التحالف المُضمَر بين النموذج السلفي الجهادي ونموذج التحديث العـولمي
إدريس جنداري (المغرب)
مدخل
على وقع التحولات الدولية المتسارعة، أصبح يتأسس نموذج جديد في التفكير والممارسة، قوامه الانتقال من الحداثة في بعدها الفكري والقيمي، إلى التحديث في بعده التقني والسلعي، وقد أدى هذا الانتقال إلى تغيرات جذرية مسّت كلّ مجالات الحياة. وقد حضر الإنترنت، كوسيط تقني، باعتباره أبرز تجلٍّ لهذه التحولات، حيث تمكن، في بضعة عقود، من صناعة حياة افتراضية جديدة في موازاة الحياة الواقعية. كلّ هذا حدث ضمن مجال عولمي، يسعى إلى استثمار الوسيط الإلكتروني بهدف إحداث اختراق غير مسبوق للمجال المادي والرمزي الكوني، وتحويله إلى سوق مفتوحة يتحكم فيها قانون العرض والطلب، لكنها سوق متحكم فيها عن بعد من طرف الشركات متعددة الجنسيات، التي تحدد نوعية وطبيعة البضائع المعروضة، وتتحكم كذلك في قانون السوق.
ضمن هذا التصور الجديد للعالم، كان العالم العربي الإسلامي يؤسس لتحول فكري من السؤال النهضوي في صيغته التنويرية الحداثية، إلى السؤال السلفي الجهادي في صيغته الأصولية العولمية، وهو تحول صادف مجالاً خصباً على المستوى الإقليمي والدولي، ولذلك تمكّن التصور السلفي من التأسيس لعهد جديد قوامه العودة إلى الأصول الدينية والفكرية القديمة، في صيغتها النصية الجامدة والمغلقة، وفي مقابل ذلك تمّ الحسم مع تراث فكري وديني عقلاني يمتد من ابن رشد وابن خلدون إلى علي عبد الرازق وعلال الفاسي ومحمد عبده.
تحالف العقل العولمي مع العقل السلفي
تسرّب الفكر السلفي الجهادي، في البداية، إلى الفضاء الافتراضي بهدف الردّ على الشبهات المروجة عن الإسلام والمسلمين، وذلك من منطلق هاوٍ يتحكم فيه الحماس الديني، لكنّ تحول المنطق الفكري السلفي إلى ممارسة عملية تنظيمية، سينتقل بالتنظيمات السلفية إلى مجال الاحتراف، حيث ظهرت منظمات جهادية عالمية تدعي تمثيلها للفكرة السلفية، محولة إياها من مستوى التفكير/التنظير الجهادي الذي كان مجسداً في تكفير الخصم الديني والمذهبي إلى مستوى الممارسة الجهادية، التي تمّ تجسيدها في قتال (الكفار). وقد تمّ ذلك باعتماد تأويل مجموعة من النصوص الدينية التي تمتلك سياقها التاريخي، من منطلق أسباب النزول، تأويلاً أصولياً يستجيب أكثر للمراحل الأولى للدعوة الإسلامية أكثر ممّا يستجيب لعصرنا الراهن.
ولم تقتصر الممارسة الجهادية على قتال (الكفار) في ساحة المعركة، بل فطنت التنظيمات الجهادية، مبكراً، إلى الدور الريادي الذي يمكن أن يقوم به الإنترنت في تجنيد الأتباع ونشر تصورها الإيديولوجي، وكذلك الأهمية القصوى للإنترنت في تلقين الخبرة القتالية للأتباع، سواء عبر نشر معلومات حول تصنيع المتفجرات أو عبر تلقين أبجديات استعمال السلاح. لقد استوعبت القاعدة، ومعها مجموعة من المنظمات الأصولية الأخرى، أنّ الإنترنت يمكن أن يكون في مستوى الكلاشنكوف أو أي سلاح آخر.[1]
وقد ارتبط انتقال مفهوم الجهاد، من الفضاء الواقعي إلى الفضاء الافتراضي، بانتقال مماثل على المستوى الفكري، انتقال قاده جيل جديد من أصوليي المهجر الأمريكي ـ بشكل خاص- الذين انفتحوا على الثقافة الإنجلوساكسونية، مبكراً، وتمكنوا من منطقها التقني، وخصوصاً ما يرتبط منه بمجال الإعلاميات، وقد جمع هذا الجيل بين التشبع بقيم وأفكار المنظومة السلفية، وبين الإلمام الجيد بمنطق الحداثة التقنية، ممّا أدى إلى تطوير مفهوم الجهاد نفسه، لينتقل إلى الفضاء الافتراضي ضمن ما أطلق عليه “الجهاد الإلكتروني”،[2] وقد تمّ هذا التحول في ظلّ تحالف جديد غير معلن بين العقل السلفي وبين العقل التقني العولمي في تجليه الإنجلوساكسوني.
كلها مؤشرات كانت كافية لكي يدرك أيّ باحث استراتيجي أنّ العالم يعيش على وقع تحول خطير، تتحالف فيه العولمة التقنية المحرّفة لمنطق الحداثة، مع الفكر السلفي الأصولي المحرف لمنطق الدين الإسلامي الحنيف. لذلك يذهب الكثير من الباحثين إلى أنّ الجاذبية التي يتمتع بها تنظيم القاعدة في تجنيد أعضاء ومناصرين جدد لا تقتصر على الطبيعة الأيديولوجية والخطاب الديني المعولم للتنظيم فحسب، بل تتجاوز تلك الجاذبية المنظومة الإيديولوجية والخطابية؛ وذلك بالاعتماد على وسائل وتقنيات حديثة في إيصال رسالته الجهادية النظرية، وتحقيق استراتيجياته العملية.[3]
الفكر السلفي الجهادي على الإنترنت، بين انفتاح تقني بسيط وطاقة تأويلية جماهيرية
لقد مثّل انكسار الأطروحة السلفية العلمية، خلال عصر النهضة، بداية حقيقية لأفول نجم الاجتهاد الديني المنهجي والعقلاني الذي كان يقوده العلماء، وبالتالي انفتح الباب واسعاً أمام القراءة المدرسية التبسيطية للنص الديني، هذه القراءة التي اتخذت، في الغالب، طابعاً نصياً ظاهرياً ينسجم مع الطاقة التأويلية للجماهير أكثر ممّا ينسجم مع الطاقة التأويلية العلمية في بعدها المنهجي. لذلك، فإنّ المنهج السلفي المعاصر، في بعده الجهادي، يقدّم نفسه باعتباره منهجاً نصياً يقدّم النص الثابت على العامل الإنساني الاجتماعي المتميز بالحركة والتغيّر، وهذا ما يدفعه إلى فرض قراءة واحدة على باقي القراءات المحتملة للنص، وهو بذلك يجمّد المجهود الإنساني للتفكير في مدلول النصوص.[4]
لقد صادف هذا التحول، في حركية الاجتهاد الديني، تحولاً مماثلاً على المستوى العالمي تجلى في الثورة المعلوماتية التي استطاعت، في بضعة عقود، تحويل العالم إلى قرية صغيرة تتصل أطرافها عبر فضاء شبكي يسهل حركة المرور والتواصل، ويمحو كلّ الحدود الفاصلة بين المعتقدات والإيديولوجيات. وقد ساهم تحرير الفضاء الإلكتروني في تحرير الطاقة الجماهيرية التي استغلت هذه الفرصة التاريخية الثمينة لتحقيق رغبتها الجامحة في الخروج من شرنقة التصنيف العلمي، الذي كان يضعها ضمن خانة “العامة” التي لا تمتلك القدرات المنهجية التي تمكنها من المشاركة في المجهود العلمي النظري .
في الحقيقة، يمكن اعتبار هذا التحول حدثاً تاريخياً، بكلّ المقاييس، فهو بقدر ما حقق دمقرطة تداول الأفكار والمعلومات عبر توسيع قاعدة الجمهور القارئ و(الكاتب)، فهو كذلك شكل تحدياً خطيراً على مستوى البناء المنهجي للمعرفة، هذا المستوى الذي يتجاوز الإلمام البسيط بإمكانيات الولوج إلى العالم الافتراضي للاطلاع على النصوص وتحميلها ونسخها ولصقها، إنّ البناء المنهجي للمعرفة يتطلب تكويناً معرفياً عميقاً يُمكّن من تلقّي النصوص وتأويلها في الاتجاه العلمي الصحيح. وإذا خصصنا الأمر، في علاقة بالنص الديني، يمكن تقدير مستوى الخطر المحدق بالمتلقي الشبكي البسيط الذي يكتفي بمهارات حاسوبية بسيطة دون أن يتمكن من القدرات الفكرية المطلوبة، في مجال تلقي النص الديني المشحون بالدلالة والمركب على مستوى بنائه اللغوي.
إنّ التحريف الذي خضعت له مجموعة من المفاهيم الدينية الإسلامية مثل: الجهاد، التكفير …، يرجع في الحقيقة إلى هذا التحول في تلقّي المعرفة الدينية وتسويقها عبر الفضاء الشبكي. وهذا التحول يتجاوز العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، لأنّ وظيفة الوسيط الشبكي تتوقف عند تقديم النص، لينفتح أمام المتلقي/المتصفح طريق جديد يقوده إلى الممارسة الواقعية. إننا هنا، لا نثير قضية شاذة تخص مجموعة من الأفراد، بل إنّ الأمر يتجاوز ذلك إلى التنظيمات الأصولية، بمختلف ألوانها التنظيمية، وهي جميعها تدخل ضمن هذا المنحى التحليلي، وخصوصاً ما يرتبط منها بالفكر السلفي الجهادي الذي استطاع، خلال عقود قليلة، تحويل الفضاء الشبكي إلى ساحة معركة حقيقية، سواء في مواجهة خصوم الداخل مذهبياً، أو في مواجهة خصوم الخارج دينياً.
وتستند الحركات الأصولية السلفية، في انتشارها الإلكتروني الواسع، على قاعدة إيديولوجية صلبة، تقوم على أساس الدمج بين المعرفة الدينية النصية، في بعدها التداولي البسيط، وبين المهارات الإلكترونية الوظيفية، وهي بذلك تنجح في استقطاب جمهور إلكتروني واسع الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل خاص، هو جمهور لا يمتلك معرفة إلكترونية عميقة تمكّنه من استغلال أمثل للشبكة الإلكترونية، وفي الآن نفسه هو لا يمتلك معرفة دينية، ذات عمق علمي ومنهجي تمكنه من تمحيص وفحص الأطروحات الإيديولوجية المروجة إلكترونياً. وكنتيجة لهذا التداخل بين الاستعمال الإلكتروني الوظيفي والتلقي النصي البسيط للنص الديني، استطاعت الحركات الأصولية السلفية تحقيق انتشار جماهيري كبير جداً، على مستوى الداخل والخارج، وبذلك تمكنت من تهديد التوازنات الإيديولوجية القائمة. وتستمد هذه الحركات قوتها المتزايدة من سيطرتها على الساحة الدعوية افتراضياً، باعتبارها الأقرب إلى الطلب الاجتماعي لأنها تعكس صورة العولمة الدينية للثيولوجيا الحنبلية (نسبة لأحمد بن حنبل) عقيدة وفقهاً ومنهجاً.[5]
في المشترك بين منطق الفكر السلفي الجهادي ومنطق التحديث العولمي
يعيش الفكر السلفي اليوم أزهى عصوره، وذلك لتضافر مجموعة من العوامل التي تخدم اتجاهه النظري. من جهة، ساهم تراجع الفكر الحداثي النقدي في بزوغ مرحلة جديدة في تاريخ الفكر العربي المعاصر، حيث تضخمت سلطة النص على حساب سلطة التأويل، وهذا ما ساهم في تشكيل جيل جديد يكتفي، في تلقيه للنص الديني، بظاهر النص دون أن يتحمّل عناء القراءة التأويلية العقلانية. ومن جهة أخرى، ساعد منطق العولمة على تكريس الطابع التحديثي في بعده التقني السلعي، على حساب الطابع الحداثي في بعده الفكري النقدي، وكلها عوامل أدت في الأخير إلى فرض المنهج السلفي كطريقة جديدة- قديمة في التفكير والممارسة.
لقد تزامنت هذه الصحوة السلفية مع تحول عالمي تقوده العولمة عبر أسواقها المفتوحة وشبكتها الإلكترونية التي حطمت كلّ الحدود الفاصلة بين الثقافات والأديان، ممّا أدى إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، والعنصر الأساسي في هذه الظاهرة هو الشركات الرأسمالية الضخمة متعددة القوميات.[6] وفي علاقة بالمسألة الدينية، فإنّ هذا الوضع الجديد حوّل العالم إلى سوق للتدين؛ حيث يحكم قانون العرض والطلب. وهنا يمكن أن نؤكد على أنّ منطق الفكر السلفي ينسجم، إلى حد بعيد، مع منطق السوق العولمي حيث يوظف سلعه وتقنياته من دون أن ينخرط في رؤيته بل إنه، على العكس من ذلك، تمكن الفكر السلفي من توظيف منطق التحديث ضدّ منطق الحداثة، وذلك لأنّ السلفية طريقة لعولمة المذهب الحنبلي على المذاهب الإسلامية الأخرى، لأنه في نظرها هو المذهب الأقدر على الوقوف في وجه التحولات العالمية الجديدة والحداثة، باعتباره مذهباً ثيولوجياً عقائدياً يقوم على السنّة التي تحارب البدعة.[7]
لقد حقق الفكر السلفي الوهابي اختراقاً غير مسبوق لحدود الدول، فهو تنظيم وفكر عالمي لا يعترف بالحدود الوطنية، بل إنه يعتبر أنّ رسالته الجهادية ذات طابع كوني، ولذلك فهو في تجنيده للأتباع لا يشترط أيّ انتماء وطني، فكلّ من آمن برسالته هو عضو وجندي في التنظيم. إنّ هذه الخاصية هي التي دفعتنا إلى افتراض وجود تحالف غير معلن بين العقل السلفي الجهادي وبين منطق العولمة، وذلك راجع إلى وجود نوع من وحدة التصور الاستراتيجي – مع اختلاف الأهداف طبعاً- ولعل هذا التحالف المفترض هو الذي دفعنا، مرّة أخرى، إلى استنتاج خلاصة في غاية الأهمية مفادها أنّ الصراع القائم اليوم هو بين أصوليات يمينية متطرفة يدّعي كلّ منها امتلاكه للحقيقة كاملة. فإذا كانت العولمة تمثل رؤية وطموح اليمين المسيحي المتطرف، الذي يسعى إلى أمركة العالم، بتعبير المفكر محمد عابد الجابري،[8] فإنّ الفكر السلفي الجهادي يمثل رؤية وطموح اليمين السلفي المتطرف الذي يسعى إلى تحطيم الحدود الوطنية بحثاً عن طوبى الخلافة الإسلامية التي تحكم العالم.
إنّ أقصى خطر يهدّد الإنسانية في عالم اليوم ـ وهذا ما كان يفزع هايدجر في التقنية الحديثة – هو إمكانية بناء الإنسان، في تكوينه العضوي المحض حسب ما نحتاجه، أي إمكانية إنتاج الإنسان حسب مواصفات محددة مسبقاً، أي حسب الطلب[9] (طلب السوق).
هكذا ساهم الوسيط الإلكتروني، من خلال استبطانه للعقل الأداتي التقني، في نقل ونشر الإيديولوجيات اليمينية الهدامة إلى أكبر قدر من الجماهير، التي تنخرط نفسها ضمن ثقافة الاستهلاك، خصوصاً أنّ هذه الإيديولوجيات لا تحتاج بالضرورة لأدوات التفكير والنقد، إنها تستثمر الطاقة العاطفية الجياشة، في ارتباط بموضوعات زئبقية كالدين والأمّة والوطن، وهو استثمار يميني ناجح يحقق انتشاراً كبيراً لهذه الدعاوى بين الجماهير المستهلكة، وبذلك يتمّ، بشكل تدريجي، صناعة أجيال جديدة تستجيب لمقومات السوق العولمي القائم على أساس تسريع عجلات الإنتاج والاستهلاك، حتى ولو تطلب الأمر تحويل القيم الإنسانية الرمزية المشتركة إلى مواد أوليّة قابلة لإعادة التصنيع.
[1]. Terrorisme et Internet- Centre d’Information sur les Renseignements et le Terrorisme -Centre d’Etudes Spéciales (CES)-
14 juillet 2008 p: 2
[2] ـ ظهر هذا المصطلح أواسط التسعينيات، واستخدمه لأول مرّة طلاب يعيشون في الولايات المتحدة، انظر: ألبرشت هوفهاينز: الإنترنت والديمقراطية في العالم الإسلامي، على الرابط:
http://www.cdhrap.net/text/tqarer/alkarjeei/004/2006.htm
[3] ـ حسن أبو هنية ـ تنظيم القاعدة والجهاد الإلكتروني ـ ضمن كتاب: تنظيم القاعدة قراءة جديدة ـ مركز الجزيرة للدراسات ـ الملفات البحثية 2010- ص:75
[4] ـ بن جبار بلعيد ـ السلفية ومنطق الدليل: تمثلات وممارسة ـ مجلة إضافات ـ العددان 26-27 ( ربيع ـ صيف 2014) ـ ص: 201
[5] ـ بن جبار بلعيد ـ السلفية ومنطق الدليل ـ مرجع سابق ـ ص:166
[6] ـ محمد الأطرش ـ العرب والعولمة: ما العمل؟ مجلة فكر ونقد ـ ع 7 مارس 1998 ص 96
[7] ـ بن جبار بلعيد ـ السلفية ومنطق الدليل ـ مرجع سابق- ص: 201
[8] ـ نحيل هنا على قول الجابري، إنّ العولمة، بالإضافة إلى كونها نظاماً اقتصادياً، هي أيضاً إيديولوجيا تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه، وهناك من الكتاب من يقرن بينها و ين “الأمركة” أي نشر وتعميم الطابع الأمريكي.
محمد عابد الجابري ـ قضايا في الفكر المعاصر- مركز دراسات الوحدة العربية ـ ط: 1 ـ يونيو/حزيران 1997 – ص: 137
[9] – مارتن هايدجر ـ كتابات أساسية ـ ج: 2 ـ ترجمة وتحري: إسماعيل المصدق ـ إصدار المجلس الأعلى للثقافة ـ 2003 ـ ص: 164-165