التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لحزب الله: السياق الاستعماري
في أول مقال من هذه السلسلة، يحلّل إدوين تران التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لجماعة حزب الله الشيعية اللبنانية. سوف يشرح الظروف التي طبعت مسار الطائفة الشيعية في لبنان منذ تأسيس البلاد وحتى اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، من التفاوت الاقتصادي إلى الافتقار إلى التمثيل السياسي، ويسلّط الضوء على الكيفية التي ساعدت بها هذه العوامل في حشد السكان المحرومين في جماعات منظمة مثل حزب الله.
إن حزب الله مصطلح يُساء فهمه في كثير من الأحيان؛ فهو مجموعة مرتبطة بمفاهيم الإسلاموية والجهادية والتطرف العنيف. وقد نظر كثيرون إلى المنظمة على نفس الخطوط التي رسمها تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، ونتيجة لهذا ضاعت الكثير من الخصائص الدقيقة الأساسية للحركة. فإلى جانب الباحثين والمحللين، لا يدرك سوى قِلة من الناس الفوارق في طموحات حزب الله وعملياته وأجهزته المالية، وفي الواقع، لا يوجد سوى القليل من المناقشات حول الإطار الاجتماعي الاقتصادي لحزب الله وأهميته المحورية في تأسيس المجموعة وعملياتها الحالية.
ومن خلال هذه العمليات الاجتماعية، تمكن حزب الله من اكتساب شعبية كبيرة وسلطة سياسية في لبنان. سوف تحلل هذه السلسلة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للحزب، مع الأخذ في الاعتبار سياق المجتمع الشيعي اللبناني منذ تأسيس البلاد وحتى الحرب الأهلية اللبنانية. سوف تشرح الظروف التي طبعت مسار الطائفة الشيعية في لبنان، من التفاوت الاقتصادي إلى الافتقار إلى التمثيل السياسي، وتسلط الضوء على الكيفية التي لعبت بها هذه العوامل دوراً في حشد السكان المحرومين في مجموعات منظمة مثل حزب الله.
الانتداب الفرنسي
إن أسس هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية تعود إلى فترة الانتداب الفرنسي؛ وهي فترة من الحكم الاستعماري أثبتت فعاليتها في تهيئة المسرح اللبناني للصراعات الطائفية والطبقية اللاحقة. ومن المهم أن ندرك أن فرنسا حافظت على علاقات وثيقة مع العديد من الجماعات الرئيسة في منطقة لبنان منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى؛ وفي حين كان لبنان تاريخياً (ولا يزال) موطناً للعديد من الطوائف الدينية المختلفة، فلا بد من إيلاء اهتمام خاص لعلاقات فرنسا مع المسيحيين الموارنة.
في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى، بدأت فرنسا بالفعل في وضع الأسس لجهودها الاستعمارية. ووفقاً للأستاذ مهران كامرافا من جامعة جورج تاون، “تأسست المنظمات الخيرية والمدارس الفرنسية” في لبنان في القرن التاسع عشر، ومن الجدير بالذكر بشكل خاص إنشاء جامعة القديس يوسف في عام 1875 من قبل اليسوعيين الفرنسيين. روج الفرنسيون للمساعي التجارية المارونية وتاجروا مع الطائفة بشكل متكرر أكثر من السكان السنة أو الشيعة أو الدروز في المنطقة. كانت فرنسا حريصة على تقديم المساعدة للموارنة لتنمية وتطوير أعمالهم من خلال الاستثمار بكثافة في السكك الحديدية والموانئ وغيرها من المرافق. في ضوء ذلك، نظرت فرنسا إلى نفسها على أنها “الحامية المعلنة للمجتمعات المسيحية في بلاد الشام، وخاصة المسيحيين الموارنة في جبل لبنان”. وبررت فرنسا هذا التوجه أيضاً بالإشارة إلى رغبتها في الحفاظ على أنشطتها الخيرية في جميع أنحاء المنطقة. هذه الإجراءات سلطت الضوء في نهاية المطاف على نطاق مصالح فرنسا في المنطقة ومهدت الطريق للانقسامات الطائفية والاجتماعية والاقتصادية.
بلاد الشام بعد العهد العثماني
مع سقوط الإمبراطورية العثمانية، سارعت بريطانيا وفرنسا إلى التدخل لتعزيز مكاسبهما وترسيخ قبضتهما على منطقة الشرق الأوسط. ففي الحادي والثلاثين من غشت / آب 1920، ضمت فرنسا ولايتي دمشق وبيروت العثمانيتين، وأعلنت رسمياً تشكيل ولاية لبنان الكبير. وأعقب ذلك إنشاء لجنة إدارية يقودها حاكم فرنسي، ومن ثم وُضع لبنان تحت الحكم الفرنسي مباشرة. ونتيجة لهذه التغييرات تم نقل “المدن الساحلية طرابلس وصور وصيدا وبيروت… [و] وادي البقاع الخصيب [بعيداً] عن الولاية السورية”.
وقد أفاد هذا التغيير الموارنة بشكل كبير، حيث رأى الكثيرون في ذلك فرصة لتعزيز مكانتهم الاقتصادية بسبب زيادة المشاريع البحرية التي أصبحت ممكنة الآن. ولكن في الوقت نفسه، كانت هذه الخطوة لتجلب إلى لبنان عدداً كبيراً من السكان المسلمين، الذين استاء الكثير منهم من هذا التحول التعسفي بوصفه تجاوزاً استعمارياً صارخاً، واستمروا في تفضيل الاتحاد مع سوريا. ونتيجة لهذا التغيير في الهيكل الإقليمي، لم يشكل الموارنة سوى 30٪ من سكان لبنان، وكانوا بحاجة إلى قدر أكبر من التدخل الفرنسي للحفاظ على قوتهم وأهميتهم. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، لم يكن المشرفون الفرنسيون في لبنان مهتمين إلى حد كبير بالتداعيات المحتملة لهذا التعديل، وبدلاً من ذلك، ركزوا بشكل رئيس على ضمان بقاء لبنان متميزاً عن الانتداب السوري ذي الأغلبية المسلمة.
ديمقراطية غير تمثيلية
مع مرور الوقت، اتسمت السيطرة الفرنسية على لبنان بالسياسة الراسخة المتمثلة في “فرّق تسد” التي منحت معاملة تفضيلية للموارنة المسيحيين. وتم دفع اللجنة الإدارية لتخصيص المقاعد على أساس الانتماء الديني، وهو النظام الذي أُشير إليه بالطائفية. حيث مُنح المسيحيون الموارنة عشرة مقاعد، والسُنّة أربعة مقاعد، والشيعة مقعدين، والدروز مقعداً واحداً. علاوة على ذلك، ضمنت فرنسا أن التجارة الإقليمية سوف تتدفق إلى بيروت، مما يمنح التجار الموارنة قدرة أكبر على الوصول إلى السلع وميزة تنافسية صارخة في الوصول إلى الأسواق الأوروبية. وفي عام 1926، سمحت فرنسا للشعب اللبناني بوضع دستور. وكان الدستور نفسه ضعيفاً نسبياً ولم يشر إلى الاستقلال، وتم الإعلان رسمياً عن وجود “غرفة واحدة للنواب يتم انتخابها على أساس التمثيل الديني”. ومن المهم أن ندرك أن المسلمين السنة مُنحوا أيضاً بعض الامتيازات في هذه المرحلة؛ كان لدى المسيحيين والسُنّة قدرة أكبر على الوصول إلى التعليم والمؤسسات الاجتماعية مقارنة بالطوائف الدينية الأخرى. وفي عهد المفوض السامي موريس ساراي (حكم من 1924 إلى 1926)، تمكن السُنّة اللبنانيون من تولي المناصب الإدارية، وكان العديد منهم لا يزالون على اتصال جيد بالتجارة الداخلية والإقليمية عبر دمشق وحلب ومدن رئيسية أخرى.
على الطرف الآخر من الطيف، كان هناك الوضع الاجتماعي والاقتصادي للسكان الشيعة اللبنانيين، الذين كانوا يقيمون في مناطق جنوب لبنان ووادي البقاع، وكانوا يتميزون بكثافة سكانية ريفية تفتقر إلى الطبقة المتوسطة الناشئة في لبنان الأوسع. وكان أحد العناصر الأساسية للنسيج الاجتماعي والاقتصادي للشيعة هو هيمنة ملاك الأراضي المحليين المعروفين باسم الزعماء. وكان الاقتصاد السياسي للشيعة في هذا الوقت يتميز بكميات كبيرة من الريعية والمحسوبية بسبب الاقتصاد الزراعي شبه الإقطاعي. بالإضافة إلى ذلك، كان التعليم الشيعي متخلفاً بشكل خاص مقارنة بنظرائهم السنة والمسيحيين، حيث حافظ الشيعة على إحدى عشرة مدرسة مقارنة بأربعمائة مدرسة للموارنة. وقد تعزز هذا الوضع بسبب الافتقار النسبي للتمثيل السياسي للشيعة. وقد تفاقم الافتقار غير المتناسب للتمثيل في اللجنة الإدارية (ومشتقاتها اللاحقة) بسبب حقيقة مفادها أن الشيعة لم يحصلوا على محاكمهم الخاصة حتى عام 1926. وكانت مثل هذه العوامل عناصر دقيقة في سياسة فرنسية أوسع نطاقاً أدت إلى حرمان الشيعة اللبنانيين من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية بشكل شامل.
أمة منقسمة
إن ما يُفهم من هذا السياق التاريخي هو حقيقة الدولة المنقسمة التي وجد لبنان نفسه فيها تحت الانتداب الفرنسي. فقد حظيت الطوائف المختلفة في المنطقة بامتيازات مختلفة وكانت متباينة في ظروفها الاجتماعية والاقتصادية. وكان لهذا النظام القائم على مبدأ “فرق تسد” تأثيره في تعزيز الانقسامات الطائفية، حيث بدأ الموارنة في الشعور بالعزلة والنخبوية عن نظرائهم المسلمين، في حين بدأ الشيعة يشعرون بالتهميش والحرمان من حقوقهم بين السكان اللبنانيين بشكل أوسع. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، رأى العديد من اللبنانيين فرصة في ضمان الاستقلال. ولكن حتى لو تم تأمين الاستقلال، فإن مدى فعالية وقوة الأمة الجديدة كان لا يزال موضع شك.
في الجزء التالي من هذه السلسلة، سوف ندرس لبنان في موقفه بعد الاستقلال ونحلل السياسات والمبادئ الاجتماعية والاقتصادية التي تحكمت في توجيه البلاد في سنواتها التأسيسية. ومن هناك، سوف نرى مدى فعالية هذه السياسات في الحد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهت السكان غير الموارنة في لبنان.
الرابط: