رحلة التحول إلى التطرف في إفريقيا: مسارات التجنيد وفك الارتباط
أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقريرا باللغة الإنجليزية يحمل عنوان: “رحلة التحول إلى التطرف في أفريقيا: مسارات التجنيد وفك الارتباط“، يلقي الضوء على رحلة التطرف، ومسالكها، ونهاياتها، ويتأسس على نتائج تقرير سابق صدر عام 2017 عن المؤسسة نفسها، عنوانه رحلة التحول إلى التطرف في أفريقيا: الدوافع والحوافز ونقاط التحول التي تدفع للتجنيد.
يندرج التقرير الحالي ضمن سلسلة يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول ظاهرة التطرف، تبحث في الجماعات المتطرفة في أفريقيا جنوب الصحراء، وظروف نشأتها، وانتشارها، وأسسها الفكرية والسياسية، وتقترح سبل التدخل لمواجهتها وتجفيف منابعها المالية والاجتماعية والثقافية.
أهميته
تكتسي هذه التقارير التي يصدرها البرنامج، أهميتها من كون قلب القارة الإفريقية أصبح البؤرة العالمية الجديدة للتطرف العنيف، وما زال يستقطب أعدادا متزايدة من المنخرطين، ويزداد توسعا؛ ففي الوقت الذي انحسر فيه التطرف العنيف في عدة مناطق، تضاعفت وتيرة الهجمات الإرهابية في إفريقيا جنوب الصحراء منذ 2016، وذهب ضحيتها أزيد من ثمانية عشر ألف مواطن. نصف عدد الضحايا ينتمي لأربع دول فقط، وهي الصومال، بوركينا فاسو، والنيجر، ومالي. والمؤسف أن تظافر أسباب شتى كوباء كوفيد، وقضايا التغير المناخي، وحرب أوكرانيا، صرف النظر العالمي عن معاناة إفريقيا جنوب الصحراء مع التطرف العنيف، على الرغم من خطورة الظاهرة التي تؤثر سلبًا على الحياة والأمن والسلام، وتهدد أيضا بتقويض مكاسب التنمية التي تحققت بجهد شاق، والتي هي من حق الأجيال القادمة، على حد تعبير التقرير.
البحث
المؤلفة الرئيسة للتقرير هي “نيرينا كيبلاغات”، التي تشغل منصب رئيسة الفريق الفني لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي المعني بالحد من التطرف العنيف في أفريقيا، هي التي ترأست فريق البحث.
توسل البحث بالمقابلات الشخصية التي أجريت ما بين عامي 2021 و2022، مكنت الباحثين من استطلاع آراء 2200 من مواطني ثمانية بلدان في إفريقيا جنوب الصحراء، وهي بوركينا فاسو وتشاد والسودان والصومال والكاميرون ومالي والنيجر ونيجيريا. 1200 من المبحوثين كانوا أعضاء في تنظيمات عنيفة، خصوصا بوكو حرام، حركة الشباب، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بتنظيم القاعدة. انضموا إليها طوعا أو كرها، ما مكن الباحثين من استكشاف مسارات اعتزال التطرف العنيف، وتحديد أسباب جاذبية التطرف، وكذا أسباب الخيبة التي دفعت هؤلاء “التائبين” إلى الانسحاب من التنظيمات العنيفة، وفك ارتباطهم بها.
كما يقدم التقرير كذلك بيانات مصنفة بحسب النوع الاجتماعي تساعد على فهم ديناميات الانضمام إلى جماعات التطرف العنيف. من منظور المرأة، والشباب، وغيرهم.
النتائج
تضمنت الصفحة 67 مبيانا بنتائج التحقيق، محددة أسباب الانخراط في الجماعات المتطرفة في المنطقة المبحوثة في ما يلي:
25 % سعوا إلى الانضمام طلبا لفرصة عمل، وهذا العامل مرتبط بالفقر متعدد الأبعاد؛
22 % اقتدوا طوعا أو كرها بأفراد من أسرهم كالأزواج، وأصدقاء سبقوهم في الانضمام؛
17 % انخرطوا في التنظيم لأسباب دينية؛
12 % انخرطوا في أن يكونوا جزءاً من مشروع كبير؛
6 % انضموا تأثرا بكلام زعيمهم الديني وتصديقا له؛
5 % انخرطوا في التنظيم؛ لأنهم آمنوا بأفكار الجماعة السياسية؛
5 % انتسبوا للتنظيم بحثا عن المغامرة؛
4 % انضموا اقتناعا بأفكار الجماعة المتعلقة بالعرق؛
2 % انضموا بناءً على نصيحة المعلم؛
2 % انضموا بحثاً عن الأمن والأمان.
السبب الاقتصادي
المفاجأة هي أن تربع فرصة العمل على قائمة الأسباب في هذا التقرير، إذ أفاد ربع المجندين الطوعيين أن البطالة وغياب فرص العمل هو السبب الرئيس الذي دفعهم للالتحاق بتنظيمات متطرفة، بزيادة قدرها 92 بالمائة مقارنة بدراسة مماثلة أجريت في 2017، حيث احتلت المعتقدات الدينية الصدارة في أسباب التطرف.
هذا العامل الاقتصادي تفاقم خلال السنوات الأربع الأخيرة، بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية الداخلية المطبوعة بالتوترات السياسية والصراعات الداخلية، عمقت العزلة الجغرافية والخدمية لمناطق الهامش، استغلتها الجماعات المتطرفة، فتمكنت من تقوية جيشها باستقطاب العديد من العناصر المفعمة بالمشاعر العدائية تجاه دولها التي فشلت في تحقيق تنمية عادلة، وتوفير فرص الحياة الآمنة اقتصاديا واجتماعيا. إن الجماعات المتطرفة التي تجد في أحزمة الفقر تربة خصبة لأفكارها ومعتقداتها.
ضغط الأقران
وفقاً للتقرير، فإن ضغط الأقران من أفراد الأسرة أو الأصدقاء، يعد العامل القوي الثاني الأكثر شيوعاً للتجنيد ضمن خلايا التطرف، وهذا العامل يهم النساء اللواتي يخضعن لأزواجهن، ويلحقن بهم في التنظيم، أو الشباب الذين انجروا نحو التنظيم بتشجيع من أصدقائهم، أو عن طريق شبكات الاتصال الاجتماعي، وكذا التلاميذ بناء على نصح معلميهم.
العامل الديني
المفاجأة المثيرة التي كشف عنها التقرير، هي تراجع التأثير الديني على الانخراط في التنظيمات العنيفة، حيث جاء الدين في المرتبة الثالثة بنسبة 17 في المائة بين دوافع الانضمام، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 57 في المائة عن نتائج الدراسة السابقة، مقارنة بالعام 2017 حين كان يشكّل 40 بالمائة؛ كما أقر أغلبية المجندين بمحدودية إلمامهم بالنصوص الدينية.
والأكثر إثارة هو أن التقرير كشف على حقائق مهمة جدا، منها أن نسبة 80 بالمائة من المنخرطين في التنظيمات الإرهابية لم يشعروا أبدا بأن الدين كان مهددا، كما كشف عن ضعف معرفتهم بالدين، فحوالي نصفهم لم يقرأ القرآن، وجل الذين قرأوا القرآن صرحوا بأنهم لم يفهموه.
عوامل ثقافية وتربوية
تتعزز الأسباب الاقتصادية والعقائدية بعوامل التنشئة والتعليم التي خضع لها الأفراد؛ فقد ثبت أن التنشئة الأسرية التي تعتمد الشدة والعنف في تربية الأطفال، يحتمل أن تكون سببا في ميل الأشخاص نحو العنف، واستعدادهم لقبول أفكار التطرف العنيف الذي تتبناه الجماعات الإرهابية.
والأدهى أن بعض الثقافات الإفريقية، تعد الشدة والقسوة من صفات الرجولة، ما يجعل العنف يرتبط بالهوية الذكورية والقوالب النمطية، ومن التوقعات الاجتماعية والثقافية بناء على النوع الاجتماعي، خاصة وأن بعض التنظيمات الإرهابية توفر النساء لتقديم الخدمات الجنسية لمنخرطيها لإثبات رجولتهم (ص74).
ونفس الشيء يمكن أن ينسحب على التعليم المدرسي الذي يعتمد طرائق سلطوية وأساليب تلقينية، ويغيب فيها الحوار والتفكير العقلاني، فإنها ربما تدعم اقتناع المتعلم بالفكر المتطرف. في حين كان من المفروض أن يلعب التعليم دورا وقائيا، يحمي المتعلم من الانجراف نحو التطرف.
الانتهاكات تقدح الزناد
إن العوامل السابقة تظل مجرد أسباب، قد لا تكون دافعا قويا للإرهاب؛ لأن المجتمعات المحلية تضم دوما فقراء، ومتشددين دينيين، ومتعلمين عانوا الأمرين بسبب قسوة معلميهم، لكنهم، على الرغم من توفر هذه الأسباب، فقد نأوا بأنفسهم عن الإرهاب، ولم ينخرطوا فيه، فالانجرار وراء تيار الإرهاب يتطلب حوافز أخرى.
فالمحفز القوي للانخراط في التنظيمات الإرهابية الأكثر شيوعا لدى المتطرفين هو تعرضهم لانتهاكات تتعلق بحقوقهم الإنسانية من قبل قوات أمن حكومية؛ إذ ذكر ما يقرب من نصف المستجوبين أن في حياة أكثر المنخرطين حدثا معينا مؤلما كان نقطة تحول في حياتهم، وبمثابة الشرارة التي دفعتهم إلى الانخراط في التنظيمات العنيفة.
ففي ظل الظروف السياسية المتوترة، المطبوعة بعدم الاستقرار، وغياب الأمن، والفقر، تبرز ردود الفعل الاحتجاجية الفردية أو الجماعية. تقابلها في الغالب قوات الأمن في بعض هذه الدول بعنف زائد، وتعسف شديد، يؤدي إلى زيادة رفض الدولة وسلطاتها، ويدفع الشباب إلى الانخراط في الجماعات المتطرفة، بحثاً عن خلاصه، وانتقاما من جبروت الدولة ومؤسساتها الأمنية. فيرتمي الشباب في حلقات التقتيل والإرهاب والموت والمطاردة.
العلاج
إن الكلفة الاقتصادية للإرهاب في أفريقيا عالية جدا، فقد بلغت نحو 97 مليار دولار أمريكي سنوياً في عشر سنين فقط، ما بين 2007 و2016.
هذه المليارات التي حرمت منها جهود التنمية في المنطقة، استفاد منها الإرهابيون حتما، وما زال أتون التطرف والإرهاب يحرق المزيد من الأموال، والمزيد من الشباب، ويدمر المزيد من المجتمعات وخطط التنمية.
والأمر لن يقف عند هذا الحد؛ لأن الإرهاب فكرة والفكرة عابرة للحدود، ما يعني مزيداً من الانتشار في ربوع العالم؛ فاللافت أن هذا التطرف العنيف أخذ في الانتقال عبر الحدود مثل موزمبيق، والأمر يهدد مكاسب التنمية التي تحققت بشق الأنفس، والتي هي من حق الأجيال المقبلة.
لمحاصرة التطرف العنيف، ينبغي دعم وتعزيز قدرة الأشخاص على فك ارتباطهم بالتنظيمات الإرهابية، ويتحرروا من أسرها، حتى ينفرط عقدها؛ فكثير من المخدوعين الذين انخرطوا في التنظيمات العنيفة، خاب ظنهم فيها، فالوعود المالية لم تتحقق، والمثالية الدينية التي تدعيها التنظيمات ثبت زيفها، ففقد الكثير من الموالين والمنخرطين ثقتهم في قيادات الجماعات الإرهابية، وعملوا على فك ارتباطهم بها، والتخلص من أسرها، أو تمنوا ذلك حقا، ندما وتوبة.
وثبت من البحوث، أن من يقرر الانسحاب من التنظيمات العنيفة لا يفكر أبدا في العودة إلى أحضانها، مهما كانت الأسباب، كما لا يتحمس لاستقطاب الناس وتجنيدهم في التنظيمات.
ينوه التقرير بالجهود التي بذلتها الدول لمحاصرة الإرهاب ومحاربته، إلا أن عيب هذه الجهود هو اقتصارها على المقاربة الأمنية، التي لم تفلح في اجتثاث الظاهرة، على الرغم من كلفتها المالية العالية، لتصديها في الغالب لنتائج الإرهاب وليس لأسبابه. كما قد ينتج عنها انشطار الحركات الإرهابية وإعادة توزيع الإرهابيين من جديد، ما قد يؤدي أحيانا إلى مزيد انتشار الفكر الإرهابي، الذي قد يتذرع بالمظلومية، ويبدو كضحية لعنف الدولة، وتتضخم لدى الناس صورة الدولة المستبدة الظالمة، ما يجر تعاطفا مع الإرهابيين.
إن محاصرة الفكر المتطرف العنيف تستدعي معالجة أسبابه، من خلال إعادة تجديد وتقوية وتفعيل العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها؛ لأن الفكر المتطرف يلقى القبول لدى ضحايا التهميش والهشاشة الاجتماعية، التي يتولد عنها الشعور بالإحباط واليأس وعدم المساواة، خاصة عند ازدياد حدة العنف المؤسسي الذي تمارسه الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية، في مواجهة كل صور الاحتجاج الاجتماعي.
إن معرفة أسباب التطرف العنيف، يساعد على نجاعة الوقاية، التي تعود بمردود كبير؛ فالتقديرات الحسابية تفيد بأن كل دولار يستثمر في الوقاية، يقلل بما قدره 16 دولارا من قيمة الصراع والتطرف العنيف. ما يعود بالفضل حتما على المجتمعات الإفريقية، ويوفر الأموال التي تحتاجها لبناء اقتصادها وأمنها الاجتماعي والسياسي، الذي هي في حاجة ماسة إليه.
الاستثمار الموفق هو الذي يكون في الحوافز التي تدعم وتعزز فك ارتباط الأشخاص بالتنظيمات الإرهابية والفكر المتطرف؛ أي يستهدف أسباب الإرهاب، لا نتائجه.
لأجل ذلك، فالمجتمعات المحلية مدعوة الى أداء دور مركزي في دعم مسارات الخروج المستدام بالتوازي مع برامج عفو تضعها الحكومات موضع التنفيذ، بزيادة الاستثمار في توفير الخدمات الأساسية بما في ذلك خدمات رعاية الأطفال والتعليم، وتوفير سبل العيش اللائقة والاستثمار في تعزيز قدرات الشباب والشابات، وتوسيع نطاق فرص اعتزال التطرف العنيف والاستثمار في البرامج المجتمعية للتأهيل وإعادة الإدماج.
إن التطرف العنيف ليس تنظيماً عسكرياً فحسب، وإنما هو ظاهرة اجتماعية، نفسية، سياسية، واقتصادية، وسبل القضاء عليه ليس مستحيلا، وإن كان صعبا، فلابد من خطط ذكية لتجفيف منابعه، وفك ارتباط الناس به. وأول السبل نحو ذلك وشروط نجاحه معرفة الأسباب التي تدفع الناس إلى الارتماء في أحضانه الكريهة المنتنة. لأجل ذلك، يعرض التقرير حزمة من المقترحات الثمينة ضمن توصياته المهمة، إلى جانب الجداول الإحصائية والرسوم البيانية التي تعزز وتوضح وتفسر النتائج التي توصل إليها الباحثون، ما يضفي عليه قيمة علمية، ويشوق المهتمين والمختصين وسائر المتدخلين لقراءته.