التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لحزب الله: الطريق إلى الحرب الأهلية
في المقال الثاني من هذه السلسلة، يحلّل إدوين تران التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لجماعة حزب الله الشيعية اللبنانية. فمن نهاية الحكم الفرنسي في حرائق عام 1943، إلى ظهور شبه دولة فلسطينية في جنوب لبنان، نستكشف محاولات الإصلاح التي قامت بها إدارة شهاب، وكيف ساعد فشلها النهائي على تعبئة برميل البارود الذي انفجر في النهاية في حرب أهلية.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 1943، أعلن لبنان رسمياً استقلاله عن فرنسا. وأجبرت ضغوط الحرب العالمية الثانية واضطراباتها إدارة فرنسا الحرة على إعادة العمل بالدستور اللبناني رسمياً والسماح للمواطنين اللبنانيين بالمشاركة في الانتخابات دون عوائق. وخرج الآلاف إلى الشوارع وانطلقت الاحتفالات في ساحة الشهداء ببيروت، وهو الموقع الذي كان بمثابة النقطة المحورية لحركة الاستقلال اللبنانية لعقود من الزمن. وشهدت الانتخابات التي تلت ذلك ظهور الماروني بشارة الخوري في منصب الرئاسة والسني رياض الصلح في منصب رئيس الوزراء.
تسوية بيروت
لقد توصل الزعيمان، بالاشتراك مع شخصيات رئيسة تمثل الطوائف الأخرى في لبنان، إلى تسوية حاسمة من شأنها أن تحكم البلاد لعقود قادمة. فبالتزامن مع الدستور اللبناني، تم تأسيس الميثاق الوطني كاتفاق غير مكتوب ينص على ما يلي: أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً دائماً، وأن يكون رئيس الوزراء سنّياً دائماً، وأن يكون رئيس مجلس النواب شيعياً، وأن يتم توزيع المناصب الأخرى على الطوائف الدينية الأخرى وفقاً لذلك. وعلى الرغم من أن هذا الميثاق ضمن قدراً من التمثيل لجميع الطوائف الدينية في لبنان، فقد كان له تأثير مضاعف في تعميق الانقسامات الطائفية. فالصلاحيات العديدة الممنوحة للرئيس ورئيس الوزراء تعني أن الموارنة والسُنّة سيستمرون في الهيمنة السياسية، الأمر الذي أثار استياء الجماعات الدينية الأخرى في لبنان. تجدر الإشارة إلى أن الميثاق الوطني كان يعتمد على التعداد السكاني الفرنسي للبنان الذي أجري عام 1932، ولم يتم إجراء تعداد آخر منذ ذلك الوقت بسبب المخاوف من الفوضى السياسية في حال لم تعكس التغييرات السكانية التوزيع الحالي للمناصب السياسية.
في السنوات التالية، استمر تهميش الشيعة اقتصادياً وسياسياً، على الرغم من التوافقات التي تم التوصل إليها في الميثاق الوطني. وكشفت الدراسات أنه على الرغم من هذه الجهود المساواتية على ما يبدو، حافظ الشيعة على معدل أمية بلغ 68.9٪، في حين بلغت المشاركة السياسية في المناصب المدنية 3.2٪ فقط من المجتمع الشيعي بأكمله. وعلى الرغم من تمثيل الشيعة 18٪ من إجمالي سكان لبنان بحلول عام 1955، فإن المشاركة السياسية للشيعة لم ترتفع إلا إلى 3.6٪. اتسمت إدارات الرئيسين بشارة الخوري (حكم 1943-1952) وكميل شمعون (حكم 1952-1958) بعدم الاهتمام بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وكان هناك القليل من التركيز على إنشاء البنية التحتية الأساسية. لقد أصبح من الواضح أن الكثير من السياسات التي روجت لها الدولة اللبنانية في سنوات ما بعد الاستقلال كانت “تهدف إلى الحفاظ على مكانة لبنان كوسيط مالي رئيس بين العالم العربي وأوروبا”، وبالتالي استمرار الهيمنة الاقتصادية المارونية على لبنان.
هجرة الشيعة
نتيجة لهذا، تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكثير من سكان المناطق الريفية في جنوب لبنان. ونتيجة لعدم الاهتمام السياسي، أصبح العديد من المزارعين غير قادرين على العيش من أراضيهم. وأجبرت سياسات الريع العديد من الشيعة على العمل كمزارعين لدى كبار ملاك الأراضي. وأجبر استمرار هيمنة الزعماء إلى جانب اللامبالاة المتزايدة من جانب القيادة السياسية العديد من الشيعة على البحث عن بديل في أماكن أخرى. ولجأ العديد منهم إلى العمل الأجنبي في أماكن مثل نيجيريا والسنغال، حيث أصبحت التحويلات المالية حاسمة لسبل عيش عائلات العديد منهم في الوطن. وانتقل آخرون إلى المراكز الحضرية، وخاصة في جنوب بيروت، للبحث عن عمل. وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 100 ألف شيعي غادروا الجنوب الزراعي للبحث عن عمل في المناطق الحضرية. وعلى الرغم من وعود الإصلاح والثورة التي جاءت مع الاستقلال، ظل الشيعة في جنوب لبنان خاضعين لهيمنة كبار ملاك الأراضي، وواجهوا ظروفاً اجتماعية واقتصادية قاسية، وافتقروا إلى أيّ قدر عملي من التمثيل السياسي لبدء التغيير الحقيقي.
في عام 1958، ضربت الكارثة لبنان. فقد اندلعت مزاعم التزوير الانتخابي والسخط الإسلامي العام في صراع كان بمثابة مقدمة للحرب الأهلية عام 1975. وكان الكثير من هذا مستمدًّا من الغضب القومي العربي في أعقاب الصدامات السياسية بين الرئيس اللبناني كميل شمعون والرئيس المصري جمال عبد الناصر. ولم ينته الصراع الأهلي عام 1958 إلا عندما استدعى الرئيس شمعون القوات الأمريكية لقمع الانتفاضة. وفي أعقاب أزمة لبنان عام 1958، انتُخب فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني، رئيساً للبلاد. وقد حظي شهاب بدعم فوري من المسلمين والمسيحيين على حد سواء لقراره عدم استخدام الجيش اللبناني في الصراع. وكان ظهور الرئيس شهاب أشبه بثورة اجتماعية واقتصادية شاملة للبلاد لا يزال تأثيرها محسوساً حتى يومنا هذا.
إصلاحات شهاب
عند توليه منصبه، أدرك فؤاد شهاب العديد من القضايا الرئيسة التي تم تجاهلها في ظل نظامي بشارة الخوري وكميل شمعون. لاحظ الرئيس شهاب على الفور الحاجة إلى تخفيف التوترات التي استمرت بين المسلمين والمسيحيين في أعقاب أزمة عام 1958. وردّاً على ذلك، أطلق برنامجاً شاملاً مليئاً بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، والتي استهدف الكثير منها السكان الشيعة في لبنان. تم قبول المزيد من المسلمين في مناصب أعلى في الإدارة، في حين تم توسيع أنظمة الرعاية الاجتماعية بشكل كبير. في الواقع، كشفت الدراسات عن أن مشاركة الشيعة في وظائف الخدمة المدنية زادت من 3٪ إلى 22٪. تم توجيه غالبية إصلاحات البنية التحتية إلى جنوب لبنان من أجل مساعدة الشيعة المضطهدين. كانت المستشفيات الريفية، وتحسين الطرق، وإنشاء صندوق الضمان الاجتماعي الوطني، كلها جوانب من هذه الإصلاحات التي تأسست في عهد الرئيس شهاب. ولعل الأكثر أهمية هو أنه من خلال تركيز السلطة في لبنان في أيدي الحكومة الوطنية، تم تقييد سلطة ونفوذ الزعماء السياسيين إلى حد كبير. وعلى الرغم من كونه مسيحياً مارونياً، كانت سياسات شهاب تهدف إلى التأثير على المواطنين اللبنانيين من جميع الطوائف وعلى جميع الجبهات.
ولكن إصلاحات الرئيس شهاب لم تحظ بإشادة عامة، وكانت هناك بعض القضايا التي لم يتم تنفيذها بكفاءة. فقد اعتبر بعض قطاعات السكان تصرفات شهاب نخبوية ولم يكن هناك سوى القليل من الدعم الشعبي لها. واقترن هذا بقضايا مثل “الفساد داخل الإدارة الحكومية”، وعدم الكفاءة البيروقراطية، والافتقار إلى المعرفة في تنفيذ الإصلاحات على المستوى المحلي. ولعل الأمر الأكثر إحباطاً للمعلقين كان عجز شهاب عن كبح الولاءات الطائفية في لبنان بشكل كامل. وفي حين أنه أعلن أن هدف إصلاحاته كان “تجميع كل اللبنانيين في مجتمع واحد يقوم على الوحدة الوطنية … وتكوين شعب متماسك ومخلص للبنان”، إلا أن النتيجة كانت بعيدة كل البعد عن ذلك. ففي خضم هذه الإصلاحات، كانت هناك زيادة في “أعمال اللصوصية والبلطجة والسرقة والنهب والسلب”، وغيرها من الأعمال غير القانونية. وقد سلطت محاولة الانقلاب التي قام بها الحزب القومي الاجتماعي السوري في عام 1961، وهو التنظيم الذي سعى إلى إعادة توحيد لبنان مع سوريا، الضوء على الأسس الطائفية في عصر الإصلاح في لبنان. ونتيجة لهذه المحاولة، أصبح الرئيس شهاب يعتمد على القوة العسكرية وأجهزة الأمن للحفاظ على النظام، وهو التصرف الذي أدى فقط إلى زيادة الانتقادات. وعلى الرغم من أن التأثيرات الطائفية ربما لم تتبدد، فإن العديد من إصلاحات شهاب سلطت الضوء على الأقل على محاولة مباشرة لفهم وحل الانقسامات في لبنان.
دخول عرفات
ولكن النسيج الاجتماعي والاقتصادي في لبنان تغير جذريّاً في أعقاب حرب 1967 العربية الإسرائيلية. وكان تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى البلاد في أعقاب الحرب ليتوَّج بتوقيع اتفاق القاهرة عام 1969 بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والجنرال اللبناني إميل بستاني. وقد تقرر أن تمنح الحكومة اللبنانية منظمة التحرير الفلسطينية استقلالية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مقابل خضوعها للسلطة اللبنانية فيما يتصل بالعمليات العسكرية التي تشنها المنظمة. وفي الوقت نفسه، كان من المقرر أن ينشئ ياسر عرفات قاعدة عمليات في العاصمة اللبنانية بيروت. وفي هذه المناطق، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من إقامة شبه دولة خاصة بها، وكانت مسؤولة عن الخدمات الاجتماعية والأمن المحلي وغير ذلك من المهام التي تضطلع بها الدولة، فضلاً عن هجماتها المسلحة ضد إسرائيل.
وقد تمكن ياسر عرفات من “بناء محفظة استثمارية بمليارات الدولارات [التي دعمت]… مدفوعات الرعاية الاجتماعية، والمنح الدراسية… والرعاية الصحية، والبرامج التعليمية… ورواتب الموظفين والمقاتلين… الأمر الذي جعل ما يصل إلى 60 ألف أسرة فلسطينية تعتمد بشكل مباشر على عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية في استقرارها الاقتصادي”. ومن الأمثلة المحددة على هذه الخدمات جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، التي قدمت الخدمات الطبية والرعاية الصحية، والصندوق الوطني الفلسطيني، الذي قدم القروض والمساعدات النقدية. ولكن على الرغم من حقيقة أن عرفات كان يسيطر على مناطق ذات تنوع طائفي كبير، فإن العديد من الخدمات التي قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية كانت تركز في المقام الأول على الفلسطينيين، وليس الشيعة أو غيرهم من الجماعات. وعلى الرغم من أن أفراداً من جميع الطوائف والمذاهب فقدوا أرواحهم أو منازلهم بسبب الضربات الانتقامية الإسرائيلية، فإن منظمة التحرير الفلسطينية كانت مهتمة في المقام الأول بالفلسطينيين دون غيرهم.
وقد تزامن هذا التركيز الاقتصادي على الشعب الفلسطيني مع حقيقة مفادها أن إصلاحات الرئيس شهاب لم تحقق الكثير في التخفيف طويل الأجل من المحنة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الشيعي اللبناني. وكان نظام الرئيس سليمان فرنجية (حكم من 1970 إلى 1976) إيذاناً بنهاية عصر الإصلاح في عهد الرئيس شهاب والعودة إلى النظام الذي يهيمن عليه الموارنة والذي ميز لبنان في العقود السابقة. واستمر الشيعة في العيش في فقر وعوز. وكان كثيرون يعرّفون جنوب بيروت، الذي غمرته فيضانات المهاجرين الشيعة، بأنه حزام فقر. وفي الوقت نفسه، واجه جنوب لبنان تحديات اقتصادية كبرى، حيث انخفضت الزراعة، وهي أكبر حصة من الناتج الاقتصادي للمنطقة، من 19.7٪ من الناتج الاقتصادي للبنان إلى 9.2٪ فقط بحلول عام 1970. ومن حيث الخدمات الاجتماعية، كانت هناك فجوة واضحة أيضاً. وعلى الرغم من إصلاحات شهاب وتدخل منظمة التحرير الفلسطينية، لم يشهد منتصف السبعينيات سوى ثمانية وثلاثين جمعية خدمات اجتماعية للشيعة، مقابل ستة وستين وسبعين جمعية للسنة والموارنة على التوالي.
أمة منقسمة
كان التوتر يتصاعد بشكل واضح في دولة لبنان. فقد أصبح الموارنة قلقين بشكل متزايد إزاء الصعود المتنامي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان العديد منهم يشعرون بالريبة والانزعاج إزاء شبه الدولة التي أنشأها ياسر عرفات، وكانوا غير راغبين في خسارة موطئ قدمهم في البلاد. في الوقت نفسه، كان السنة والشيعة قد وصلوا أخيراً إلى نقطة الانهيار بعد ما يقرب من خمسين عاماً من الهيمنة المارونية. فقد اجتمع العديد من السنة حول الأيديولوجية اليسارية التي تبناها الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، وإن لم تكن هذه الجبهة موحدة تماماً. والواقع أنه في حين اجتمع السنة والشيعة حول قضايا متشابهة، ظلت هناك اختلافات جغرافية واجتماعية واقتصادية عملت على تعزيز درجة من الاغتراب بين الطائفتين. ومع بدء كل جانب في تشكيل قوات شبه عسكرية خاصة به، ومع بدء التوتر في التراكم على كافة الجبهات، أصبح من المرجح أن لبنان سوف يتجه نحو الحرب الأهلية. وبحلول ربيع عام 1975، أصبح من الواضح أن كل فصيل داخل لبنان كان مسلحاً ومستعداً لاندلاع القتال.
في الجزء التالي من هذه السلسلة، سوف نتناول اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وانهيار جهاز الدولة، والانحدار الاجتماعي والاقتصادي المتزايد للمجتمعات الشيعية في لبنان.
الرابط: