تقارير ودراسات

زواج مصلحة: إيران وحماس والجهاد الإسلامي

قد لا تكون إيران مسؤولة بشكل مباشر عن هجمات السابع من أكتوبر / تشرين الأول 2023، لكن طهران عملت منذ فترة طويلة على دعم وتعزيز جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني. وفي المقابل، عملت الديناميكيات الأوسع نطاقاً داخل الشرق الأوسط على الحد من خيارات هذه الجماعات، مما دفعها إلى اللجوء إلى إيران للحصول على الدعم.

منذ نشأتها، كانت العلاقات الإيرانية الفلسطينية بمثابة زواج مصلحة قائم على سعي إيران إلى تعزيز نفوذها الإقليمي والحاجة الفلسطينية إلى رعاية الدولة. واليوم، تقدم إيران الدعم لعدد من الجماعات الفلسطينية، بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني بشكل خاص. ومع ذلك، فإن هذه الجماعات ليست دمى وعلاقاتها مع طهران تتطور باستمرار.

لقد عكست الهجمات التي شنتها حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول حساباتها المستقلة. وعلى الرغم من أن هذه الهجمات لم تكن لتتحقق لولا الدعم الإيراني طويل الأمد، فمن المرجح أنها كانت بمثابة مفاجأة غير سارة بالنسبة إلى طهران، التي تجنبت على مدى الأشهر الماضية الدخول بثقلها في الحرب الجارية بين الجماعات الفلسطينية وإسرائيل. ولكن ما إذا كانت حماس والجهاد الإسلامي ستظلان متحالفتين بشكل وثيق مع إيران، فإن هذا سوف يعتمد على نتائج الحرب في غزة والديناميكيات الأوسع في الجغرافيا السياسية المتقلبة في الشرق الأوسط.

إن دعم إيران للقضية الفلسطينية كان دوماً أيديولوجياً جزئياً، نظراً لأهمية القدس الدينية بالنسبة إلى المسلمين. فقد أكد دستور إيران لعام 1979 على واجبها في تصدير الثورة الإسلامية لمساعدة “المحرومين” في مختلف أنحاء العالم. ولكن مصالح السياسة الواقعية سيطرت إلى حد كبير منذ أواخر الثمانينيات. فقد بدأت إيران تدريجيًّا في دعم الجماعات المسلحة الفلسطينية كجزء لا يتجزأ من سياستها الأمنية الإقليمية الرامية إلى احتواء إسرائيل وإشغالها، والتي طالما اعتبرتها، إلى جانب الولايات المتحدة، التهديد الأعظم لأمنها واستقرارها الداخلي. ومن وجهة النظر هذه، دعمت إيران، أو الجمهورية الإسلامية كما تسمي نفسها، على مدى عقود عدداً كبيراً من الجماعات الإسلامية السنية والعلمانية واليسارية.

لقد جاء دخول إيران إلى فلسطين في البداية من خلال منظمة التحرير الفلسطينية العلمانية التي يرأسها ياسر عرفات. وقد دعمت الحركة القومية العلمانية الثوار الإيرانيين قبل إطاحتهم بالشاه في عام 1979، بل ووفرت حرّاساً شخصيين لآية الله روح الله الخميني أثناء إقامته في المنفى في باريس. كما تلقى العديد من الشخصيات المركزية في الحرس الثوري الإيراني في بداياته تدريبات في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. وفي خطوة رمزية للغاية، كان عرفات أول زعيم أجنبي يزور إيران بعد الثورة الإسلامية.

كان الاعتدال التدريجي في مواقف منظمة التحرير الفلسطينية خلال الثمانينيات ـ فتح مفاوضات خلف الكواليس مع إسرائيل، وقبول التقسيم الإقليمي لفلسطين التاريخية، ونبذ العنف المسلح ـ أحد العوامل التي ساهمت في تمزق العلاقات، لكن إيران استمرت في تقديم بعض الدعم لأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الماركسية اللينينية. ومع ذلك، ومن أجل الحفاظ على نموذجها الأمني ​​الإقليمي، حولت طهران الجزء الأكبر من دعمها نحو الجماعات الإسلامية الفلسطينية نظراً لعدم الأهمية السياسية والعسكرية للجماعات الماركسية اللينينية الأصغر حجماً في الأراضي المحتلة.

من منظمة التحرير الفلسطينية إلى الإسلاموية الفلسطينية

لقد سهّلت تصرفات إسرائيل تعاون إيران المبكر مع حماس والجهاد الإسلامي عن غير قصد. فقد أجرى المسؤولون الإيرانيون أول اتصال مع قادة الجهاد الإسلامي في بيروت في عام 1987 بعد أن طردتهم إسرائيل إلى لبنان كجزء من جهودها لقمع القيادة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة. وتعززت العلاقات الإيرانية الفلسطينية عندما نفت إسرائيل مئات آخرين من أعضاء حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في لبنان عام 1992.

بحلول ذلك الوقت، كانت الجماعات الإسلامية الفلسطينية قد توصلت، مثل منظمة التحرير الفلسطينية من قبلها، إلى حقيقة أنها في حاجة إلى دولة راعية قوية لتحقيق النجاح في كفاحها ضد إسرائيل. وسرعان ما ترجم هذا إلى دعم مالي وعسكري من إيران، حيث تلقى المقاتلون الفلسطينيون تدريبات في وادي البقاع في لبنان، في معسكرات يديرها حزب الله اللبناني المدعوم من طهران. وبحلول عام 1993، قال فتحي الشقاقي، المؤسس المشارك والزعيم الأول لحركة الجهاد الإسلامي، لصحيفة نيوزداي: “تمنحنا إيران المال وتدعمنا، وبدورنا نوفر المال والأسلحة للأراضي المحتلة وندعم أسر شعبنا”.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت الجماعات الإسلامية الفلسطينية أقوى بفضل الأسلحة الإيرانية المهربة عبر اليمن والسودان، وعبر الصحراء المصرية بمساعدة المهربين البدو، وأخيراً إلى غزة عبر الأنفاق الحدودية التي شيدتها حماس. كما دربت إيران مهندسين فلسطينيين على تصنيع الأسلحة محلياً، وهو ما يمثل جزءاً كبيراً من إجمالي ترسانة حماس اليوم. ومن المرجح أن تكون جماعات أخرى مدعومة من إيران في غزة قد استفادت أيضاً من هذه الترتيبات. ولم يكن من الممكن أن تحدث هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لولا هذا الدعم المستمر منذ عقود من الزمن.

زواج المصلحة الإيراني الفلسطيني

كانت العلاقة ما بين حماس السُنّية [ومعها حركة الجهاد الإسلامي] وإيران الشيعية دائماً عبارة عن زواج مصلحة ناتج عن السعي إلى تحقيق أهداف مشتركة على الأرض وليس وليد تقارب أيديولوجي مع التفسير السياسي للإسلام الذي تتبناه طهران. ونتيجة لهذا، عمل الطرفان باستمرار على تعديل علاقاتهما الخارجية وفقاً لحساباتهما الاستراتيجية الخاصة. وكان هذا أكثر وضوحاً في أعقاب الانتفاضات العربية في عام 2011.

إن الانتفاضة السورية توضح كيف أن إيران وحماس كانتا تتلاعبان ببعضهما البعض؛ فقد حاول زعماء حماس المتمركزون في دمشق التوسط بين النظام السوري والمتمردين السنة، ولكن القيادة السياسية رفضت المطالب الإيرانية بتقديم دعم غير مشروط للرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي أدى إلى قطع العلاقات. وردت إيران بخفض دعمها المالي لحماس إلى النصف: من 150 مليون دولار إلى أقل من 75 مليون. ومع ذلك، ظلت طهران تحافظ على روابط وثيقة مع زعماء حماس المتشددين المقيمين في غزة. على سيل المثال، كان مروان عيسى، الرجل الثاني في قيادة الجناح العسكري لحماس، كتائب عز الدين القسام، يسافر بانتظام إلى طهران بعد عام 2012.

بحسب التقارير، أعادت إيران توجيه بعض تمويلها المخصص لحماس إلى حركة الجهاد الإسلامي، التي حافظت على موقف محايد وتجنبت توجيه انتقادات علنية للنظام السوري. ومع ذلك، بعد بضع سنوات، واجهت علاقة الجهاد الإسلامي بإيران صعوبات أيضاً بسبب الحرب الأهلية اليمنية في عام 2014. وكما حدث مع حماس من قبل، أدى رفض الجهاد الإسلامي تأييد الحوثيين المدعومين من إيران أو إدانة التدخل العسكري السعودي في اليمن إلى خفض طهران لتمويلها. وهذه المرة، تم إعادة توجيه الأموال إلى حركة الصابرين في غزة، والتي رعتها إيران في محاولة لاستبدال حماس والجهاد الإسلامي بوكيل أكثر امتثالاً.

خلال هذه الفترة، حاول كل من حماس والجهاد الإسلامي البحث عن مصادر بديلة للدعم. بعد أن قطعت حماس علاقاتها رسمياً مع النظام السوري، سعت إلى التحالف مع ما يسمى بالمحور السني، أي مصر والملكيات الخليجية مثل قطر. وكجزء من عملية إعادة التوجيه هذه، انتقلت شخصيات رئيسة من حماس، بما في ذلك زعيمها آنذاك خالد مشعل، إلى الدوحة. وفي عام 2017، كشفت الحركة عن برنامج سياسي جديد وأكثر مرونة من خلال إعلان “وثيقة المبادئ والسياسات العامة”، والتي كانت تهدف إلى تحسين صورة حماس في العالم العربي والغرب.

من جانبها، قامت حركة الجهاد الإسلامي بمحاولاتها الخاصة للعثور على دولة مانحة. على سبيل المثال، سافر محمد الهندي، أحد كبار مسؤوليها، إلى تركيا والجزائر في محاولة للحصول على الدعم المالي، وحقق بعض النجاح. وفي عام 2015، بدأت السلطات الجزائرية في تمويل “مشاريع إنسانية” تابعة للحركة. ومع ذلك، لم يضاه هذا التمويل مستوى علاقة الجهاد الإسلامي السابقة بإيران، بل اقتصر على بعض المدفوعات المتقطعة. كما أنشأت الحركة قنوات اتصال مباشرة مع المملكة العربية السعودية، وتقربت من مصر والأردن لتخفيف صعوباتها المالية.

ثم، وبشكل غير متوقع إلى حد ما، تعهد الحرس الثوري الإيراني في مايو/ أيار 2016 بتحويل 70 مليون دولار إلى الجهاد الإسلامي. ويبدو أن هذا كان مشروطاً بتحول في موقف المجموعة بشأن اليمن: فبعد شهر واحد، أعلن وفد من الحركة زار السفارة اليمنية في دمشق دعمه “للشعب اليمني ضد العدوان [الأجنبي]، وأن استهداف اليمن يعادل استهداف القضية الفلسطينية”.

ولعل المعتقدات الأيديولوجية الشخصية عززت أيضاً العلاقة بين الجهاد الإسلامي وإيران؛ إذ يبدو أن زعيم الحركة منذ عام 2018، زياد النخالة، كان أقرب إلى إيران من سلفه رمضان شلح. وربما كان تجديد العلاقات أيضاً يعكس اقتناع الحركة بعدم وجود تمويل بديل آخر متاح لها. ومنذ ذلك الحين، يبدو أن الجهاد الإسلامي وإيران قد اقتربتا من بعضهما البعض أكثر فأكثر.

على مدار عام 2022، سعت حماس أيضاً إلى إصلاح علاقاتها مع إيران. وقد ظهر ذلك لأول مرة من خلال زيارة خليل الحية، وهو قيادي بارز في حماس، إلى دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام. وقد أنهى هذا فعلياً ما يقرب من عقد من القطيعة بين حماس والنظام السوري، مما يدل على عودة الحركة إلى الحظيرة الإيرانية وفشل محاولاتها السابقة لإعادة توجيه تحالفاتها.

في حين كان هناك تكهنات مكثفة حول ما إذا كانت إيران على علم مسبق بهجوم حماس في السابع من أكتوبر / تشرين الأول، إلا أن طهران سرعان ما نفت أي مسؤولية مباشرة وأبلغت زعيم الحركة آنذاك إسماعيل هنية بنيتها تقديم الدعم السياسي فقط، وليس العسكري، في الصراع مع إسرائيل. ويعكس هذا جزئياً رغبة إيران في تجنب حرب إقليمية شاملة من شأنها أن تهدد مصالحها الاستراتيجية. وهذه ليست المرة الأولى التي يؤدي فيها إحجام إيران عن تقديم دعم عسكري أثناء الصراع إلى خيبة أمل حماس. فقد تجمد تحالفهما لفترة وجيزة بعد عملية الرصاص المصبوب في عامي 2008 و2009، والتي كانت كارثية بالنسبة إلى المصالح الإيرانية. وبالتالي، فإن قرار إيران بالنأي بنفسها عن هجوم السابع من أكتوبر / تشرين الأول يتماشى مع استراتيجيتها الراسخة في دعم الجماعات الفلسطينية دون التورط المباشر في صراعاتها.

فشل الاعتدال

لقد أخطأت حماس إلى حد كبير، عندما راهنت على المحور السني بعد الانتفاضات العربية، التي شهدت صعود حركة النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ ذلك أن المد السياسي سرعان ما تحول ضد الإسلام السياسي في أعقاب الإطاحة بالرئيس الإسلامي في مصر محمد مرسي. وكان القرار الذي اتخذه خليفته، عبد الفتاح السيسي، بتعزيز الحصار المصري على غزة منذ يوليو/ تموز 2013 فصاعداً سبباً في جعل هذا التوجه قصير الأمد غير قابل للاستمرار سياسياً ومالياً بالنسبة إلى حماس. وبعد تلقي دعم محدود وغير كاف من العواصم العربية، اضطرت حماس إلى العودة إلى دمشق وطهران للحفاظ على مصالحها.

وقد يعكس عودة حماس إلى التقارب مع إيران أيضاً، ولو بشكل جزئي، فشل التعامل الغربي مع الحركة بشكل عام وجناحها المعتدل بشكل خاص. فقد كانت قرارات حماس دائماً نتاجاً للمناقشات الداخلية بين أطروحة التغيير الاجتماعي وأطروحة الكفاح المسلح، بين المعتدلين والمتشددين، بين أولئك الذين يعطون الأولوية للعمل السياسي، وأولئك الذين يفضلون خيار العنف. لقد أصبحت قرارات حماس بالمشاركة في العملية الانتخابية الفلسطينية في عام 2006، والانفتاح على حل الدولتين في برنامجها لعام 2017، ممكنة بفضل تراجع نفوذ المتشددين في أعقاب نهاية الانتفاضة الثانية، مما أدى إلى تآكل الدعم داخل الحركة لخيار العنف المسلح.

لكن يبدو أن المقاطعة الدولية لحماس التي أعقبت فوزها في الانتخابات البرلمانية عام 2006 لم تنجح إلا في إضعاف الجناح المعتدل، الذي سعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع العواصم الغربية. وبعد ستة عشر عاماً من نهاية الانتفاضة الثانية، لم يحقق المعتدلون سوى انتصارات قليلة، إن وجدت. وقد أدى هذا مرة أخرى إلى تعزيز موقف المتشددين الذين يدفعون باتجاه إقامة علاقات أوثق مع إيران ويزعمون أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد للمضي قدماً في تحرير فلسطين. وكان الهجوم الذي قادته الحركة على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تتويجاً لهذه الديناميكيات المتغيرة. ولكن كما يُظهر الماضي، فإن وضع حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين في حالة تحول مستمر. وسوف يعتمد توجههما المستقبلي جزئيًّا على ما إذا كانت الدول العربية والغربية قادرة على تعزيز الأصوات المعتدلة داخل هذه الجماعات التي طالما رغبت في الابتعاد عن فلك إيران في حال وجود مسار سياسي واقعي نحو الاستقلال الفلسطيني.

الكاتب: إريك سكاري*

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث في جامعة أوسلو، النرويج وباحث مشارك في معهد الدراسات السياسية في باريس، فرنسا، متخصص في التاريخ الفلسطيني مع التركيز بشكل خاص على الدين والسياسة العلمانية. وهو مؤلف كتاب “تاريخ الجهاد الإسلامي الفلسطيني: الإيمان والوعي والثورة في الشرق الأوسط” (دار نشر جامعة كامبريدج، 2021).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى