تقييم النوايا التركية بعد سقوط نظام الأسد
خلف الخطوط ـ أنقرة تبدو عازمة على استراتيجية ثنائية لتوحيد سوريا تحت حكم عميلها الإسلامي السُنّي.
في خضم النشوة التي أعقبت الإطاحة بنظام الأسد في دمشق، تم تجاهل الوضع الذي تواجهه الأقليات المسلمة غير العربية وغير السنية في سوريا إلى حد كبير. ولكن حتى مع تركيز وسائل الإعلام العالمية على دمشق وتكهنها بشأن النوايا المستقبلية لوسطاء السلطة الجدد، فإن الحرب في جزء آخر من سوريا لم تنته بعد، ولا تزال الاشتباكات مستمرة.
وتقع المنطقة المقصودة في شمال شرق سوريا، والأطراف المتقاتلة هي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يهيمن عليها الأكراد والمتحالفة مع الولايات المتحدة، والجيش الوطني السوري الإسلامي السني المدعوم من تركيا.
ولكي نفهم طبيعة وديناميكيات الصراع الدائر الآن في شمال سوريا بين هاتين المنظمتين، لا بد أولاً من معالجة عدد من الديناميكيات الأوسع نطاقاً.
ولعل أبرز ما في المشهد، وربما يكون غير واضح بشكل كافٍ، هو أن نهاية 61 عاماً من حكم حزب البعث في سوريا هي، قبل كل شيء، انتصار لرجل واحد. وهذا الرجل ليس زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، على الرغم من أنه من المقرر أن يكون الرئيس الجديد لسوريا. الرجل المقصود هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
لقد ساعد قرار أردوغان برفض التنازل عن جيب صغير في شمال غرب سوريا لنظام الأسد على النمو البطيء للقوى التي ستدمر في نهاية المطاف هذا النظام. وعلى مدى نصف عقد من الزمن، بدا هذا القرار غير قابل للتفسير. فقد تخلى الجميع منذ فترة طويلة عن الحرب الأهلية السورية، على افتراض أنها انتهت.
في هذه الأثناء، وقع الاستراتيجيون الروس، الذين يتسمون في العادة بالدهاء والصبر، في الفخ التركي، آخذين معهم نظامهم السوري العميل. فمن خلال استراتيجيتهم القائمة على “المصالحة” بدلاً من الهجوم المباشر على المناطق التي يسيطر عليها المتمردون السوريون، ساعد الروس [عن غير قصد] على حل مشكلة هؤلاء المتمردين من خلال تضمين بند في اتفاقيات المصالحة ينص على السماح لهم بالاحتفاظ بأسلحتهم والتوجه إلى الجيب الذي تضمنه تركيا في شمال غرب البلاد.
كانت الفكرة الرائجة لدى الجميع أن هؤلاء الرجال سوف يقضون وقتهم في الصلاة والتدريب، ولن يكون لهم أي أهمية على الإطلاق. ولكن كما اتضح، عملت روسيا ونظام الأسد من خلال سياسة “التساهل” هذه على تأجيج النيران التي ستلتهمهم في نهاية المطاف.
ولكن يجب أن نتذكر أن الأتراك سمحوا في جيبهم في شمال غرب سوريا بحضانة ليس جيش واحد، بل جيشين وسلطتين إسلاميتين سنيتين. الأول، هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ السورية التابعة لها، وهي القوة التي زحفت إلى دمشق واستولت على السلطة هناك في ديسمبر/ كانون الأول 2024.
أما المجموعة الثانية، الجيش الوطني السوري وحكومته المؤقتة السورية، فهي من صنع أنقرة بشكل مباشر. وهي تتألف من جماعات إسلامية سنية متمردة في شمال سوريا بخلاف هيئة تحرير الشام، والتي جمعتها تركيا في قوة عسكرية تدربها وتسلحها وتوجهها الاستخبارات التركية.
وهي أقل انضباطاً بكثير من هيئة تحرير الشام، ولها سجل حافل بالعنف ضد السوريين المنتمين إلى أقليات غير عربية أو غير سنية، مثل اغتيال السياسية الكردية البارزة هفرين خلف في عام 2019. ونفذت هذه القوة، بدعم من الجيش التركي، عمليات تطهير عرقي لـ 300 ألف كردي سوري من منطقة عفرين في عام 2018.
ويحتفظ الجيش الوطني السوري بمنظومة سجون خاصة في شمال غرب سوريا، حيث يعدّ التعذيب والإساءة أمراً روتينياً، وقد اختفى فيها آلاف السوريين.
وبالتوازي مع هجوم هيئة تحرير الشام على دمشق، شن الجيش الوطني السوري هجومه الخاص في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. ولم يكن هذا الهجوم موجهاً نحو الجنوب ضد النظام، بل نحو الشرق ضد الأكراد السوريين. وبدعم تركي كامل، اجتاح الجيش الوطني السوري تل رفعت ثم استولى على منبج، ودفع قوات سوريا الديمقراطية إلى خط نهر الفرات. وتخلل تقدمه، كما هو متوقع، جرائم حرب موثقة، بما في ذلك إعدام جنديين جريحين في مستشفى في منبج.
وقد توسطت الولايات المتحدة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار على طول خط النهر، لكن القصف استمر. وتشير التقارير الأخيرة إلى أن قوات سوريا الديمقراطية بدأت في شن هجوم مضاد باتجاه منبج.
وتشير كل الشواهد إلى أن الخطة التركية لسوريا، التي يسيطر عليها الآن عملاؤها [لجهاديون]، تتضمن تدمير قوات سوريا الديمقراطية والسلطة السياسية التي تدافع عنها: الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا. وحتى الآن، هناك دلائل تشير إلى أن هجوماً جديداً كبيراً من قبل الجيش الوطني السوري، بدعم من القوات المسلحة التركية، على بلدة كوباني، قد يكون وشيكاً.
لا شك أن قوات سوريا الديمقراطية ستقاوم بشدة أي غزو عبر نهر الفرات. ولكن مع مشاركة القوة الجوية والمدفعية والطائرات من دون طيار التركية، فإن القتال سيكون دمويًّا، ومن المرجح أن تنجح تركيا. وما قد يتبع ذلك، بالنظر إلى السجل الحالي للجيش الوطني السوري، من المؤكد أنه سيكون تطهيراً عرقياً ومذابح على نطاق واسع.
التركيز على الولايات المتحدة
إن الجبهة الرئيسة لمنع أي توغل من هذا القبيل هي جبهة سياسية وتركز على الولايات المتحدة. فقد قدم السناتوران ليندسي غراهام (جمهوري من ساوث كارولينا) وكريس فان هولين (ديمقراطي من ماريلاند) مشروع قانون ثنائي الحزب الأسبوع الماضي من شأنه أن يفرض عقوبات على تركيا في محاولة لمنع الهجوم على قوات سوريا الديمقراطية شرقي الفرات.
ولكن ليس من الواضح بعد ما إذا كانت هذه التحركات وغيرها من الضغوط ستنجح، إلا أنه بالنظر إلى الصبر الاستراتيجي الذي أظهره الأتراك بالفعل في السياق السوري، يبدو من المرجح أن تتخذ جهودهم لتدمير القوى الكردية الموالية للولايات المتحدة شكلاً سياسياً وليس عسكرياً، في البداية على الأقل.
فقد أعلنت السلطات السورية المؤقتة، الثلاثاء 24 ديسمبر / كانون الأول، التوصل إلى اتفاق لحل جميع الفصائل المسلحة في سوريا، إلا أن المشاورات التي سبقت الاتفاق جرت بالكامل بين الحكومة المؤقتة بقيادة هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري، ولم تتم دعوة قوات سوريا الديمقراطية.
ويبدو أن هذا يشير إلى أن أنقرة عازمة على اتباع استراتيجية ثنائية الجانب من أجل توحيد سوريا تحت حكم عملائها من الإسلاميين السنة. وفي هذه الاستراتيجية، سوف يظل التهديد بالتدخل العسكري المحتمل من جانب تركيا قائماً، في حين من المتوقع أن تعلن قوات سوريا الديمقراطية، في ظل هذا التهديد، عن حل نفسها طواعية أمام حكام سوريا “الموحدة” الجديدة، وإلا فسوف يعبر جيش نظام هيئة تحرير الشام المجهز حديثاً نهر الفرات في نهاية المطاف “لإعادة توحيد” سوريا بوسائل أخرى.
ومن المرجح أن تلقى هذه الاستراتيجية دعماً من أصوات في الغرب توصي بالتجاوب مع المشروع التركي من أجل إبقاء أنقرة “إلى جانبنا”. وسوف يزعم هؤلاء أنه لم يعد هناك أي جدوى من معارضة الإرادة التركية في سوريا، أو دعم القضايا الخاسرة، وما إلى ذلك.
ولكن طالما بقي نحو 2000 جندي أمريكي في شرق سوريا، فإن شن هجوم شامل من جانب تركيا يظل مستحيلاً. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الجيش الوطني السوري ليس قوياً بما يكفي لتحقيق تقدم حاسم ضد قوات سوريا الديمقراطية. لذا، فإن موقف الولايات المتحدة سيكون حاسماً في أيّ “ترتيب” تركي للمشهد السوري الجديد.
الكاتب: جوناثان سباير