السلفية الحديثة: أيديولوجية واحدة وحركات متعددة
إن الاستخدام الحديث لمصطلح السلفية غامض ومربك. ويصبح هذا الغموض واضحاً، عندما لا يكون العديد من السلفيين أنفسهم على دراية كاملة بما ينطوي عليه مصطلح السلفية، حيث يفترضون أنه يعني ببساطة اتباع القرآن والسنة، وهو تعريف إشكالي؛ لأنه يوحي بأن المسلمين الآخرين لا يفعلون ذلك. علاوة على ذلك، وبسبب غموض المصطلح، فإن السلفية، في معناها الأوسع، يدّعيها جميع المسلمين، حيث إن المثل الإسلامي العالمي هو تقليد النبي والمجتمع الإسلامي الأول المتدين (السلف الصالح). ولأن مصطلح السلفية ذاته يدل على الأصالة والشرعية، فإن كل مسلم هو سلفي؛ لأنه ملزم باتباع النبي وصحابته في ممارسة الإسلام. ومن ثم، يرفض المسلمون غير السلفيين اليوم ادعاء السلفيين الحصري لمصطلح السلفية، بحجة أن المسلمين الآخرين قد يكون لديهم أيضاً حق المطالبة بالمصطلح؛ لأن غير السلفيين هم أيضاً من أتباع السلف الصالح.
وفي حين فشل السلفيون أنفسهم في تقديم تعريف مقبول عالمياً لمصطلح “السلفية”، فقد كافح العلماء والمراقبون أيضاً لتحديد معنى المصطلح، ومن ثم، فإن السؤال المحوري حول من أو ما هي المجموعة التي تعدّ سلفية لا يزال موضع نزاع. في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد حادثة 11 سبتمبر / أيلول، جذبت دراسة السلفية الكثير من الاهتمام، وبدأ العديد من الأفراد، وليس جميعهم من العلماء، في إجراء البحوث والكتابة عن السلفية الحديثة. من العدل أن نقول إن الكُتاب ووسائل الإعلام الغربية فشلت في تقديم وصف وتحليل دقيق للسلفية، في حين استندت بعض الكتابات عن السلفية إلى مجرد افتراضات. على الرغم من الاستنتاجات التي تشير إلى العكس، فإن السلفية ليست غريبة عن الإسلام ولا انحرافاً عن الدين. السلفية ليست سوى أحد مظاهر الإسلام المتعددة مثل التصوف والحركات المختلفة داخل التقاليد الإسلامية السنية أو الشيعية الأوسع.
السلفية والمذاهب
إن السلفية ليست حركة أو تنظيماً له تسلسل هرمي، ولا تعمل تحت قيادة شخصية مفردة في تنظيم ذي هياكل محددة، كما أنها ليست مدرسة فكرية مثل المذاهب الفقهية السنية القائمة (الحنبلية والحنفية والشافعية والمالكية). وعلى النقيض من الادعاء بأن السلفيين يرفضون “المذاهب” الفقهية السنية الأربعة، فإن السلفيين قد ينشؤون من داخل هذه المذاهب، ويقبل العديد منهم تعاليم المذاهب الأربعة، إذا كانت أحكامها مدعومة بأدلة واضحة وموثقة من القرآن والسنة. ولا يختلف السلفيون في مسألة التمسك بالمذاهب الأربعة الثابتة، فمثلاً ابن تيمية كان على المذهب الحنبلي، وبعض تلامذته مثل ابن كثير (ت. 1373) والذهبي (ت. 1348) كانوا على المذهب الشافعي، وآخرون مثل ابن أبي العز (ت. 1390) كانوا على المذهب الحنفي. ويزعم بعض السلفيين أن المسلمين لا يحتاجون إلى اتباع مذهب معين، ولكن يجوز لهم ذلك. وبقولهم “لا يحتاجون” يقصد السلفيون أن من يتبع المذهب لا يرتكب إثماً. ومع ذلك، إذا كان المسلم عالماً بالشريعة الإسلامية، فله الحرية في اتباع أي مذهب واختيار الرأي الذي يناسبه، أما إذا لم يكن على دراية بالشريعة الإسلامية، ولا على علم بآراء العلماء، فيجب عليه طلب التوجيه السليم من العلماء. لذلك يعتقد العديد من السلفيين بسلطة الأئمة الأربعة. وفي كتاباتهم، يستشهد السلفيون بأئمة المذاهب مثل الإمام الشافعي (ت. 820) والإمام مالك (ت. 755). ويعتبر السلفيون هؤلاء الأئمة من السلف. على سبيل المثال، غالباً ما استشهد علماء مثل ابن تيمية وابن القيم، اللذين غالباً ما يشير السلفيون المعاصرون إلى أعمالهما، بصفتهما من كبار أنصار السلفية، بالعديد من آراء أبي حنيفة (ت. 767) وأيدوها. ولكن بعض السلفيين لا يشجعون الآخرين على اتباع تعاليم مذهب معين، وإن كان أغلبهم، وخاصة الوهابيين السعوديين، يتبعون المذهب الحنبلي.
والسلفية الحديثة تشير إلى ميل ديني نحو مجموعة من الأفكار التي تتمحور حول الهوية. والهوية في هذه الحالة تعني نظام اعتقادي (أيديولوجية) يعكس المصالح والالتزامات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للسلفيين، ويشكل أيديولوجيتهم حول كيفية عمل العالم ونظامه. ويستند هذا النظام الاعتقادي إلى تعاليم نقية مستخلصة حصراً من القرآن وسنة النبي وممارسات السلف الصالح. والواقع أن السلفية ليست ظاهرة عقائدية جديدة، بل إنها ظاهرة ترجع أصولها إلى مناقشات لاهوتية وقانونية مبكرة. وتتلخص فكرتها الأساسية في أن الشرعية، سواء في المجالات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، لابد أن تُستمد صراحة من المصادر الدينية الأصلية والسوابق الإسلامية المبكرة.
ما الذي يميز السلفي عن غير السلفي؟
بوصفها نظاماً عقائدياً قائماً على مصادر أصلية، فقد يزعم البعض أن السلفية حركة سائدة، لكن هذا غير صحيح. فما هو الفارق الأساسي إذن بين المسلم السلفي والمسلم غير السلفي؟ إن هذا السؤال لا يستطيع أن يقدم تفسيرات مباشرة بسبب غموض مصطلح “السلفية” والطبيعة المعقدة للظاهرة.
إن الفارق الكبير بين السلفي وغير السلفي لا يتعلق بالالتزام بالقرآن والسنة والسلف ـ التي تشكل المبادئ الأساسية والأكثر أهمية في الفكر السلفي ـ بل يتعلق بكيفية تعريف الالتزام وكيف يترجم ذلك في الحياة اليومية. بعبارة أخرى، الفارق بين السلفيين وغير السلفيين يتعلق بمنهجية فهم وتفسير النصوص الدينية.
وكما يلاحظ يوآس واجيماكرز، “إن الصرامة والمنهجية التي يحاول بها السلفيون الارتقاء إلى مستوى المعايير التي وضعها السلف واستعدادهم لتوجيه تعاليمهم ومعتقداتهم نحو هذا الهدف… هو ما يميزهم عن المسلمين السنة الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أنها حركة غير متجانسة تضم توجهات متعددة تجعل من الصعب تعريف السلفية وتحديد من هم السلفيون”.
التنوع داخل الحركة السلفية
يتألف السلفيون من ثقافات فرعية وتوجهات مختلفة: من المعتدل إلى المتطرف ومن الهادئ إلى الناشط السياسي إلى الجهادي (أو الموجه نحو العنف). وبينما يتفق معظم السلفيين في مسائل العقيدة (اللاهوت)، فإنهم منقسمون بشأن قضايا الفقه والسياسة. على سبيل المثال، يحدد طارق عبد الحليم ثماني مجموعات من السلفيين المعاصرين.
يكتب كوينتان فيكتوروفيتش أن السلفيين ينقسمون على نطاق واسع إلى ثلاث مجموعات: الأصوليون، والسياسيون، والجهاديون. ويزعم أن الأصوليين يركزون على تنقية الإيمان من خلال التعليم والدعوة، في حين يؤكد السياسيون على تطبيق العقيدة السلفية على الساحة السياسية، ويتبنى الجهاديون نهجاً متشدداً ويجادلون بأن السياق الحالي يقتضي العنف والثورة. وعلى غرار الفئات التي وضعها فيكتوروفيتش، تعتقد أميمة عبد اللطيف أن هناك ثلاثة تيارات رئيسة للسلفية اليوم: (1) السلفية العلمية التي تهتم بدراسة النص المقدس والفقه الإسلامي؛ (2) السلفية الحركية، أو السلفية الناشطة، التي تستوعب الجماعات السلفية النشطة سياسياً والجماعات غير النشطة سياسياً ولكنها تشغل مكانة في المجال العام من خلال العمل الخيري وشبكات الدعم الاجتماعي ومؤسسات التعليم الديني (يشمل هذا التيار أيضا السلفية الإصلاحية)؛ و(3) السلفية الجهادية التي تهتم بممارسة الجهاد (أي العنف).
وعلى نحو مماثل، يلاحظ سمير أمغار أن السلفية في أوربا تنقسم إلى ثلاثة تيارات؛ الأول هو “السلفية الثورية”، التي تضع “الجهاد” في قلب المعتقدات الدينية، والثاني هو “السلفية الإرشادية”، التي تستند أنشطتها إلى الوعظ والتعاليم الدينية، والثالث هو “السلفية السياسية”، التي تنظم أنشطتها حول منطق سياسي. ويزعم أمغار أن كل تيار من هذه التيارات يحافظ على علاقة محددة بالمجتمعات الأوروبية والمجتمعات الإسلامية بهدف تسريع إمكانية قيام الدولة الإسلامية.
ويحدد برنارد هيكل ثلاث مجموعات من السلفيين من حيث المشاركة السياسية: (1) “السلفية الجهادية”، مثل أعضاء تنظيم القاعدة الذين يدعون إلى العمل العنيف ضد خصومهم والزعماء السياسيين الحاليين؛ (2) “السلفية الحركية”، الذين يؤيدون النشاط السياسي غير العنيف؛ و(3) “السلفية العلمية” التي تتبنى نهجاً هادئاً ونظرة أكثر تقليدية، وتزعم أن جميع أشكال التنظيم السياسي العلني والعمل والعنف محرمة.
لا تقتصر الجماعات والفصائل السلفية الحديثة على الفئات المذكورة، والتي ليست شاملة. ومن المثير للاهتمام أن الفرد يمكن أن يكون سلفياً ويتبنى المنهج السلفي دون أن يكون منتمياً إلى أيّ جماعة سلفية أو منسوباً إليها، كما يتبنى بعض المسلمين الطريقة السلفية في مسائل مختارة. بعبارة أخرى، هم سلفيون في أوقات معينة، وغير سلفيين في أوقات أخرى.
وبسبب تعقيدات السلفية الحديثة، تتداخل الفئات والجماعات في بعض الأحيان. علاوة على ذلك، فإن العديد من التجمعات أو التسميات المذكورة أعلاه تعتبر “مبتدعة”، ومن ثم، يرفضها السلفيون على الفور. إن التصنيفات التي نراها هنا هي في أفضل الأحوال تحديدات سائلة وتقريبية للشخصيات والقضايا التي تفرق بين السلفيين المعاصرين. ولكن هذه التصنيفات أكثر دقة وتنوعاً من تلك التي يستخدمها حالياً صناع السياسات والمحللون وأجهزة إنفاذ القانون في الغرب لمناقشة السلفيين الهادئين والجهاديين وغيرهم. علاوة على ذلك، تستند الجماعات السلفية إلى علماء دين مختلفين ونصوص مختلفة من أجل الحصول على الشرعية والتوجيه الفكري. ومن ثم، فإن هذه التفسيرات تحمل آثاراً عميقة على السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي لأتباعها.
إن الخلافات والنزاعات داخل هذه المجموعات واضحة. على سبيل المثال، هل يجوز للمسلم “الصالح” أن يستمع إلى الموسيقى؟ وهل ينبغي للمسلم “الصالح” أن يمتنع عن شراء السلع والمنتجات الإسرائيلية؟ وهل يجوز للمسلم “الصالح” أن يقاتل للإطاحة بحكومة إسلامية تفشل في تطبيق الشريعة الإسلامية بالكامل؟ إن كل مجموعة سلفية تقدم لأتباعها إجابات وتبريرات دينية مختلفة لهذه الأسئلة وغيرها، ولكن التصنيف لا يقدم أكثر من تضاريس تقريبية لمساعدة المراقبين على التحدث بمصطلحات أكثر دقة حول الاتجاهات الأيديولوجية للسلفية الحديثة.
الكاتب: محمد بن علي
الرابط:
https://themaydan.com/2018/03/modern-salafism-one-ideology-many-movements/