية فؤاد حسين إنه يأمل أن “يواصل العراق علاقاته الجيدة مع واشنطن” في عهد ترامب. وقال علي نعمة، عضو البرلمان في الإطار التنسيقي، مؤخراً إنه يتوقع تحسن العلاقات العراقية الأمريكية وأن المجموعة الموالية لإيران “ليست قلقة بشأن ترامب”.

في غضون ذلك، تبدو العلاقات بين بغداد وطهران أكثر توتراً من أي وقت مضى. ففي الشهر الماضي، زار السوداني طهران وتلقى خطاباً مطولاً من المرشد الأعلى علي خامنئي. ودعا رجل الدين الإيراني المسن العراق إلى الحفاظ على قوات الحشد الشعبي وتعزيزها وطرد جميع القوات الأمريكية من البلاد. كما وصف التغيير الأخير في السلطة في سوريا بأنه مؤامرة من “حكومات أجنبية”.

ولكن هل يكفي كل هذا للإشارة إلى أن العراق أيضاً بدأ ينسحب من محور إيران؟ إن الخبراء العراقيين لم يتفقوا، حتى الآن، على الإجابة عن هذا السؤال.

المصدر: msn

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى