تقارير ودراسات

التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لحزب الله: الإمام موسى الصدر والصحوة الشيعية

في المقال الخامس من هذه السلسلة، يحلّل إدوين تران التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لجماعة حزب الله الشيعية اللبنانية. يستكشف وصول رجل الدين الإيراني الإمام موسى الصدر إلى لبنان في الوقت المناسب، وجهوده الرامية إلى توحيد السكان الشيعة في هيئة سياسية أكثر تماسكاً.

لقد تناولنا حتى الآن التقاطع بين مختلف المجموعات المؤثرة في لبنان، وكيف ساعد التفاعل بين السنة والموارنة والفلسطينيين على خلق نظام يفتقر إلى التمثيل السياسي والاقتصادي للشيعة المقيمين في البلاد. فمنذ العقود التي أعقبت الاستقلال في أربعينيات القرن العشرين، وحتى السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، لم يُولَ سوى القليل من الاهتمام لأولئك الذين تأثروا على نطاق واسع بهذه العوامل المتمثلة في الحرمان الاجتماعي والاقتصادي. وكما ذكرنا من قبل، ظلت القيادة المارونية جاهلة عن عمد بالحالة الشيعية، رافضة الاعتراف بمستويات التفاوت التي أدت إلى نشوب الحرب الأهلية في المقام الأول. في الوقت نفسه، فشلت منظمة التحرير الفلسطينية، التي اكتسبت السيطرة على المراكز السكانية ذات الكثافة الديمغرافية الشيعية في أعقاب اتفاق القاهرة عام 1969، في معالجة احتياجات هذه المكونات بالذات، وبدلاً من ذلك، تسببت في تحولهم إلى أضرار جانبية للغارات الجوية الإسرائيلية. أدت هذه الأحداث في نهاية المطاف إلى ظهور قوة جديدة أسست لصحوة شيعية في لبنان على المستوى الاجتماعي والسياسي. وقد جسد هذه القوة رجل واحد، الإمام موسى الصدر، الذي سيصبح في النهاية أحد أكبر المؤثرين على حزب الله، وبالتالي على مصير لبنان.

لقد رأينا بوضوح في عهد الرئيس فؤاد شهاب أنه حاول قيادة تغيير اجتماعي واقتصادي واسع النطاق من موقع الحكومة الوطنية في الخمسينيات. وبينما كان هذا يحدث، بدأت الحركات الشعبية تتجمع أخيراً. وكانت البداية من وصول الإمام موسى الصدر، وهو عضو في عائلة الصدر البارزة (التي لا تزال تحتفظ بنفوذ كبير في العراق في صورة مقتدى الصدر وفصيله الصدري). وقد لاحظ موسى الصدر، وهو رجل دين من إيران درس الفقه الإسلامي في مدينة النجف المقدسة لدى الشيعة، فور دخوله لبنان في عام 1959، أن أحوال الشيعة ـ على الرغم من محاولات الرئيس شهاب الإصلاحية ـ ظلت بائسة ومحرومة. وأشارت التقارير إلى أنه خلال الستينيات، كان أكثر من نصف سكان لبنان يعيشون في فقر، وكان العديد منهم يقيمون في معقل الشيعة في جنوب لبنان. عاش العديد من هؤلاء الأفراد على أجر سنوي ضئيل يبلغ 2500 ليرة لبنانية؛ أي حوالي 800 دولار أمريكي. أصبح موسى الصدر أحد الشخصيات الرئيسية الأولى التي ألقت الضوء على محنة الشيعة، وألقى خطابات عاطفية أظهرت التعاطف والتضامن. لم يمض وقت طويل حتى بدأ عمل الإمام يجتذب جماهير كبيرة من الشيعة العلمانيين والمتدينين. والأهم من ذلك، بدأ الكثيرون ينظرون إلى موسى الصدر بصفته الصوت السياسي الذي افتقده المجتمع الشيعي اللبناني.

ومع نمو قاعدته، سارع موسى الصدر إلى شن حملات إصلاحية متتابعة. وكان من بين أول أعماله إنشاء مؤسسة ست رباب التعليمية في بلدة برج الشمالي في جنوب لبنان. ومن هناك، وسع خدماته التعليمية والخيرية في مختلف أنحاء المنطقة. وفي عام 1967، نظم الصدر شيعة لبنانيين بارزين في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ووجه أهداف المجلس نحو تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الشيعي اللبناني في شكل أموال إغاثة ومساعدات.

وفي نفس العام، زار الإمام العديد من المغتربين الشيعة اللبنانيين في مختلف بلدان غرب إفريقيا الذين استمروا في تقديم التحويلات المالية إلى أفراد أسرهم داخل لبنان. وفي عام 1969، انتُخب الصدر رئيساً للمجلس واستخدم منصبه لتعزيز القضايا الشيعية، مثل تنظيم الإضرابات العمالية الشيعية. ومن بين أعماله الأخرى، كان الإمام يتوسط في حل النزاعات الاجتماعية، وكان يشرف على العديد من محاكم الفقه الجعفري.

وعلى الرغم من أن الإمام موسى الصدر لعب دوراً رئيساً في حشد المجتمع الشيعي، فإن أهميته تبرز بشكل أعمق عند تحليل التأثير الأيديولوجي الذي خلفه على حزب الله. وكان أبرز هذه التأثيرات هو تركيز الإمام على الخدمات الاجتماعية، والصدقات (الزكاة)، والتكامل العميق مع المجتمع المدني. وكان من أهم مساهمات موسى الصدر في هذا الصدد تأسيس حركة المحرومين في عام 1974. وكانت هذه الحركة متجذرة في مكافحة الفقر الاجتماعي والاقتصادي وتوفير تمثيل سياسي أكبر للشيعة. ومع ذلك، هناك نقطة مثيرة للاهتمام تأتي من طريقة اختيار اسم المنظمة. فقد أسس الإمام الصدر هذه الحركة مع الأسقف الكاثوليكي اليوناني غريغور حداد، ولم تكن المنظمة مقيدة بأفكار طائفية بل كانت مفتوحة لجميع الأفراد الذين عانوا من هيمنة الموارنة على الاقتصاد اللبناني. وهذه النقطة بالغة الأهمية يجب وضعها في الاعتبار. ولم تكن العديد من تعاليم الإمام تندرج تحت خطوط طائفية، وعلى الرغم من أن الأفكار الطائفية كانت تحمل في كثير من الأحيان دلالات اقتصادية، فإن موسى الصدر حث على التحلي بالبراجماتية. والواقع أن العديد من شبكات الولاء التي كان الإمام ينتمي إليها كانت تضم عائلات سنية بارزة. وكان لهذا التوجه الأيديولوجي الخاص تداعيات كبرى على التطور الأيديولوجي لحزب الله في وقت لاحق.

وقد أعقب صعود حركة المحرومين ظهور جماعة شقيقة عُرفت باسم أفواج المقاومة اللبنانية أو حركة أمل. وقد عملت هذه الجماعة كجناح عسكري للمحرومين، وتوافد الشيعة اللبنانيون على هذه المنظمة مع اقتراب لبنان من شفا الحرب الأهلية. وكانت حركة أمل ذات أهمية كبيرة لأنها كانت واحدة من أولى الجماعات الرئيسية التي توحد الشيعة اللبنانيين، وكانت بمثابة الموطن الذي أدى إلى ظهور بعض القادة المؤسسين لحزب الله. وكانت هذه الحركة، في ذلك الوقت، تمثل الأمل الذي كان لدى الكثيرين في لبنان أكثر مساواة في ضوء التوترات المتزايدة التي شهدتها البلاد في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية. وعلى الرغم من أن الخلافات الرئيسية بين مختلف أعضاء حركة أمل أدت إلى تشكيل حزب الله، فإن الكثيرين ظلوا يكنون الاحترام لشخصية الإمام. ولعل الخطاب الذي ألقاه نصر الله في عام 2014 يوضح مدى أهمية الإمام موسى الصدر لدى الشيعة في لبنان.

وعلى الرغم من أن الإمام موسى الصدر اختفى في ليبيا عام 1978، فقد أصبح من الواضح للكثيرين أن أيديولوجيته في الخدمة الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي سوف تصبح جزءاً لا يتجزأ من المستقبل. وفي بيئة سياسية مثل الحرب الأهلية اللبنانية، كان انهيار جهاز الدولة الشهابي يعني أن العديد من الناس سوف يضطرون إلى مواصلة بناء الأسس التي وضعها الإمام من أجل توفير احتياجاتهم. والأمر المهم أن وصول الإمام إلى لبنان يعني أن المجتمعات الشيعية لديها الآن ممثل سياسي شرعي. ومع تطور حركة أمل، وصعود حزب الله في المستقبل، لم يعد الشيعة مضطرين إلى الاعتماد على هيمنة المارونيين أو سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية من أجل الحصول على حقوقهم الاجتماعية والسياسية. كان وصول الإمام موسى الصدر يعني أن الصحوة الشيعية يمكن أن تبدأ أخيراً.

في المقال القادم، سوف نتناول ظهور الجهات الفاعلة الأجنبية وتأثيراتها على الحرب الأهلية اللبنانية. وسوف نحلل دور زعماء مثل حافظ الأسد ومناحيم بيغن، والنجاحات التكتيكية والأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبوها. ومن هناك، سوف نتعمق أكثر في المحفز الذي أدى إلى ظهور حزب الله: الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.

 

الرابط:

https://encyclopediageopolitica.com/2018/11/28/a-socioeconomic-history-of-hezbollah-imam-musa-al-sadr-and-the-shiite-awakening/

زر الذهاب إلى الأعلى