جماعة التبليغ ودورها في الجهاد العالمي (3)
2.3 الاستخبارات الفرنسية
تصف وكالة الاستخبارات الفرنسية، المديرية العامة للأمن الداخلي، في تقريرها لعام 2018 بعنوان “حالة الأصولية الإسلامية في فرنسا”، جماعة التبليغ بأنها واحدة من الحركات الإسلامية الأربع الأكثر نشاطاً في البلاد – إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، والسلفيين، والحركة التركية ـ الذين يشكلون “الخطر النهائي” المسؤول عن “ظهور مجتمع انعزالي ومضاد على الأراضي الفرنسية”. علاوة على ذلك، تنص المديرية العامة للأمن الداخلي على أن جماعة التبليغ شهدت تطوراً قوياً في السبعينيات، حيث لعبت دوراً رئيساً في إعادة أسلمة المسلمين من الطبقة العاملة في الضواحي. وهنا، ترى أجهزة الاستخبارات الفرنسية أن هذه الجماعة تشكل تهديداً كبيراً. فعلى الرغم من تصنيفها لجماعة التبليغ باعتبارها حركة غير سياسية، فإنها “تشكل مستودعاً للأفراد المنفصلين تماماً عن المجتمع”.
إن المديرية العامة للأمن الداخلي حذرة بشكل خاص من النفوذ المتزايد لجماعة التبليغ داخل النظام التعليمي الفرنسي. وهناك مخاوف أكثر تحديداً تتعلق بتلقين المراهقين والآباء من قبل مشرفي جماعة التبليغ، وتأثير أئمة الجماعة على تعليم الأطفال، والصعوبات الهائلة التي تواجهها الأسر غير المسلمة (اليهودية في المقام الأول) في تسجيل أطفالها في المؤسسات التعليمية العامة، حيث غالبية الأطفال من المسلمين. وهذا يعكس جزئياً التهديد المحتمل لمعاداة السامية من قبل جماعة التبليغ الذي حددته في وقت سابق وكالات الاستخبارات الألمانية.
ومن بين القضايا الرئيسة الأخرى التي تشغل المديرية العامة للأمن الداخلي، أنه بسبب التماسك القوي بين أعضاء جماعة التبليغ النشطين ـ والذي تعززه الممارسات الدينية، والبعثات التعليمية، والصلوات الحاضرة في كل مكان وغير ذلك ـ تختفي الروابط الاجتماعية بين هؤلاء الأعضاء والمحيط الخارجي بسرعة. والواقع أن العديد من أعضاء جماعة التبليغ يشهدون “تحولاً” داخل الجماعة. وهنا تذكر المديرية العامة للأمن الداخلي أن “الفرد التبليغي، بعد ملاحظة صرامة كبيرة في ممارسته للإسلام، ينتهي به الأمر إلى الابتعاد عن الجماعة. إن ضعف الخطاب الديني الذي تقدمه الجماعة (بناءً على بعض المبادئ الحرفية) والافتقار إلى الآفاق التي يوفرها نشاط الوعظ له تأثير في دفع الأفراد إلى المغادرة إلى “عروض” إسلامية أخرى، وخاصة السلفيين”.
وقد تم تعزيز هذا التقييم من خلال التقارير الصادرة عن لجنة التحقيق حول “تنظيم ووسائل أجهزة الدولة للتعامل مع التهديد الإرهابي المتطور بعد سقوط الدولة الإسلامية” التابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي. ففي تقرير صدر عام 2018، ورد أن جماعة التبليغ – التي توصف بأنها حركة طائفية – يمكن اعتبارها أيضاً مجموعة أصولية بسبب قراءتها الحرفية للقرآن، وهذا على الرغم من ارتباطها بتقليد صوفي يحاربه السلفيون (أحياناً بالسلاح). والواقع أن الأصوليين الإسلاميين [وممثليهم- المنظمات وكذلك الأفراد] لديهم علاقات معقدة ومتضاربة غالباً بسبب تنافسهم على السيطرة على الأراضي أو المجتمعات أو أماكن العبادة. في خطابها الرسمي، تؤكد جماعة التبليغ على اختلافها مع السلفية (التي يُنظر إليها على أنها مدرسة جهل). ويبدو أن الجماعة تنظر إلى نفسها باعتبارها حصناً منيعاً في الحرب ضد السلفية، “لكن العديد من الشباب يكتشفون الإسلام من خلال جماعة التبليغ قبل الانضمام إلى الحركة السلفية، أو حتى المنظمات المتطرفة”.
وفي تقرير مزدوج (2020 أ، 2020 ب) صادر عن نفس لجنة التحقيق التابعة لمجلس الشيوخ، ورد – في إشارة إلى الخبير برنارد روجييه – أنه حتى في حالة عدم وجود تنسيق أو اتفاق بين الجماعات الإسلاموية الأجنبية المختلفة في فرنسا، فإنها تشكل “نظاماً بيئياً إسلاموياً”. ويسلط التقرير الضوء أيضاً على أنه على الرغم من ادعاء جماعة التبليغ بأنها حركة غير سياسية، فإنها “تدافع عن منطق صارم للقطيعة مع المجتمع الفرنسي” و”غالباً ما تمهد الطريق للسلفية”.
من المثير للاهتمام أن نذكر أن الجزء الثاني من التقرير يتحدث عن نوع من التهجين، في إشارة واضحة إلى “النظام البيئي الإسلاموي” المذكور أعلاه. وبشكل أكثر تحديداً، يذكر أن بعض الجهاديين يتلقون تدريباً في البداية من قبل جماعة التبليغ، ثم يتنقلون عبر جماعة الإخوان المسلمين والحركات السلفية. كما يزعم أن جماعة التبليغ تُستخدم باستمرار كبوابة دخول للمنظمات الإسلاموية المذكورة سابقاً. عندما تكون جماعة التبليغ موجودة في مسجد، فهناك فرصة جيدة بشكل خاص أن يحل السلفيون محلهم بعد بضعة أشهر أو سنوات. إنه أمر ميكانيكي تقريباً.
وعلى الرغم من أن الجماعات الإسلاموية المختلفة تتنافس على السيطرة على نسخة الإسلام (المفهومة على أنها أيديولوجية) السائدة في حي أو إقليم أو سجن معين، فإنها مرتبطة ببعضها البعض عندما يتعلق الأمر بتعريف / تمييز نفسها في مواجهة المجتمع الفرنسي. وتشمل الأرضية المشتركة القوية كل هذه المكونات المتنافسة والمتقاربة للإسلاموية، والتي تتقاسم بلا شك نفس الكراهية للعلمانية. وفي هذا السياق، “تدافع جماعة التبليغ بطريقة لاعنفية عن منطق صارم للقطيعة مع مؤسسات المجتمع العالمي”. ويعتقد المراقبون أن جماعة التبليغ تعمل “كأساس للإرهاب الإسلاموي المتطرف”. ووفقاً للتقديرات، “ربما جاء 80 في المائة من المتطرفين الإسلاميين من صفوف التبليغ”، مما دفع ضباط الاستخبارات الفرنسية إلى تسمية الجماعة بـ “غرفة انتظار الأصولية”. ويؤكد الخبير الفرنسي في شؤون الإسلام جيل كيبيل أن جماعة التبليغ تعارض نظرياً العمل العنيف، سواء كان سياسياً أو جهادياً، ومع ذلك، فإن التطرف الديني الذي تروج له يعمل أحياناً كمقدمة، أو حتى كبوابة للإرهاب. ويشير كيبيل – كما تفعل المخابرات الألمانية – إلى تورط جماعة التبليغ بطريقة غير مباشرة في الهجمات الجهادية الإرهابية.
وقد قام عالم فرنسي مشهور يدعى مارك غابوريو بدراسة دقيقة لأنشطة جماعة التبليغ في فرنسا وغيرها من الدول الأوربية. وهو يعتقد أن فلسفة الجماعة وأهدافها العابرة للحدود الوطنية تتضمن منذ البداية “غزو منظم للعالم”. كما يرى أن جماعة التبليغ حركة نضالية، لأنها قادرة على “تنظيم الناس على نحو شبه عسكري”. ويرفض ادعاء الجماعة بأنها حركة سلمية، ويشير إلى أنها لم تدن العنف قط. وعلى هذا، فإن الخبراء يرون أن جماعة التبليغ “وسيلة للانضمام إلى حركات أكثر تطرفاً” في فرنسا، وكذلك في دول أخرى في أوربا وآسيا. ومن الجدير بالذكر أن غابوريو يشير إلى فيليس داسيتو، الذي يصف جماعة التبليغ بأنها “مؤسسة شاملة” ويقارن بينها وبين “الطائفة”، حيث عمل داسيتو على تكييف مفهوم “المؤسسة الشاملة” الذي وضعه إيرفينج جوفمان (1961) مع سياق جماعة التبليغ.
إن “المؤسسة الشاملة” هي “مكان إقامة وعمل حيث يعيش العديد من الأفراد في نفس الوضع، معزولين عن المجتمع الأوسع لفترة زمنية كبيرة، في دائرة مغلقة من الحياة تُدار بشكل منظم وتشمل معظم الأنشطة اليومية”. علاوة على ذلك، اعتبر غابوريو أن استراتيجية الجماعة – وخاصة فيما يتعلق بالسياسة – صعبة الفهم. ومع ذلك، يبدو من الواضح أنها ليست غير سياسية تماماً؛ لأن هدفها في نهاية المطاف هو أسلمة المجتمع. يزعم الباحث الفرنسي أن جماعة التبليغ تمتلك “مفهوماً بعيد النظر للسياسة” يتجاوز “الحدود الضيقة للدول القومية”. ووفقاً لغابوريو، فإن استراتيجية جماعة التبليغ تتمثل في بناء الأفراد والمؤسسات أولاً “والتي يمكن أن تمارس بمرور الوقت نفوذاً سياسياً أكثر ديمومة”. وبالنسبة له، فإن هذا ما يميز حركة التبليغ عن المنظمات الإسلاموية الأخرى التي تمتلك مفهوماً “ضيقاً” و”قصير النظر” للسياسة.