التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لحزب الله: سقوط منظمة التحرير الفلسطينية
في المقال الرابع من هذه السلسلة، يحلّل إدوين تران التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لجماعة حزب الله الشيعية اللبنانية. يستكشف القوة المتنامية لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان، وكيف أن الأضرار الجانبية المتكررة الناجمة عن الاشتباكات بين إسرائيل ومنظمة التحرير، وأسلوب الحياة الفاخر لمسؤولي المنظمة، والفشل في تلبية احتياجات السكان الشيعة في لبنان، كل هذا وضع البلاد على مسار رفض نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية.
تناولت هذه السلسلة بإيجاز طبيعة منظمة التحرير الفلسطينية وتأثيرها على الحرب الأهلية اللبنانية وصعود حزب الله. وكما ناقشنا من قبل، من المهم أن نؤكد أنه نتيجة لحربيْ العرب وإسرائيل في عامي 1948 و1967، كان هناك بالفعل عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي اللبنانية. ومع ذلك، حتى ستينيات القرن العشرين، لم يتم دمج هؤلاء اللاجئين في البلاد أو منحهم الجنسية. وكشف تقرير أجرته منظمة العفو الدولية أنه بحلول عام 1950، كان هناك 127.000 لاجئ فلسطيني مسجل لدى الأونروا يقيمون في لبنان، وهو رقم لم يرتفع إلا بعد حربيْ 1967 و1973.
السياق الفلسطيني
إلى جانب التغيرات الديمغرافية التي حملتها موجة اللاجئين الفلسطينيين، كان لحرب 1967 تأثير جذري في تحويل الميول الأيديولوجية للعديد من المواطنين اللبنانيين. فقد تحطمت أحلام القومية العربية، وهي العامل الرئيس في أزمة لبنان عام 1958، بسبب فشل جمال عبد الناصر في الحرب. وكما كانت الحال في معظم أنحاء العالم العربي، بدأ العديد من اللبنانيين في البحث عن دوافع أيديولوجية جديدة للمضي قدماً في ضوء الكارثة. وفي السنوات التي أعقبت حرب 1967 مباشرة، انجذب العديد من اللبنانيين إلى حركة المقاومة التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت هذه الشعبية بارزة بشكل خاص بين طلاب الجامعات، وكان هناك دعم واسع النطاق للمنظمة بين معظم الطوائف الدينية في لبنان، بما في ذلك الموارنة والمسيحيين الأرثوذكس. وبالنسبة إلى هؤلاء الأفراد، مثلت منظمة التحرير الفلسطينية النضال المستمر ضد الهيمنة الإسرائيلية التي أهانت القوات العربية في حربيْ 1948 و1967.
ونتيجة لهذه التحولات السكانية والدعم اللبناني العام، بدأت خلايا منظمة التحرير الفلسطينية تتشكل في بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين داخل لبنان. وبدأت أغلب عمليات هذه الخلايا تركز على منطقة جنوب لبنان، الأمر الذي سمح لأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية بالمشاركة في الغارات والمناوشات الحدودية مع إسرائيل. وبات من الواضح للعديد من الساسة اللبنانيين أن سياستهم المتمثلة في تجاهل القضية الفلسطينية لم تعد مجدية. وقد أثارت عمليات الانتقام الإسرائيلية والانحدار في النظام العام بسبب هؤلاء المسلحين غضب العديد من كبار المسؤولين اللبنانيين. وأدى سنّ اتفاقية القاهرة لعام 1969 إلى إرساء استقلال منظمة التحرير الفلسطينية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، مع منح الدولة اللبنانية السلطة القضائية على العمليات التي تشنها المنظمة. وكان هذا بمثابة الأساس لـ “دولة داخل الدولة” التي دعا إليها ياسر عرفات. وبعد فترة وجيزة، أدت أحداث أيلول الأسود إلى طرد 3000-5000 مقاتل من منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، حيث سيلتقون بزملائهم المسلحين في المناطق الجنوبية من البلاد. ولقد أقام آخرون، ومنهم ياسر عرفات، قاعدة عمليات في العاصمة اللبنانية بيروت. وفي هذه المناطق، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من إقامة دولة شبه مستقلة تدير وتوزع الخدمات الاجتماعية والأمن المحلي وغير ذلك من المهام التي تضطلع بها الدولة، فضلاً عن هجماتها المسلحة ضد إسرائيل.
وعلى الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية حظيت بدعم لبناني واسع النطاق نسبياً خلال السنوات القليلة الأولى بعد عام 1967، فإن السنوات التالية أدت إلى تغييرات جوهرية في المواقف والتصورات. فقد شعر المسيحيون الموارنة، الذين دعم العديد منهم منظمة التحرير، بالفزع إزاء الاستقلال الممنوح للمنظمة نتيجة لاتفاقية القاهرة لعام 1969، وأصبحوا قلقين على أمن مجتمعهم. وأدى وجود الميليشيات الفلسطينية المسلحة داخل بيروت إلى تشكيل القيادات المارونية لمنظمات شبه عسكرية خاصّة بها، مثل قوات الكتائب التنظيمية وميليشيا النمور. واندلعت اشتباكات طفيفة بين القوات الفلسطينية والميليشيات المسيحية في عام 1970. وفي الفترة من عام 1971 إلى عام 1972، أفادت استخبارات الجيش اللبناني أن مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية نفذوا عمليات سطو مسلح وهجمات صاروخية وحتى عمليات قتل ضد المدنيين اللبنانيين.
أضرار جانبية
لقد أدى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، والتي نتجت في نهاية المطاف عن الصراع بين منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المارونية المختلفة، إلى تغييرات كبيرة في الدعم الذي كانت تحظى به منظمة التحرير في البلاد. ففي حين كانت المنطقة بمثابة حاضنة لدعم عمليات المنظمة في السنوات التي سبقت الحرب، فإن توترات الصراع ـ إلى جانب الغارات الإسرائيلية المسلحة ـ بدأت تترك آثارها. وكانت لينا مقدادي قد سافرت إلى جنوب لبنان في عام 1978 وشهدت مثل هذه المذابح والدمار. وفي مذكراتها، نقلت أنها “بالكاد تعرفت على المكان”، مشيرة إلى الشقق المهجورة والهجرة النسبية للسكان من المنطقة. كما أشارت مقدادي إلى أن الغارات الإسرائيلية والقتال المتقطع أسفرت عن “فرار الآلاف من اللبنانيين الجنوبيين شمالاً إلى بيروت. وسرعان ما احتلّ اللاجئون الشقق الفارغة، التي سافر أصحابها إلى الخارج أثناء الحرب الأهلية”. وكان هناك شعور متزايد بالتوتر بين منظمة التحرير الفلسطينية والشيعة اللبنانيين بسبب حوادث مثل هذه.
في الواقع، بدأ العديد من الناس في إلقاء اللوم على منظمة التحرير الفلسطينية في تدمير منازلهم وأسرهم؛ وكان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت هو أن المنظمة الفلسطينية جرّت جنوب لبنان إلى صراع مع إسرائيل رغماً عنه ودون تشاور. وأصبح من الواضح للعديد من الناس أن وجود منظمة التحرير الفلسطينية في المنطقة أدى إلى “سقوط ضحايا مدنيين وإلحاق أضرار بالممتلكات مما أدى إلى تفاقم الظروف الاجتماعية والاقتصادية على الحدود الجنوبية”. وقد أبرز الصحافي توماس فريدمان هذه النقاط، حيث روى تجاربه في تغطية الحرب الأهلية اللبنانية في مذكراته “من بيروت إلى القدس”. وقد وقعت حادثة معينة في أوائل الثمانينيات، عندما “قصفت الطائرات الإسرائيلية حي الفاكهاني، حيث احتفظت منظمة التحرير الفلسطينية بمقرها السياسي والعسكري في مكان ما تحت المباني السكنية متعددة الطوابق”. وقد أصابت قنبلة إسرائيلية أحد المنازل مباشرة، مما أسفر عن مقتل أربعة أطفال من بين العديد من اللبنانيين الذين كانوا يعيشون هناك.
ولقد كان الحدث الآخر يتعلق بتفجير أدى إلى تدمير منزل صديق فريدمان محمد قصراوي، الذي فقد ابنتيه وزوجته. وقد تبين أن سبب الهجوم كان نزاعاً بين “عشائر فلسطينية… دخلت في قتال”، وأن حقيقة أن “كل عائلة كانت مرتبطة بفصيل مختلف من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية” تعني أن “العشيرة التي خسرت… تلجأ إلى مجموعتها في منظمة التحرير الفلسطينية وتطلب من شخص ما إحضار بعض المتفجرات البلاستيكية… [لـ] تفجير المبنى بأكمله”. ولم يكن لعائلة محمد قصراوي أي علاقة بالنزاع. لقد كان مع أسرته مجرد ضحايا جانبيين تواجدوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. وكان الموضوع المشترك الوحيد الذي يربط بين هذه الأحداث هو تورط منظمة التحرير الفلسطينية.
وتسلط مثل هذه الحوادث الضوء على الآثار السلبية التي خلفتها عمليات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وتكشف نظرة سريعة على أرشيفات الأخبار عن وفرة من الأمثلة المماثلة، وقد عانت صورة المنظمة الفلسطينية بين الشعب اللبناني نتيجة لذلك. وعلى الرغم من أن المنظمة حافظت على الدعم خلال الأيام الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، فإن هذا الدعم كان يتضاءل بسرعة في ضوء تزايد الموت والدمار والعوز.
ملوك بين الأنقاض
لعبت عوامل أخرى دوراً في تراجع الدعم الذي تحظى به منظمة التحرير الفلسطينية بين المواطنين اللبنانيين. فقد تفاقم الشعور المتزايد بالانقسام بسبب تمازج الفساد والتفاوت الاقتصادي التي ظهرت بين مسؤولي المنظمة وسكان جنوب لبنان بشكل عام. ومن بين الحالات الخاصة حالة زعيم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية زهير محسن، الذي وصفه توماس فريدمان بأنه “ثوري من خلف الكواليس… معروف في بيروت باسم السيد السجاد، بسبب كل السجاد الفارسي الذي سرقه هو ورجاله أثناء الحرب الأهلية اللبنانية”. وعلى الرغم من اندلاع الحرب المستمرة في مختلف أنحاء البلاد، فقد أقام محسن في “شقة يملكها في كورنيش لا كوريسيت الشهير في كان، وهو ربما أغلى منطقة عقارية في الريفيرا الفرنسية”.
كان رئيس جهاز الاستخبارات في عهد ياسر عرفات، وهو رجل يُدعى عطا الله محمد عطا الله، أو أبو الزعيم، معروفاً بأنه “يعيش في شقة فخمة في غرب بيروت… كان لديه شقة ضخمة مغطاة بالمرايا، وشقة أخرى لحراسه الشخصيين العشرين”. وهذا يتناقض مع مستويات المعيشة البئيسة للعديد من المواطنين الذين يقعون تحت سلطة منظمة التحرير الفلسطينية. ففي حين عاش أفراد مثل أبو الزعيم وزهير محسن في رفاهية نسبية، اضطر آخرون إلى الإقامة في شقق مهجورة وتحت التهديد المستمر للغارات الجوية الإسرائيلية. ولم تغب مثل هذه المفارقات عن السكان غير الفلسطينيين في جنوب لبنان، ونتيجة لذلك كان الاستياء عميقاً.
وعلى الرغم من نجاح عرفات في تقديم الخدمات الاجتماعية للفلسطينيين الفقراء، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى العديد من الشيعة اللبنانيين. فقد أشارت مي عريضة، وهي ناشطة ثقافية ومن مؤسسي مسرح مهرجانات بعلبك في عام 1968، إلى أن “الجنوب كان محروماً من كل شيء… فالنساء [يغسلن] ملابسهن ويشربن من نفس حوض الماء. وفي المدارس كان الأطفال يكتظون بما يتراوح بين خمسة وثلاثين وأربعين طالباً في فصل دراسي صغير؛ وكانت ظروف العمل في المصانع مروعة”. وفي استجابة لهذا الافتقار إلى الخدمات الاجتماعية، ساعدت عريضة على إنشاء لجنة لمشاريع الخدمة المدنية مثل حفر قنوات الري. وتزامن هذا مع تطور حركة المحرومين التي أسسها الإمام موسى الصدر، وهي حركة شيعية اجتماعية إصلاحية. وفي الحالات التي عجزت منظمة التحرير الفلسطينية عن توفير الخدمات، اضطر الشيعة في جنوب لبنان إلى تولي الأمر بأنفسهم.
أمة منقسمة
من الطريف أن العديد من التصريحات التي أدلت بها القيادات المارونية كانت جاهلة أو متجاهلة لمحنة الشيعة، ولكنها كانت إلى حد ما محقة بشأن الديناميكيات المتغيرة التي كانت تربط المواطنين اللبنانيين بمنظمة التحرير الفلسطينية. ففي مختلف أنحاء لبنان، كان هناك استياء متزايد من الطريقة التي تصرفت بها المنظمة الفلسطينية. وفي حالة الشيعة اللبنانيين، كان انفصال الموارنة والابتعاد المتزايد عن منظمة التحرير يعني أنهم سيضطرون الآن إلى الانطلاق في مسارهم الخاص. وعلى الرغم من أن العديد من الشيعة أيدوا منظمة التحرير الفلسطينية في موقفها الثوري، وكانوا، لبعض الوقت، يقدرون التمثيل السياسي الذي تلقوه ضمناً من خلال وجودهم داخل قاعدة عملياتها، فإن سنوات من الأضرار الجانبية والأعمال الفاسدة أسفرت عن خيبة أمل هائلة.
في خضم الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، أشارت التقارير إلى أن جنوب لبنان كان على استعداد للتخلص من قيود منظمة التحرير الفلسطينية. وفي المقال التالي من هذه السلسلة، سوف ندرس التيارات الكامنة وراء الانتفاضة الشيعية، وظهور الإمام موسى الصدر، وبداية التدخل الإسرائيلي عام 1982.
الرابط: