تقارير ودراسات

ديانت: أداة القوة الناعمة للإسلاموية التركية في ألمانيا

في واحدة من أعظم مفارقات السياسة التركية الحديثة، أن المنصب الديني الذي أنشأه مصطفى كمال أتاتورك، قبل ما يقرب من قرن من الزمان، أصبح حاملاً قويّاً للشعلة التي اعتبرها المؤسس العلماني لتركيا الحديثة أعظم تهديد سياسي للجمهورية الفتية: الإسلاموية.

على مدى ثمانية عقود من الزمان، عملت رئاسة الشؤون الدينية في تركيا المعروفة باسم ديانت، كمؤسسة دولة علمانية تدير، وفقاً للقانون، شؤون الإيمان وعبادة الإسلام، حيث تم فصل المؤسسة الدينية عن مؤسسات الدولة والمؤسسات السياسية لضمان عدم تدخل ممارسة الإسلام في سلطة الدولة العلمانية.

على الصعيد الأيديولوجي، كانت ديانت تعتبر كل الممارسات الإسلامية خارج نطاق الدولة العلمانية “متطرفة وهرطوقية وخطيرة على الأمة”. واستمرت هذه النظرة إلى أن جاء الصعود الموازي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان والإسلام السياسي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

في عام 2006، تم تعزيز ديانت وتسييسها بشكل عميق بما يتماشى مع ترسيخ سلطة أردوغان. ومع الارتفاعات السنوية الحادة في ميزانيتها، تدير الآن أكثر من 1000 فرع في جميع أنحاء تركيا وتوظف 150 ألف موظف.

إن استخدام أردوغان لديانت للترويج للإسلام السياسي له عواقب وخيمة. فهي تسيطر على الأنشطة التعليمية والثقافية والخيرية للأتراك في 145 دولة، وتبث برامجها يومياً على مدار الساعة من قناتها الإعلامية، وتوسع نطاق التعليم القرآني الذي تقدمه ليشمل الأعمار المبكرة والمدارس الداخلية “مما يتيح الانغماس الكامل للأطفال الصغار في نمط حياة ديني”. كما تتولى إصدار الفتاوى أو المراسيم الدينية عند الطلب.

وتبلغ ميزانية ديانت لعام 2022 نحو 16.1 مليار ليرة تركية (أي ما يعادل نحو 1.2 مليار دولار)، وهو ما يفوق الميزانية السنوية لسبع من بين 17 وزارة تركية، بما في ذلك وزارات الداخلية والخارجية والطاقة.

ومن بين الأهداف الاستراتيجية الأكثر إلحاحاً التي تسعى إليها ديانت في ظل نظام أردوغان زيادة حضورها وتأثيرها على الساحة الدولية. ومن المتوقع أن يرتفع عدد برامج التعليم الديني التي تنفذها في الخارج من 160 برنامجاً في عام 2019 إلى 1778 برنامجاً في عام 2024.

ولا تسيطر ديانت على الحياة الدينية في تركيا فحسب، بل تؤثر أيضاً على الحياة الدينية والسياسية خارج البلاد من خلال الرسائل التي تبثها إلى المساجد الممولة من تركيا في بقية العالم.

ومنذ عام 2002، أنفقت حكومة أردوغان أكثر من 500 مليون دولار لبناء مساجد في جيبوتي، وقيرغيزستان، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وروسيا، وهايتي، والفلبين، والصومال، ومالي، وتخطط لترميم مساجد في كولومبيا وتايلاند. وفي سوريا، ترعى تركيا أعمال الإصلاح والصيانة لـ 161 مسجداً. ومؤخراً، وزعت ديانت 30 ألف نسخة مجانية من القرآن الكريم في الضفة الغربية.

لقد اعتمدت أنشطة ديانت التوسعية في أوربا في السنوات الأخيرة بشكل كبير على مؤسستين مرتبطتين، تستهدف كل منهما الجاليات التركية المغتربة في الديمقراطيات الغربية بالدعاية الإسلاموية.

أولى هذه المؤسسات هي الاتحاد الدولي الديمقراطي. يقع المقر الرئيس للاتحاد في مدينة كولونيا بألمانيا، ويدير 253 مكتباً في 17 دولة. وتتلخص مهمته في “العمل كجسر بين تركيا والدول التي ينشط فيها”، وهو ليس مؤسسة دينية، بل مؤسسة ضغط ودعاية سياسية للأتراك المقيمين في الخارج. وفي حين يقع مقر الاتحاد في ألمانيا، فإنه يعمل كقاعدة أوربية لمصالح حزب العدالة والتنمية في جميع أنحاء العالم.

المؤسسة الثانية التي يتم الاعتماد عليها لتعزيز النفوذ التركي هي “ديتيب” أو الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، الذي يقع مقره الرئيسي في مدينة كولونيا-إيرينفيلد، ويرعى ما يقرب من ألف مسجد في البلاد، وهو فرع رسمي من ديانت.

وقد جذبت المنظمتان اهتمام المسؤولين الأمنيين الألمان.

منذ عام 2017، تم ذكر الاتحاد الدولي الديمقراطي في التقارير السنوية للمكتب الفيدرالي الألماني لحماية الدستور، وهو جزء من وزارة الداخلية ومكلف بحماية البلاد من القوى المناهضة للديمقراطية، وخاصة النازية الجديدة. وفقًا لمكتب حماية الدستور، “تأسس الاتحاد الدولي الديمقراطي بناءً على أوامر من أردوغان، وهو ملتزم بحماية مصالح حزب العدالة والتنمية في ألمانيا وأوربا، إنه منظمة غير رسمية لحزب العدالة والتنمية”.

وقد تمكنت هيئة حماية الدستور الألمانية من اكتشاف صلات بين الاتحاد الدولي الديمقراطي وشبكة عثمانين، وهي شبكة إجرامية تركية قومية ويمينية متطرفة في ألمانيا متهمة بالابتزاز وتجارة المخدرات والدعارة، ويقال إنها تتلقى دعماً مالياً من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا والرئيس التركي أردوغان.

في عام 2021، التقى أردوغان برئيس الاتحاد الدولي الديمقراطي، كوكسال كوش، وهو قومي متطرف سابق. وطلب أردوغان من الاتحاد أن يشارك بشكل أكثر نشاطاً في الجهود الرامية إلى مكافحة العنصرية والتمييز والأنشطة المعادية للإسلام في ألمانيا.

في أحد التقارير، حذر مكتب حماية الدستور من أن الاتحاد الدولي الديمقراطي قد يسعى إلى التأثير على السياسة الألمانية. والواقع أن الاتحاد والاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية (ديتيب) أظهرا استراتيجيات سياسية مماثلة في التعامل مع السياسة الألمانية.

في بيان صدر قبل وقت قصير من الانتخابات الفيدرالية الألمانية في 26 سبتمبر/ أيلول 2021، حث رئيس اتحاد الجالية التركية في ألمانيا، كوش، على المشاركة القصوى للمجتمع التركي في العملية الانتخابية الألمانية ودعا إلى مواجهة “الخطاب السياسي المناهض للمهاجرين والعنصري المتصاعد في أوربا في السنوات القليلة الماضية”.

وباستخدام خطاب مماثل، حث كاظم تركمان، رئيس الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية (ديتيب)، الأتراك على الذهاب إلى صناديق الاقتراع لمواجهة الأحزاب المتطرفة والدفاع عن حقوق المرأة المسلمة التي ترتدي الحجاب. قد تبدو هذه المساعي غير ضارة نسبياً، لكن الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية معروف بأنه قوة استقطابية وتقسيمية مؤثرة داخل الجالية التركية في ألمانيا.

في سبتمبر/ أيلول 2016، أصدرت رئاسة الشؤون الدينية التركية أمراً يطلب من الأئمة الأتراك في ألمانيا نقل المعلومات إلى البعثات الدبلوماسية بشأن المنشقين والمعارضين للحكومة التركية، وخاصة أنصار فتح الله غولن، رجل الدين التركي المنفي الذي تتهمه أنقرة أنه العقل المدبر وراء محاولة الانقلاب في 15 يوليو/ تموز 2016 ضد أردوغان.

حركة غولن هي شبكة إسلامية صوفية عابرة للحدود الوطنية معروفة بوجهات نظرها المعتدلة وباندماجها مع الديمقراطيات العلمانية. وفي تركيا، كان أتباع غولن راسخين في مؤسسات الدولة مثل إنفاذ القانون والقضاء، حتى نشأ خلاف بينهم وبين أردوغان بشأن تحقيقات الفساد التي استهدفت حزب العدالة والتنمية.

في قضية “الإمام الجاسوس” الذي اعتقل في دوسلدورف عام 2021 واتهم بالتجسس على أنصار حركة غولن لصالح للاستخبارات التركية، تم التحقيق مع 19 رجل دين تركي بتهمة تسليم معلومات عن حركة غولن إلى القنصلية التركية في كولونيا.

أسقط المدعون العامون في مدينة كارلسروه الألمانية التهم بعد فرار سبعة من المشتبه بهم من ألمانيا، وبالتالي لم يكن من الممكن توجيه الاتهام إليهم. ولم تكن هناك أدلة كافية للمضي قدماً في سبع قضايا أخرى، وتم إسقاط قضايا أخرى، واعتبرت مخالفات بسيطة لا تستحق الملاحقة القضائية.

وأضاف ممثلو الادعاء أن “هؤلاء المتهمين كانوا يعتقدون أنهم سيتعرضون لقمع شديد من جانب وكالات حكومية في تركيا إذا رفضوا تنفيذ مهمة ديانت”. واعترف الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية (ديتيب) بأن “عدداً قليلاً” من خطبائه تصرفوا “بشكل خاطئ” كمخبرين للحكومة التركية.

في عام 2021، بدأت الحكومة الألمانية في اتخاذ خطوات عملية لمواجهة ما اعتبرته “تعليمياً دينياً مشكوكاً فيه” يقدمه “ألف إمام تركي برعاية حكومة أنقرة”. وكانت الخطوة الأولى هي إطلاق الكلية الإسلامية التي ترعاها الحكومة الفيدرالية برئاسة عالم دين تركي، البروفيسور مردان غونيش.

وانضمت مجموعة أولية تتألف من 20 إلى 40 إماماً، بما في ذلك نساء، إلى المنهج الدراسي الذي يستمر عامين، ولكن هناك مؤشرات على أن المجتمعات المسلمة لن تتقبل رجال الدين المتعلمين محلياً.

وقد اختار كل من الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية (ديتيب) ومنظمة ميلي غوروش، ثاني أكبر منظمة إسلامية في ألمانيا، عدم المشاركة في جهود الكلية الإسلامية. وقبل عام واحد، أطلقت ديتيب برنامجها التدريبي الخاص في ألمانيا. وأعلن بكير ألتاش، الأمين العام لمنظمة ميلي غوروش، أن تدريب الأئمة يجب أن يكون “خالياً من التأثيرات الخارجية، وخاصة السياسية”.

ولقد كان المسؤولون الألمان يناقشون ما إذا كان ينبغي حظر النشاط السياسي في المساجد، ولكن هذا لن يكون سهلاً. ويقول بنيامين شتراسر من الحزب الديمقراطي الحر الألماني: “سيكون من المبهم أن نحدد أي نشاط سياسي وأي نشاط ليس كذلك. وإلى جانب ذلك، من وكيف سوف يتحقق [من السلطات الألمانية] من مدى تطبيق الحظر بشكل عادل؟”.

إن استخدام أردوغان لديانت للترويج للإسلاموية من خلال المساجد الممولة من تركيا في ألمانيا ودول أوربية أخرى تستضيف جاليات تركية كبيرة يمثل تحدياً للقادة الغربيين الذين سيتعين عليهم التعامل مع انتشار الأيديولوجية التركية الحاكمة في مجتمعاتهم: مزيج من القومية التركية العثمانية الجديدة والإسلاموية.

إنها ليست مشكلة يمكنهم تجاهلها.

لقد كان أردوغان وحليفه القومي المتطرف، دولت بهتشلي، خصمين سياسيين حتى عام 2017. ومنذ ذلك الوقت، عملا معاً لدفع تركيا بتهور إلى مدار معادٍ للغرب. وقد كان لهذا تأثير على الحياة العامة خارج البلاد. وتُظهِر مجموعات البلطجية مثل عصابة عثمانين في ألمانيا مخاطر دمج القومية التركية مع الإسلاموية وإيصالها إلى أوروبا.

وكتب أستاذ العلوم السياسية جيوناتان لو موسكولو في موقع الديمقراطية المفتوحة: “إن تشكيل الحكومة الفيدرالية الجديدة… يوفر الفرصة لقلب الصفحة والتصرف بشكل حاسم ضد القوميين المتطرفين الأتراك في ألمانيا، من خلال استئصال الشبكات القديمة، وتوسيع البرامج التعليمية المفتوحة، والتفكير بجدية في حظر هذه المنظمات الخطيرة”.

ربما يكون لو موسكولو متفائلاً أكثر مما ينبغي. ذلك أن المداولات المتعلقة بالسياسة الخارجية في برلين وبروكسل قد تفسد أي محاولة ألمانية جادة للسيطرة على المنظمات الإسلاموية التركية.

“إن تركيا، التي تؤوي أربعة ملايين سوري و1.3 مليون مهاجر آخر (غير مسجل)، تشكل جارة صعبة بالنسبة لدول الاتحاد الأوربي. ولقد اعتاد الساسة الألمان على استرضاء أردوغان بسبب قدرة تركيا على تعطيل الحياة في بلادهم”.

وستزداد الأمور سوءاً إذا سمح زعماء الديمقراطيات الغربية لأردوغان ببث الإسلاموية في بلدانهم دون أي اعتراض.

 

بوراك بكديل
محلل سياسي تركي مقيم في أنقرة

 

الرابط:

https://islamism.news/research/investigations/diyanet-serves-as-tool-for-turkish-soft-power-in-germany/

زر الذهاب إلى الأعلى