حزب الله بعد 7 أكتوبر: مهزوم لكنه لا يزال خطيراً

بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نجحت إسرائيل في تحويل حزب الله من جيش إقليمي قوي تابع لإيران إلى ميليشيا محلية مهزومة. فبسبب الهجمات الإسرائيلية المستهدفة، فقد حزب الله اليوم معظم ركائز قوته العسكرية والسياسية. ويتمثل التحدي الآن في ترجمة هذه التحولات إلى تغيير سياسي في لبنان.
لقد ارتكب حزب الله خطأين فادحين أدى كل منهما إلى سقوطه في لبنان:
أولاً، بينما كانت إسرائيل تستعد لحربها الثالثة مع الحزب منذ عام 2006، كان هو منشغلاً بدوره الإقليمي المتنامي وعملياته العسكرية في سوريا والعراق واليمن، مما أقنع قواعده بأن إسرائيل قد رُدعت بسبب ما اعتبره “نصراً إلهياً” في حرب عام 2006.
ثانياً، صدق حزب الله هذه الرواية وأخطأ في تقدير الرد الذي سيصدر عن إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ولم يفهم قادة الحزب ورعاته الإيرانيون أن أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ستغير كل الأولويات وحسابات الردع الإسرائيلية. صحيح أن حرب إسرائيل مع حزب الله كانت حتمية، لكن الحزب أصر أيضاً على الاستمرار في “دعم غزة”، رافضًا فصلها عن الجبهة اللبنانية، حتى أُجبر على ذلك في نهاية المطاف، لكن الأوان كان قد فات بالفعل.
وفي لبنان، كان هناك ما قبل حادثة “أجهزة البيجر” وما بعدها. فقبل انفجار آلاف من أجهزة الاتصال الالكتروني من نوع “بيجر” التي يستخدمها أعضاؤه في نفس الوقت، كان حزب الله لا يزال مقتنعاً بأنه يتمتع بقدر من النفوذ على الحكومتين الإسرائيلية والأميركية، وأن هجماته المدروسة ضد شمال إسرائيل كانت ناجحة ورادعة. وبعد الانفجارات ـ التي أعقبت اغتيال زعيمه حسن نصر الله والعديد من القادة الآخرين ـ أدرك الحزب أنه أصبح أكثر انكشافاً مما تصور.
هيكل حزب الله المتهالك
لقد كانت ركائز قوة حزب الله الثلاث في لبنان تهتز منذ فترة، ولكنها انهارت في الأشهر الأخيرة الماضية. وهذه الركائز هي البنية التحتية العسكرية للحزب ـ بما في ذلك ترسانته من الصواريخ والأسلحة الثقيلة وقادته رفيعو المستوى ـ وتحالفاته السياسية داخل لبنان، والمجتمع الشيعي. وفي غياب هذه الركائز، سيكون من الصعب على الحزب أن يحافظ على قوته دون إثارة المزيد من النفور [والاستياء] لدى عامة الناس.
في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عام 2022، خسر حزب الله الأغلبية البرلمانية بسبب الاحتجاجات الساحقة في عام 2019، والتي أدت إلى خسارة معظم حلفائه في البرلمان، لكن الحزب كان لا يزال مسلحاً وقادراً على عرقلة التغيير بالتهديد والدعم الكبير من الطائفة الشيعية.
ولكن مع اتساع رقعة الحرب في لبنان انهارت هاتان الركيزتان، فخسر حزب الله أغلب الأسلحة الاستراتيجية التي كانت بحوزته، كما نزح ما لا يقل عن مليون ومائتي ألف لبناني من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
إن الحساب الحقيقي لم يأت بعد. فبعد انتهاء الحرب، سوف يستيقظ حزب الله على دمار بنيته العسكرية بشكل خطير، وعلى مجتمع ينتظر التعويض والحماية. وسوف تتزايد عليه الضغوط، ولكن الموارد لن تكون متاحة.
لقد أصبح انتصار عام 2006 “إلهيا”؛ لأن إيران أرسلت فور انتهاء الحرب أكياساً من الدولارات الأمريكية للتعويض وإعادة تأهيل البنية التحتية العسكرية، في حين تولت دول الخليج إعادة إعمار المدن والبلدات التي دمرت. ولكن هذه المرة سيكون الأمر مختلفاً. فلن تساعد دول الخليج في إعادة الإعمار، ليس فقط لأن لبنان يعدّ حالة ميئوساً منها بالنسبة إلى العديد من هذه الدول، بل لأن لبنان لم يعد بلداً وحيداً. فسوريا وغزة بحاجة إلى ميزانية لإعادة الإعمار أيضاً. وسوف ترتبط أي أموال لإعادة الإعمار بشرط إيجاد حلول سياسية للوضع المتأزم في لبنان.
وسوف يضطر حزب الله إلى التعامل مع خمس طبقات من النفقات: التعويضات، وإعادة الإعمار، والتجنيد والتدريب، والرواتب، والطبقة الأكثر تكلفة: إعادة تأهيل البنية الأساسية العسكرية. ولا تملك إيران الموارد اللازمة لتزويد الحزب بالعملة الصعبة الكافية للقيام بما يحتاج إليه من أجل استعادة قوته.
وعندما تنتهي الحرب ويعود اللاجئون الشيعة إلى بلداتهم ومدنهم، فإن كل هذا سوف يؤثر عليهم بشدة. فمنذ عام 1982، أقنع حزب الله الشيعة بأنه درع حمايتهم ومصدر رزقهم، وأنه مهما حدث فسوف يعتني بهم. ولكن الشيعة بدأوا يدركون أن الحزب لم يحمهم، بل على العكس من ذلك، فقد جرهم إلى حرب غير ضرورية، ولن يكون قادراً على توفير احتياجاتهم. إن حزب الله لم يعد الكيان الأبوي الذي كان عليه ذات يوم، والزعيم الوحيد الذي كانوا يثقون به، حسن نصر الله، قد رحل. وسوف يضطر الشيعة في نهاية المطاف إلى البحث عن بديل، ولا ينبغي لهذا البديل أن يكون سوى دولة لبنان.
خيارات حزب الله وفرصه السياسية
سوف يحاسَب حزب الله أيضاً عندما يدرك بدوره أنه لا توجد خيارات جيدة. فهو يعلم تماماً أنه لم يعد جوهرة تاج إيران. فقد فشل في الحفاظ على استراتيجية الردع مع إسرائيل وخسر كل سنوات الاستثمار الإيراني في لبنان في غضون أسابيع. وهو يدرك أن إيران تركته يواجه كل هذا بمفرده، وأنه لا يستطيع الشكوى أو المطالبة بأي شيء. ولكنه يدرك أيضاً أن النظام الإيراني لن يتركه ينهار تماماً. ولا يزال أمامه بعض الخيارات، ولكن أيًّا منها لن يكون سهلاً.
على المدى القريب، يريد حزب الله أن يحافظ على قوته داخل لبنان. وقد نرى بقايا الجيش الذي شكله على مدى سنوات تتطور إلى عصابات شوارع تضم آلاف الشباب المسلحين بأسلحة خفيفة، ينفذون حوادث مماثلة لأحداث السابع من مايو/ أيار 2008، عندما استخدم الحزب سلاحه ضد اللبنانيين لأول مرة لفرض قراراته الأمنية والسياسية. وقد يلجأ أيضاً إلى أساليبه السابقة التي تعود إلى الثمانينيات، عندما ركز على الأنشطة الإرهابية ضد السفارات والدبلوماسيين داخل لبنان وخارجه. ولكن كل هذا سيكون له ثمن باهظ داخلياً ودولياً. فسوف يزداد عزلة، وسوف يدفع مجتمعه [الشيعي] الثمن الأغلى.
لقد أرسل النظام الإيراني بالفعل الحرس الثوري لقيادة المعركة على الأرض بعد مقتل قادة حزب الله. وقد يتطور هذا إلى وجود إيراني أكثر رسوخاً في لبنان واحتلال إيراني أكثر مباشرة – على الأقل حتى يتم تدريب وتعيين قيادة جديدة للحزب ـ ومن المرجح أن يؤدي هذا إلى خلق المزيد من الأزمات، كما حدث عندما تم نشر عناصر الحرس الثوري الإيراني في سوريا المجاورة لدعم نظام الأسد.
ومع إضعاف حزب الله بشكل كبير، أصبحت المؤسسات الأمنية والعسكرية اللبنانية قادرة على إعادة تأسيس نفسها كقوة دولة يمكن لجميع اللبنانيين أن يثقوا بها، بما في ذلك الطائفة الشيعية. وقبل أن تتمكن القوات المسلحة اللبنانية من تنفيذ البنود الأكثر أهمية في قرار مجلس الأمن رقم 1701 بفعالية، يتعين على المؤسسة أن تستعيد ثقة الناس، وخاصة الشيعة الذين يشكلون أغلبية سكان الجنوب.
وهنا يأتي دور القوات المسلحة اللبنانية بوصفها المؤسسة القادرة على ملء الفراغ وطمأنة الشيعة إلى أنهم سوف يتمتعون بالحماية. ويتعين على القوات المسلحة اللبنانية أن تنتشر في المجتمعات خارج منطقة الحرب الرئيسية في الجنوب في أقرب وقت ممكن، وخاصة في الأماكن التي يتصاعد فيها العنف الطائفي ويبدو من المرجح أن تتشكل فيها العصابات المسلحة. ومع ذلك، فإن القوات المسلحة اللبنانية تحتاج إلى إعادة هيكلة كبرى لضمان عدم مشاركة العناصر المؤيدة لحزب الله داخل المؤسسة في أي انتشار، وخاصة في الجنوب.
ولكن القوات المسلحة اللبنانية لا تستطيع أن تفعل الكثير من دون قرار سياسي أو أوامر واضحة من الحكومة اللبنانية. ولكن في غياب رئيس في بيروت([1]) وحكومة تصريف أعمال ضعيفة على رأس السلطة، فلا يوجد من يتخذ القرارات الصعبة اللازمة. وفي هذه البيئة، لا يمكن إلا للضغوط الخارجية أن تجبر نبيه بري على عقد جلسات البرلمان اللازمة لاختيار رئيس دون شروط مسبقة. فضلاً عن ذلك، سوف يحتاج نجيب ميقاتي إلى إجباره على إصدار أمر علني للقوات المسلحة اللبنانية بالانتشار الكامل وتولي مسؤولية الأمن.
إن البنية السياسية الجديدة وحدها القادرة على مواجهة التحديات التي تنتظر لبنان بعد الحرب، مثل إعادة الإعمار، واحتواء حزب الله، ومراقبة الحدود مع سوريا وغيرها من نقاط الدخول. وحكومة ذات سيادة جديدة وحدها القادرة على تنفيذ اتفاق الطائف، وقرارات مجلس الأمن 1701 و1559 و1680، وإلا فإن البديل هو المزيد من انعدام الأمن، وتمكين حزب الله، خاصة في ظل الوضع في سوريا المجاورة الذي يتسم بعدم الاستقرار.
الكاتب: حنين غدار*
* زميلة بارزة في برنامج روبين للسياسة العربية في معهد واشنطن ومؤلفة كتاب “حزب الله لاند” (أرض حزب الله).
[1] كتب هذا المقال قبل انتخاب جوزيف عون رئيساً للبنان في التاسع من يناير / كانون الثاني 2025
