حروب التاريخ: كيف تتلاعب دعاية داعش بالتاريخ والذاكرة؟
إن التاريخ يشكل ركيزة أساسية في الدعاية التي ينتهجها تنظيم الدولة الإسلامية، وتعمل وحدات الإعلام التابعة للتنظيم باستمرار على بناء وإعادة بناء السرديات التاريخية، وضغط أو تمديد الزمان والمكان عندما يناسب ذلك أهدافها، وتسعى دائماً إلى دمج المقدس والدنيوي بشكل لا ينفصم في التاريخ الحي لحروبها الأبدية. وليس من المستغرب أن يكون التاريخ مهماً للغاية بالنسبة إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ففي نهاية المطاف، يبني التنظيم مصداقيته الدينية والفقهية على الادعاء بأنه وحده الذي يطبق المنهج النبوي بشكل صحيح وكامل لإقامة دولة إسلامية. ومن ثم، فإن التاريخ مهمٌّ أيضاً لشرعية وفعالية استراتيجيته السياسية والعسكرية. وبالنسبة إلى تنظيم الدولة الإسلامية، فإن مد وجزر التاريخ هو نتاج إخلاص المؤمنين لله.
إذا كان التاريخ يتدفق كسلسلة من الدروس الخالدة لتوجيه المؤمنين، فإن دعاة الدولة الإسلامية يرون أن دورهم هو استخلاص هذه الدروس لجمهورهم. وهم يفعلون ذلك من خلال اللعب على سرديات الاستمرارية والاضطراب والنبوءة والحنين إلى الماضي. قد يقدم البحث في علم النفس وعلم الأعصاب المتعلقين بالذاكرة رؤى مفيدة حول الكيفية التي يمكن بها لنهج الدولة الإسلامية في التلاعب الدعائي بالتاريخ أن يُحدث تأثيره في الجماهير المستهدفة. بالنسبة لصناع السياسات والممارسين، فإن فهم الطرائق المختلفة التي يستغل بها تنظيم الدولة الإسلامية التاريخ في دعايته والظروف التي تساعد مثل هذه الدعاية على ترك الصدى أمر حيوي.
التاريخ كأداة للدعاية
إن التاريخ هو الأداة النهائية للدعاية، فهو يوفر مصدراً للسرديات والأبطال والأشرار والأحداث الجاهزة للمراجعة وإعادة التفسير من خلال عدسة معاصرة. وفي أوقات الأزمات، يكون التاريخ جذاباً بشكل خاص للدعاة، ليس فقط بسبب القصص الملهمة عن أمجاد الماضي التي تصبح مخططات لإعادة صياغة الحاضر، ولكن أيضاً بسبب قابلية الجماهير للتفاعل مع مثل هذه السرديات. إن المتطرفين العنيفين مدفوعون في أغلب الأحيان باعتقاد مفاده أن من مسؤوليتهم تصحيح مسار التاريخ وفقاً لبعض النماذج التاريخية “المثالية”. وكثيراً ما يصاحب هذا الاعتقاد شعور حاد بأنهم الورثة المعاصرون لتاريخ حي يربطهم بشكل لا ينفصم بالماضي والمستقبل. ولتقدير القوة المحتملة للتاريخ كأداة للدعاية، من المفيد أن نفكر في الكيفية التي قد تُستغل بها عمليات الذاكرة.
تشير مجموعة متنامية من الأبحاث إلى أن عملية استرجاع الذاكرة هي في كثير من النواحي عملية إعادة بناء لتلك الذاكرة، حيث يسترجع المرء الذكرى المطبوعة في عقله بدلاً من الحدث الفعلي نفسه. ويمكن أن تؤدي عمليات الاسترجاع هذه إلى عدة أنواع من تشوهات الذاكرة: تضخم الخيال (حيث يتم ضخ الخبرات والأحداث المتخيلة في الذاكرة بدرجات متفاوتة)، وأخطاء الذاكرة القائمة على جوهر الموضوع (حيث تضيع التفاصيل وتستولي العموميات على الذاكرة)، والمعلومات المضللة بعد الحدث (حيث يتم ضخ معلومات كاذبة في الذاكرة). والواقع أن عمليات الذاكرة ليست معيبة بطبيعتها، بل إن مثل هذه التشوهات هي نتاج ثانوي لعمليات تكيفية مهمة مرتبطة بالكفاءة الإجمالية لوظائف الذاكرة. وقد تكون المعلومات المضللة بعد الحدث وتضخم الخيال ذات أهمية خاصة عند النظر في كيف ولماذا يمكن للسرديات التاريخية الدعائية أن تلقى صدى لدى الجماهير المستهدفة، وكيف ولماذا تؤثر سيولة مثل هذه السرديات على تصورات الجماهير إذا تُرِكَت دون مواجهة.
التاريخ في حرب داعش الأبدية
إن الوظيفة الرئيسة لاستغلال تنظيم الدولة الإسلامية للتاريخ هي دمج التنظيم في النسيج العام لتاريخ الإسلام من خلال تقديم نفسه بوصفه الوريث المعاصر لصراع واحد طويل الأمد، يمتد إلى النبي محمد ويستمر حتى نهاية الزمان. وفي أيدي دعاة الدولة الإسلامية، يتحول التاريخ إلى أداة دعائية متعددة الأوجه تتميز بأربعة أنواع من السرديات التي تشكل تصورات الجمهور المستهدف وتستقطب دعمه: الاستمرارية والاضطراب والنبوءة والحنين إلى الماضي. إن التفاعل بين هذه السرديات في استراتييجية تنظيم الدولة الإسلامية مصمم لخلق دورات معززة للذات تساهم في تأطير المنطق الشامل لأنشطة الدعاية الخاصة بالتنظيم.
من بين السرديات الأربع، تعد سردية الاستمرارية الأكثر شيوعاً في دعاية الدولة الإسلامية. تبني هذه السردية أقواساً تاريخية تعزز الأنساب والإرث المثالي لأبطال الإسلام وأمجادهم الماضية مع العداوات القديمة وأحقاد أعدائهم. هذه السردية لا توفر السياق التاريخي للحاضر فحسب، بل تربط أيضاً بسلاسة بين الماضي والحاضر والمستقبل. عندما ألقى كبار قادة تنظيم الدولة الإسلامية خطابات تمثل نقطة تحول في تطور التنظيم، كانت السردية المتعلقة بالاستمرارية بارزة بشكل كبير. على سبيل المثال، تضمن إعلان أبو بكر البغدادي في عام 2013 الذي يضفي الطابع الرسمي على توسع مجموعته من العراق إلى سوريا إعادة سرد مفصلة للتغييرات المختلفة التي طرأت على اسم الدولة الإسلامية باعتبارها علامات على نهجها التصاعدي في محاكاة أسلوب النبي في إقامة الدولة الإسلامية الأولى.
إن الهدف المهم الآخر للسردية المتعلقة بالاستمرارية هو تحديد السوابق التاريخية لتبرير تقلبات الحاضر. فبعد أن خسر تنظيم الدولة الإسلامية كل سيطرته الإقليمية، أصبحت دعايته الآن مليئة بالروايات التاريخية التي تؤكد أن كل هذا جزء من صراع لا ينتهي، حيث لا يعد الصبر فضيلة فحسب، بل ضرورة استراتيجية أيضاً. على سبيل المثال، كان الموضوع المتكرر في افتتاحيات صحيفة النبأ الأخيرة هو الإشارة إلى معركة تاريخية شهيرة – سواء كانت صراعات الخلفاء الراشدين قبل قرون (العدد 375) أو معركة الفلوجة عام 2004 (العدد 370) – والإعلان عن أن معارك التنظيم الحالية هي جزء من نفس الحرب المطولة التي تتواصل إلى ما لا نهاية عبر خط تاريخي واحد.
على النقيض من السردية المتعلقة بالاستمرارية، تركز سردية الاضطراب على الشخصيات والأحداث التي كسرت مسار التاريخ للأفضل أو الأسوأ. ومن المحتم أن تميل سردية الاضطراب إلى الظهور بشكل بارز في دعاية الدولة الإسلامية خلال فترات الانتقال الاستراتيجي. على سبيل المثال، قدمت الحملة الدعائية للدولة الإسلامية المحيطة بإعلان الخلافة خلال شهري يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز من عام 2014 المجموعة على أنها دمرت حدود اتفاقية سايكس بيكو باعتبارها بقايا جاهلية لتاريخ حديث مخز. وبعد مرور ما يقرب من عشر سنوات، ومع تدمير خلافتها الإقليمية، قلب دعاة الدولة الإسلامية السرد لإلقاء اللوم على نقص الدعم في انهيارها وفي المحن اللاحقة التي عصفت بالأمة. على سبيل المثال، في أعقاب زلزال قهرمان مرعش في عام 2023، أعربت افتتاحية صحيفة النبأ (العدد 381) بعنوان “أهل الشام وخيانة العالم” عن أسفها لأنه “لو قام المسلمون بواجب الجهاد… كما ينبغي، لما كانت هناك حدود تفتت وحدتهم وبلدانهم”.
وتركز سردية النبوءة على رسالة الشخصيات التاريخية التي تنبأت بالمستقبل. ويعتمد تنظيم الدولة الإسلامية بانتظام على القرآن والأحاديث لتسليط الضوء على الكيفية التي تنبأ بها أعظم أبطال الإسلام بكيفية تطور الظروف – عادة لتعزيز الاستمرارية الشاملة ومواجهة لحظات الاضطراب. وفي حين أنها أقل شيوعاً، فإن سردية النبوءة مصممة لتحمل رسائل ذات تأثير كبير بسبب دمجها الصريح بين المقدس والدنيوي. وتتناول أكثر أمثلة سردية النبوءة الدينية والمشحونة عاطفياً في تنظيم الدولة الإسلامية نهاية العالم. ولعبت نبوءات نهاية العالم دوراً مستمراً في دعاية تنظيم الدولة الإسلامية منذ سنواته التكوينية تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي وخلال فترة خلافته. ولا تزال مهمة الآن أيضاً في وضعه الحالي كمتمرد عالمي. على سبيل المثال، تسلط افتتاحية صحيفة النبأ للعدد 374 الضوء على إعلان النبي أنه مع اقتراب نهاية العالم سيتخلى الكثيرون في الأمة عن إيمانهم كتذكير للجمهور بأهمية البقاء ملتزمين مع تزايد التحديات.
وأخيراً، تقدم سردية الحنين إلى الماضي عروضاً مثالية للماضي كمصدر للإلهام في الحاضر. وقد ظهر نوعان من هذه السردية في دعاية تنظيم الدولة الإسلامية منذ انهياره الإقليمي. الأولى تقدس الأيام المجيدة والإمكانات غير المألوفة التي كانت تتمتع بها الخلافة قصيرة العمر التي أقامها التنظيم، في حين تمجد الثانية مصداقية وفعالية أسلوب التنظيم في إقامة الدولة الإسلامية. والواقع أن سردية الحنين إلى الماضي مصممة لتعزيز ذاتها. ومن ثم فإن أمجاد الماضي التي شهدت إقامة الخلافة تحققت من خلال تطبيق المنهج النبوي بشكل كامل. وفي المقابل، فإن التطبيق الحاسم والصارم للمنهج النبوي يضمن تحقيق الخلافة. وقد تم تلخيص هذا على أفضل نحو في خاتمة افتتاحية صحيفة النبأ في العدد 383: “إن حال الأمة في هذا الزمان لن يصلح إلا بما صلحت به حال الأمة في الماضي، لذلك من الضروري أن نسير على ما ساروا عليه ونتمسك بما التزموا به”.
الانتصار في حرب التاريخ
قد يكون من الصعب في كثير من الأحيان على صناع السياسات والممارسين فهم كيف تمكن تنظيم الدولة الإسلامية من العودة إلى الظهور في المواقع التي أحدث فيها دماراً كبيراً. من الموصل إلى مراوي، هناك مجموعة من الأسباب التي تجعل التنظيم قادراً على العودة، بما في ذلك الوعي العملياتي القائم، واستمرار شبكات الدعم المحلية، وتأثير جهوده المتواصلة في التأثير على السكان المحليين، وتشمل الأخيرة دائماً رسائل تستغل التاريخ. يتعين على صناع السياسات والممارسين أن يدركوا أن الدعاية التاريخية التي يبثها تنظيم الدولة الإسلامية من المرجح أن تلقى صدى أكبر عندما (أ) تُترَك دون مواجهة في مسرح المعلومات، (ب) يشترك التنظيم في تاريخ وهوية واحدة مع السكان المحليين، (ج) عدم تحسن الحياة في تلك المجتمعات المحلية بشكل ملحوظ.
ولكي نكسب حرب التاريخ على الأرض، فلابد من تحدي دعاية الدولة الإسلامية بلا هوادة وبطريقة استراتيجية وبقيادة جهات فاعلة محلية. وينبغي عادة إعطاء الأولوية للمبادرات الاستباقية التي تكشف عن استغلال الدولة الإسلامية للتاريخ كعلامة على الانفصال عن الواقع، وتسويق الماضي الذي لم يكن موجوداً قط، والكشف عن شعور مضل بالحقائق. ويساعد هذا النوع من المبادرات أيضاً على “تحضير” الجماهير لكيفية الاستجابة، عندما يتعرضون لدعاية الدولة الإسلامية. وتتمثل الخطوة الحيوية نحو تمكين الجهات الفاعلة المحلية وبناء القدرة على الصمود في المجتمعات المحلية في الحفاظ المنهجي على التاريخ والاحتفاء به وإتاحته للجمهور من الأجيال القادمة. وفي نهاية المطاف، لا يمكن التخفيف من صدى السرديات التاريخية الدعائية لتنظيم الدولة الإسلامية إلا من خلال أفضل الاتصالات الاستراتيجية المصممة والمطبقة بشكل فعال. كما أنه لن يتسنى هزيمة مثل هذه السرديات إلا من خلال تحسين حياة المجتمعات الضعيفة لجعل الحنين إلى الماضي مسألة متجاوزة.
الرابط:
https://extremism.gwu.edu/history-wars