الإسلاميون في ليبيا: مشهد مجزّأ
لقد اتسمت ليبيا ما بعد القذافي بالفوضى والانقسام والتفكك. ومع تدهور المركز الذي كان قويّاً ذات يوم، انقسمت البلاد إلى مجموعة من الميليشيات والبلدات والقبائل والمناطق التي تتنافس جميعها للسيطرة على النظام الجديد. ولا يختلف الوضع الإسلامي في ليبيا عن ذلك. بعد مرور عشر سنوات على الإطاحة بالنظام السابق، من الصعب تحديد حركة أو تيار إسلامي واحد متماسك. وحتى الفرع الليبي لجماعة الإخوان المسلمين العالمية يعاني من الانقسامات ومحطم من الداخل، كما يتضح من القرار الأخير الذي اتخذته الجماعة بتحويل نفسها إلى منظمة غير حكومية، بل إن المشهد المتشدد أكثر انتشاراً، ويحدده الموقع والشخصيات أكثر من أي أيديولوجية أو ديناميكية تنظيمية معينة، في حين يصعب تحديد التيارات السلفية المختلفة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد.
ويعود هذا المشهد الإسلامي المعقد والمتحول جزئياً إلى الطريقة التي تطورت بها الثورة الليبية، حيث انتفضت مدينة تلو الأخرى ضد النظام وشكلت ميليشيات محلية خاصة بها، وهو أيضاً انعكاس لحقيقة أن الديناميكيات والهويات المحلية والإقليمية في ليبيا غالباً ما تتجاوز الاهتمامات الوطنية. ونتيجة لهذا، فقد وجدت الجماعات الإسلامية المختلفة التي ظهرت، بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى الطرف الأكثر تطرّفاً من الطيف، نفسها غير قادرة على تجاوز مناطقها المحلية. وقد أدت هذه البيئة إلى انتشار الشخصيات والقادة الإسلاميين، الذين عزم كل منهم على إنشاء إقطاعياته الشخصية والحفاظ عليها. والواقع أن الإيديولوجية كثيراً ما ضاعت لصالح الهدف الأكثر إلحاحاً المتمثل في فرض السيطرة وجني المكافآت على المستوى المحلي. وعلى الرغم من التطلع إلى الأمة (أمة إسلامية واحدة) من قبل كل من التيارات المتشددة والمعتدلة، فقد وقع الإسلاميون في ليبيا فريسة للتمركز والقتال العنيف على الغنائم التي ميزت الكثير من الصراع الليبي.
وقد ازدادت الصورة تشوشاً بسبب تدخل القوى الخارجية، بما في ذلك تركيا، التي تعمل حالياً كنوع من الكومنترن للحركة الإسلامية، حيث تسيطر عليها وتوجهها بطريقة لا تختلف عن تلك التي سيطرت بها موسكو على الحركة الشيوعية العالمية خلال أوجها. وفي حين أن التدخل التركي ربما كان بمثابة نقطة تجمع للعديد من هذه التيارات الإسلامية في غرب ليبيا، والتي ترحب بمساندة أنقرة ودعمها، إلا أنه لا يوجد حتى الآن غراء أيديولوجي أو تنظيمي يجمعها معاً. وبالتالي، فإن المشهد الإسلامي في ليبيا فوضوي ومختل مثل بقية البلاد.
المشهد المعتدل: جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا
كانت قصة الإسلام السياسي المعتدل في ليبيا، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين الليبية، قصة خيبة أمل وفشل. وبعد مرور عقد من الزمن على الربيع العربي، عندما بدا وكأن مستقبل المنطقة سيحدده حكم الإسلام السياسي، لم تعد جماعة الإخوان المسلمين الليبية موجودة حتى في شكلها الكلاسيكي. ربما تكون هذه النهاية المشينة غير مفاجئة. وفي تناقض صارخ مع نظيراتها في البلدان المجاورة، لم تتح لجماعة الإخوان المسلمين الليبية الفرصة قط لترسيخ أقدامها في ليبيا، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى نهج القذافي المتمثل في عدم التسامح مطلقاً مع أي قوة معارضة أو تنظيمية خارج الجماهيرية (دولة الجماهير). عملت الحركة بشكل رئيسي في المنفى بالخارج، وعاد كوادرها إلى ليبيا في وقت ثورة 2011. وعلى هذا النحو، لم يكن لدى جماعة الإخوان المسلمين الليبية أي قاعدة اجتماعية يمكن الاعتماد عليها.
على الرغم من أن ذراعها السياسي، حزب العدالة والبناء، نجح في تحقيق مكاسب تفوق ثقله السياسي في الجزء الأول من الفترة الانتقالية، حيث شق طريقه من خلال المساومات التي أعقبت انتخابات عام 2012 للعب دور رئيسي في أول انتخابات في البلاد، وجدت جماعة الإخوان الليبية منذ البداية نفسها في مواجهة تحديات هائلة. ويعود ذلك جزئياً إلى أن الجماعات المسلحة على الأرض كانت تتمتع دائماً بنفوذ أكبر من هياكل الحكم الناشئة في البلاد، ولكن أيضاً لأن جماعة الإخوان المسلمين سرعان ما وجدت نفسها تتصارع مع انقساماتها الداخلية. أصبحت هذه الانقسامات حادة بشكل خاص في يوليو/ تموز 2013، عندما تم إسقاط جماعة الإخوان المسلمين في مصر، مما أطلق العنان لموجة من المشاعر المناهضة للإخوان داخل ليبيا. اتُهمت جماعة الإخوان المسلمين الليبية بالعزم على الاستيلاء على السلطة، وهوجمت مكاتبها ومكاتب حزب العدالة والبناء في بنغازي. والواقع أن الأحداث في مصر أثارت المشاعر المناهضة للإخوان في ليبيا، مما دفع حزب العدالة والبناء إلى الإعلان عن تجميد عمله في الحكومة والمؤتمر الوطني العام (البرلمان).
كما أدت الأحداث في مصر إلى إطلاق عملية مراجعة داخلية. في هذه الأثناء، شعر تيار داخل حزب العدالة والبناء أن الارتباط بجماعة الإخوان في مصر أصبح سامّاً. وسعى هذا التيار إلى استخدام عملية المراجعة كوسيلة للنأي بنفسه وجماعة الإخوان الليبية عن نظيرها المصري. وكما أوضح العضو البارز في حزب العدالة والبناء عبد الرزاق العرادي، فإن هذا الارتباط جعل الجماعة “هدفاً سهلاً”. كما بدأ هذا الفصيل داخل حزب العدالة والبناء يتطلع بشكل متزايد إلى تونس، حيث انخرطت حركة النهضة في عملية “تَوْنَسَة” للحركة، مع التركيز على السياسة والأولويات الوطنية في تطور سيؤدي لاحقاً إلى إسقاط مصطلح “الإسلاميين” تماماً. وعلى هذا النحو، بدأت أجزاء من حزب العدالة والبناء في الدعوة إلى عملية مماثلة داخل جماعة الإخوان الليبية.
وعلى الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين الليبية لم تصل إلى حد النهضة، كان هناك اتفاق واسع النطاق في المؤتمر العام للجماعة في أكتوبر / تشرين الأول 2015 على أن الجماعة يجب أن تعيد صياغة نفسها وتعيد تركيز أنشطتها على العمل الديني والتعليمي. وأوضح مرشدها العام آنذاك، أحمد عبد الله سوقي، أن “أولوية الحركة في هذه المرحلة يجب أن تكمن في التركيز على العمل التربوي الداخلي والدعوة وخدمة المجتمع”. لكن تياراً داخل الجماعة، بما في ذلك بعض أعضاء القيادة التقليدية الذين كانوا عازمين على الحفاظ على الارتباط التاريخي للفرع مع مصر، تراجع عن السير في هذا الطريق. ومع تحرك عناصر داخل الجماعة والحزب في اتجاهات مختلفة، انتهت عملية المراجعة هذه إلى الدفن، تاركة جماعة الإخوان المسلمين وحزب العدالة والبناء في وضعية عالقة استمرت لسنوات.
ومع ذلك، كانت الجماعة تواجه مشكلة أكبر. عندما انقسمت البلاد إلى فصيلين متنافسين عام 2014 ـ أحدهما في غرب ليبيا والآخر في الشرق ـ اندمجت جماعة الإخوان المسلمين الليبية بشكل كامل في ديناميكيات الغرب. وبشكل أكثر تحديداً، ربطت نفسها بميليشيات فجر ليبيا، وهي تحالف فضفاض من القوى الثورية والإسلامية بقيادة مصراتة، وبدعم من قطر وتركيا، والتي سيطرت في صيف عام 2014 على العاصمة ومعظم غرب ليبيا. وكانت بعض العناصر في “فجر ليبيا” متشددة بشكل خاص، وتبنت وجهة نظر إسلامية متطرفة، ودعمت الجماعات المسلحة في شرق البلاد. فضلاً عن اقتصار نشاطها دون قصد على غرب البلاد، شوهت هذه الميليشيات صورة الإخوان وتركتها عرضة لاتهامات التطرف. لدرجة أنه في فبراير شباط 2017، حذر زعيم حزب النهضة التونسي الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب العدالة والبناء محمد صوان وعضو حزب العدالة والبناء نزار كوان من أن الوقت قد حان لتقديم بعض “التنازلات المؤلمة” والابتعاد عن الجماعات التي تم تصنيفها على أنها إرهابية، مشيراً إلى أن الفشل في القيام بذلك سيفتح أمام جماعة الإخوان المسلمين الليبية نفس مستقبل نظيرتها المصرية.
ومع ذلك، كانت القيادة التقليدية للحركة مترددة في الانفصال عن حلفائها الإسلاميين بهذه الطريقة، مفضلة البقاء داخل الوسط الثوري، حتى انتهى بها الأمر إلى الغرق والضياع في بحر من القوى والتيارات الإسلامية والثورية، التي لم تتمكن من وضع بصمتها أو سلطتها فيها.
في مثل هذه البيئة، تفاقمت الانقسامات الداخلية. اندلعت مشاكل خطيرة عام 2015 عندما بدأت عناصر من حزب العدالة والبناء الانخراط في عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة والتي كان من المقرر أن تؤدي إلى توقيع الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات في ديسمبر/ كانون الأول 2015. وأحجمت قيادة جماعة الإخوان المسلمين، بنظرتها الأكثر تشدداً، عن المشاركة في أي نوع من التقارب مع القوى في الشرق. وكذلك فعل بعض أعضاء حزب العدالة والبناء. وأوضح العرادي أن “حزب العدالة والبناء منقسم من قبل إعلان الصخيرات بين من يرفض الاتفاق السياسي ويحرص على ارتباطه بحركة [الإخوان المسلمين]، ومن يدعم الاتفاق السياسي ويريد تطوير الحزب وإبعاده عن الحركة”. وكان بعض أعضاء حزب العدالة والبناء غاضبين للغاية من استعداد الحزب لدعم اتفاق السلام لدرجة أنهم استقالوا، متهمين قيادة الحزب بـ “الانحراف”.
وتزايدت التوترات، وفي عام 2018، حشدت الجماعة أعضاءها لمحاولة السيطرة بشكل أكبر على الحزب. وعندما وصل زعيم حزب العدالة والبناء، محمد صوان، إلى نهاية فترتي رئاسته، دعت الجماعة أعضاءها إلى تجديد عضويتهم في الحزب. وأثارت محاولة الضغط على الحزب بهذه الطريقة اتهامات من بعض قادة حزب العدالة والبناء بأن الجماعة تتدخل في شؤونه وتهدد استقلاله. ولذلك، بالنسبة إلى الكثيرين في حزب العدالة والبناء، أصبح الارتباط بالحزب عبئاً ثقيلاً.
ومع حالة الفوضى التي يعيشها الحزب والجماعة، ومع الانهيار السريع الذي تشهده البلاد، لم تتمكن جماعة الإخوان المسلمين الليبية من الحفاظ على تماسكها. أثبتت القيادة، بعقليتها التقليدية، أنها غير قادرة على المضي قدماً. وعلى هذا النحو، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين غير ذات أهمية على نحو متزايد. وفي غشت / آب 2020، أعلن فرع الإخوان في الزاوية حله. وبعد شهرين، حذى فرع مصراتة حذوه، مشيراً إلى فشل القيادة في تنفيذ المراجعات والإصلاحات المتفق عليها عام 2015. ومع حل هذين الفرعين المهمين، كانت جماعة الإخوان المسلمين الليبية قد انهارت من الداخل، لدرجة أنه في مايو / أيار 2021، أعلنت الجماعة أنها ستتحول إلى منظمة غير حكومية وغيرت اسمها إلى جمعية النهضة والتجديد.
على الرغم من آمالها في عام 2011 في اغتنام الفرصة لتحقيق عودة مجيدة إلى ليبيا، فشلت جماعة الإخوان المسلمين في ترك أي علامة حقيقية وتاهت في مستنقع القوى والفصائل التي سعت إلى السيطرة على ليبيا ما بعد القذافي. فمن خلال ربط نفسها بقوة مع قوى الغرب (وبالتالي مع الداعمين الأجانب لهذه القوى)، انحازت إلى جانب في الصراع، مما أدى إلى تنفير قطاعات كبيرة من السكان منها، وتعريض نفسها في الوقت نفسه لاتهامات بالتشدد. علاوة على ذلك، فإن مقاومة قيادتها للإصلاح جعلتها غير قادرة على التكيف أو جعل نفسها ذات أهمية. ومن ثم، من خلال أفعالها، حاصرت جماعة الإخوان المسلمين نفسها، وبذلك تسببت في زوالها المشين.
المشهد العسكري: مزيج من الإسلاميين
كما اتسم المشهد الجهادي في ليبيا بالانقسام والفشل. منذ عام 2011، لم يكن هناك تيار شامل أو مجموعة قادرة على تجسيد الشعور بأي مشروع إسلامي متماسك قادر على تجاوز جغرافية ليبيا المتصلبة والنسيج الاجتماعي المعقد والانقسامات الإقليمية. وحتى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، التي كانت ذات يوم قادرة على التعبير عن رسالة وتطلعات وطنية، لم تتمكن من الاجتماع بمجرد رفع غطاء القمع. في الواقع، منذ البداية، كانت الساحة الإسلامية المتشددة عبارة عن خليط من الجماعات والقوات غير محددة المعالم التي تضم فلول الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة والقاعدة، بالإضافة إلى جهاديين آخرين تم إطلاق سراح العديد منهم من سجن أبو سليم سيئ السمعة عام 2011. ولم تتمكن هذه القوى من التوحد تحت راية أيديولوجية واحدة، وأصبحت منغلقة على المحلي، ومرتبطة أكثر بالأحياء والبلدات، أو بألويتها الثورية التي انتفضت ضد النظام أكثر من ارتباطها بأي مشروع إسلامي شامل. كان المشهد الجهادي منقسماً منذ البداية، واتسم بوجود قادة محليين وقوات ليس لها قاعدة اجتماعية وكان هدفها الأساسي هو السيطرة على البلاد.
والواقع أنه بمجرد سقوط نظام القذافي، تحركت هذه القوى الإسلامية المتشددة بسرعة، مثل نظيراتها غير الإسلامية، لفرض نفسها على أحيائها ومناطقها، معتمدة على الشرعية الثورية، التي أصبحت في ليبيا الجديدة تتفوق على كل شيء آخر. ومع ذلك، فقد فعلوا ذلك كألوية فردية أو ميليشيات وليس باسم أي حركة إسلامية موحدة. خلقت هذه الفسيفساء من القوى صورة مشوشة، حيث تتصارع الكتائب الإسلامية ضد بعضها البعض وضد قوى أخرى، في سعيها للسيطرة والحصول على الغنائم. وفي هذه البيئة الممزقة، تغلبت الشخصانية على المشروع الإسلامي، وبرز في الشرق قادة إسلاميون مثل وسام بن حميد وزياد بلعم وأحمد المجبري وإسماعيل صلابي، بينما برز في الغرب أمثال أحمد علي الطير وعبد الرؤوف كارة وهيثم التاجوري. وتمثل هذه الشخصيات مجموعة واسعة من المواقف الأيديولوجية، من الجهادية المتشددة، إلى المعتدلة، إلى السلفية.
ربما كان للعديد من هذه القوى وجهة نظر إسلامية متشددة، لكنها كانت حريصة على أن تكون جزءاً من الدولة الجديدة. وعلى الرغم من أن هذا الحرص كان مرتبطاً جزئياً بالحصول على أموال الدولة، إلا أنه كان أيضاً لأن هذه الكتائب اعتبرت نفسها وصية على ليبيا الجديدة واعتقدت أن من واجبها دفع الثورة إلى نهايتها. وكما أوضح الإسلامي أحمد المجبري، قائد كتيبة شهداء الزنتان في بنغازي: “نحن جزء من الدولة. أردنا إسقاط النظام بأكمله، وليس فقط عائلة القذافي… أريد إكمال المهمة التي مات إخوتي من أجلها”. وبغض النظر عن نظرتهم الأيديولوجية الشخصية، فقد رأى هؤلاء القادة أنفسهم ثوريين في المقام الأول، ومكلفين بتطهير البلاد من بقايا الماضي.
ومع ذلك، حتى عندما مُنحوا وضعاً شبه قانوني على شكل كتائب درع ليبيا واللجان الأمنية العليا، اللتين تتبعان اسمياً وزارتي الدفاع والداخلية على التوالي، فقد ظلوا منقسمين، وانضموا إلى هذه القوات كألوية وميليشيات فردية، واحتفظوا بهوياتهم واستقلاليتهم، وكان لهم هياكلهم القيادية الخاصة، وفي بعض الحالات، مجالس الشورى الخاصة بهم. واستمروا أيضاً في التصرف بناءً على نزواتهم، وورطوا أنفسهم في الاقتتال الداخلي والحروب على النفوذ، حيث سعوا إلى التفوق على بعضهم البعض للسيطرة والوصول إلى مكاسب مالية. وعلى هذا النحو، تحدت هذه الجماعات أي تسمية واحدة، حيث تمثل مزيجاً من العناصر الإسلامية والثورية التي غالباً ما بدت الأيديولوجية بالنسبة إليها مجرد زي.
من أنصار الشريعة إلى مجلس شورى ثوار بنغازي
على هذه الخلفية، برز إلى الواجهة عدد من الجماعات الأكثر تزمّتاً، والتي كانت لديها أجندة إيديولوجية أكثر وضوحاً، وخاصة في شرق ليبيا، وهي المنطقة المرتبطة تقليدياً بالتشدد الإسلامي. وقد سلطت الأضواء على هذه الجماعات لأول مرة في يونيو/ حزيران 2012، عندما تجمعت في ميدان التحرير في بنغازي، في استعراض كبير للقوة، لدعم تطبيق الشريعة. ضم هذا التجمع مجموعة مذهلة من الكتائب التي اجتمعت معا، على حد تعبير أحد المشاركين، من أجل “إرهاب أولئك الذين لا يريدون حكم شريعة الله”. كان هذا أول تجلٍّ حقيقي لتيار أصولي يدعو إلى الحاكمية (حكم الله على الأرض) ويختلف عن القوى الإسلامية الأكثر ثورية التي كانت على استعداد للعمل مع السلطات.
وكانت أبرز هذه القوى هي جماعة أنصار الشريعة، التي ميزت نفسها بارتباطها بحركة عابرة للحدود الوطنية وبجهودها لخلق قاعدة اجتماعية من خلال الانخراط في العمل الخيري. ومع ذلك، حتى هذه المجموعة وجدت نفسها مقيدة بالجغرافيا وغير قادرة على التوسع خارج نطاق عدد قليل من المناطق. أما الفرع الأكبر، وهو أنصار الشريعة ـ بنغازي، فكان يقوده المقاتل السابق في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، محمد الزهاوي، ويضم العديد من سجناء أبو سليم السابقين، ومعظمهم جاء من بلدية بنغازي. وتركزت المجموعة في أحياء معينة من المدينة، ولم تتمكن من اقتحام الهلال القبلي الذي يشكل بنغازي الكبرى.
أنصار الشريعة ـ درنة كان يقودها سفيان بن قمو، وهو معتقل سابق في خليج غوانتانامو، وكان مقرها الرئيس يقع في غابة بومسافر خارج درنة. وعلى الرغم من تأكيد بن قمو أن الموقع كان وسيلة للمجموعة لحماية محطة توليد الكهرباء في البلدة، فمن المرجح أن المجموعة اضطرت إلى تحديد موقعها خارج البلدة بسبب وجود كتيبة شهداء أبو سليم الأقوى بكثير، بقيادة المقاتل السابق بالجماعة الإسلامية المقاتلة سالم الدربي. كما أنشأت أنصار الشريعة فرعاً في سرت في يوليو/ تموز 2013، متعهدة بضمان تطبيق الشريعة “في كل شيء”. كانت هناك أيضاً بذور لفروع في عدد قليل من البلدات الصغيرة.
ومع ذلك، لم تنجح أنصار الشريعة أبداً في الحصول على أي موطئ قدم حقيقي في العاصمة أو في التوسع خارج هذه المناطق. وعلى الرغم من محاولات الزهاوي إعادة تسمية الجماعة تحت مظلة واحدة، أنصار الشريعة-ليبيا، في أعقاب اتهامات بتورطها في الهجوم على البعثة الأمريكية في بنغازي في سبتمبر / أيلول 2012، ليس هناك ما يشير إلى وجود أي رابط تنظيمي أو تنسيق جدي بين هذه الفروع. علاوة على ذلك، في حين أن المجموعة معجبة بالتأكيد بتنظيم القاعدة، إلا أنه لم يكن هناك سوى القليل مما يشير إلى وجود أي صلة رسمية بالتنظيم. وبدلاً من ذلك، مثل القوى والألوية الجهادية الأخرى، عملت فروع أنصار الشريعة هذه كمجموعات مستقلة تدور حول قادتها.
ومع ذلك، فإن “حملة الكرامة” التي أطلقها حفتر في مايو / أيار 2014، والتي تهدف إلى القضاء على العناصر الإسلامية من جميع الأطياف في بنغازي، كانت بمثابة إعادة رسم خطوط المشهد المسلح في الشرق. وفي مواجهة مثل هذا العدو الشرس، اجتمعت القوى الإسلامية المختلفة، بما في ذلك أنصار الشريعة، معًا لتشكيل مجلس شورى ثوار بنغازي الذي تعهد بهزيمة حفتر. ومع ذلك، في حين أن هذه القوى ربما كانت على استعداد للقتال جنباً إلى جنب، إلا أن الخلافات بينها كانت عميقة جدّاً، حيث لا يمكن التغلب عليها حتى في مواجهة عدو مشترك.
وفي الواقع، أدى إطلاق “عملية الكرامة” إلى مزيد من الانقسامات داخل بعض القوى الإسلامية. وظهر انقسام داخل اللواء 319، على سبيل المثال، بين العناصر المتشددة بما في ذلك سليم نبوس، الذي سعى للقتال ضد حفتر، وهؤلاء ذوي الميول السلفية، بقيادة أدمين التاورغي، الذين فضلوا البقاء على الحياد. وعندما رفض فصيل التاورغي تسليم أسلحة وذخائر اللواء، قام فصيل نبوس بالاشتراك مع بعض عناصر أنصار الشريعة بشن هجوم دموي على معسكر اللواء في بوعطني، مما أسفر عن مقتل 14 عنصراً من مجموعة التاورغي، من بينهم التاورغي نفسه الذي تعرض للتعذيب وقطع الرأس.
أما بالنسبة إلى مجلس شورى ثوار بنغازي، فقد كان هذا التحالف دائماً عبارة عن زواج مصلحة يضم قوى ذات مواقف ووجهات نظر مختلفة. وكما أشار أحمد حسن مشيتي، عضو مجلس شورى ثوار بنغازي، “كان لكل واحد منا موقفه الخاص. أيديولوجيتنا ليست هي نفسها”. وبالمثل، لاحظ العرادي عن مجلس شورى ثوار بنغازي أن “هذه الألوية جميعها قاتلت القوات التي كانت حول حفتر لكنها لم تكن واضحة بشأن موقفها تجاه الدولة، ولم تكن متحدة حول رؤية واحدة. وكان بعضهم من الثوار الملتزمين بشرعية الدولة، وكانوا يرفضون حمل السلاح ضدها. وكانت كتائب وقيادات أخرى أقرب إلى فكر داعش والقاعدة، وكان بعضهم يرفع أعلام هذين التنظيمين ويتبنى شعاراتهما”. وبالتالي، في حين أن مجلس شورى بنغازي يحتوي بالتأكيد على الكثير من العناصر المتطرفة العنيفة، إلا أنه لا يمكن طلاء التحالف بأكمله بنفس الفرشاة، بل كان يمثل بدلاً من ذلك تجمعاً انتهازياً للقوى ذات الميول الإسلامية التي سعت إلى منع بنغازي من الانزلاق من أيديها.
إلا أنها لم تنجح في نهاية المطاف، وفي عام 2017، هزم حفتر، بمساعدة السلفية المدخلية والقوات القبلية، مجلس شورى ثوار بنغازي، مما يمثل نهاية وجود هذه الجماعات في بنغازي وفي الشرق على نطاق أوسع. كما تم القضاء على مجموعات مماثلة ظهرت في درنة وأجدابيا، وعلى الرغم من عدد من محاولات العودة، مثل كتائب الدفاع عن بنغازي، وهي مجموعة فضفاضة من فلول مجلس شورى ثوار بنغازي نجحت لفترة وجيزة في الاستيلاء على موانئ النفط في رأس لانوف والسدرة من حفتر في مارس / آذار 2017، تم حل المجموعة بعد ثلاثة أشهر. وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت أيضاً جماعة أنصار الشريعة، التي دمرتها حملة حفتر، عن حل نفسها.
ولذلك نجح حفتر في دق المسمار في نعش الجهاديين في شرق ليبيا على الأقل. لكنه بذلك فتح الباب أيضاً أمام التيار السلفي الذي تمكن تحت رعايته من التوسع وفرض نفسه في المناطق الخاضعة لسيطرته. وفي مقابل الدعم العسكري، حيث يشكل المقاتلون السلفيون بعضاً من أقوى ألوية الجيش الوطني الليبي، منح حفتر السلفيين السيطرة على المجال الديني في الشرق. على سبيل المثال، استخدم السلفيون المدخليون الأوقاف الشرقية لتحقيق أجندتهم الأيديولوجية، حيث أصدرت لجنة الإفتاء العليا فتاوى ضد سفر النساء دون مرافق والتجمعات والمظاهرات المختلطة بين الجنسين. ومع ذلك، في حين أن هؤلاء السلفيين ربما لعبوا دوراً رئيسياً في مساعدة حفتر على بسط سلطته على مدن ومناطق أخرى، إلا أنهم بعيدون عن الوحدة وهم قوة متباينة مثل كل شيء آخر في ليبيا.
الدولة الإسلامية
وصل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى نهاية صعبة مماثلة، على الرغم من هزيمته على يد تحالف من القوات بقيادة مصراتة وليس على يد حفتر. ومع أن وجود تنظيم الدولة الإسلامية جذب الكثير من الاهتمام الإعلامي، إلا أن تجربة التنظيم في ليبيا كانت محدودة وكانت قوته ومدى انتشاره مبالغاً فيها في كثير من الأحيان. وفي حين أن تنظيم الدولة الإسلامية حظي بلحظته بالتأكيد، فقد أثبت عدم قدرته على البقاء في الساحة الإسلامية المجزأة وشديدة التنافسية. وحتى في ذروته، فشل في السيطرة الحقيقية على سرت والمنطقة المحيطة بها، وكان دائماً تقليداً سيئاً ومعيباً للجماعة في العراق.
وكان وجوده في ليبيا محدوداً دائماً، واستغرق عدة أشهر للقيام بأول غزو حقيقي له. منذ ظهوره العلني الأول في درنة في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، عندما أعلنت مجموعة من الشباب مبايعتها للخليفة أبو بكر البغدادي، استغرق الأمر حتى فبراير/ شباط 2015 ليتمكن من السيطرة على النوفلية، وهي بلدة صغيرة اشتهرت بالتشدد الإسلامي حتى في عهد القذافي، وحتى مايو/ أيار 2015 للاستيلاء على سرت، وهو أول غزو إقليمي كبير للتنظيم في ليبيا.
ولم يكن سقوط سرت في أيدي التنظيم محض صدفة. كانت سرت مسقط رأس القذافي، وموطن قبيلته ـ القذاذفة ـ وعلى هذا النحو، قاومت ثورة 2011 حتى النهاية المريرة. وهكذا، بينما استولت القوات الثورية التي انبثقت من الداخل على مدن أخرى في ليبيا، سقطت سرت في أيدي القوات الخارجية التي هزمت المدينة. قامت هذه القوات، التي كان العديد منها من مصراتة، التي كانت لها علاقة عدائية تقليدية مع سرت، بنهب المدينة، وأطلقت العنان لانتقامها، مما دفع الآلاف من السكان المذعورين إلى الفرار. وبمجرد أن انقشع الغبار، ترك المنتصرون سرت في أيدي كتيبة ثوار سرت التي تم إنشاؤها حديثاً، والتي كانت تتألف بشكل رئيس من قدامى المحاربين في الجهاد في أفغانستان والعراق، فضلاً عن سجناء أبو سليم السابقين. وعلى الرغم من أن بعض أعضاء هذه القوة جاءوا من سرت، كانت أيضاً مرتبطة بقوة بمصراتة، حيث تم تدريب العديد من كوادرها على يد كتيبة الفاروق، وهي قوة مصراتية معروفة بنظرتها الإسلامية المتشددة.
وعلى الرغم من وجود عدد قليل من القوى الأخرى في سرت، بما في ذلك القوات القبلية، فإن كتيبة ثوار سرت هي التي قامت بتشكيل اللجنة الأمنية العليا في سرت، والتي حظيت بدعم كبير من مجلس مصراتة العسكري المتشدد. وكانت هذه القوات نفسها هي التي قامت، بدعم من كتيبة الفاروق، بتأسيس فرع سرت لتنظيم أنصار الشريعة عام 2013. وكان قائد أنصار الشريعة في سرت هو أحمد علي الطير، وهو من مصراتة، وكان أحد مؤسسي كتيبة الفاروق.
وعلى هذا النحو، تمكنت أنصار الشريعة من ترسيخ وجودها في المدينة، مستفيدة من حقيقة تمزق النسيج الاجتماعي في سرت. وكانت القبائل الرئيسية المرتبطة بالنظام السابق، بما في ذلك القذاذفة والورفلة وأولاد سليمان، قد انسحبت بالفعل من المشهد، بعد أن أعلنت منذ بداية الثورة رفضها الانخراط في نظام ما بعد 2011. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن هناك قوة ثورية إسلامية منافسة من المدينة يمكنها معارضة استيلاء أنصار الشريعة على السلطة. هذا لا يعني أنه لم يكن لديهم أي منافس على الإطلاق. ففي يوليو/ تموز 2013، على سبيل المثال، حاولت كتيبة شهداء الزاوية، بقيادة ضابط الجيش السابق صالح بو حليقة من بنغازي، الحد من تقدمهم ونجحت في قتل الطير في غشت / آب 2013. ومع ذلك، احتشدت القوات في مصراتة بسرعة، وأرسلت مقاتلين إلى سرت لطرد بو حليقة. إن الجمع بين الدعم القوي من مصراتة وحقيقة أن السلطات الجديدة في البلاد أدارت ظهرها للمدينة، معتبرة إياها من بقايا النظام القديم، كان يعني أن مقاتلي أنصار الشريعة كانوا يتمتعون بحرية الحركة إلى حد ما.
وبحلول الوقت الذي ظهر فيه تنظيم الدولة الإسلامية، كانت البيئة قد أصبحت مهيأة بالفعل لكي يزرع التنظيم نفسه. وقد أعلن العديد من أعضاء أنصار الشريعة في سرت ولاءهم لتنظيم الدولة الإسلامية عام 2015 فيما كان بمثابة تغيير في العلامة التجارية أكثر من مجرد استحواذ. ومع ذلك، فإن وصول تنظيم الدولة الإسلامية إلى سرت لم يحظ بدعم جميع أعضاء أنصار الشريعة، مما أدى إلى انقسام آخر داخل المعسكر الإسلامي. رفض بعض الأعضاء، بما في ذلك عمار سعيد وخليفة برق، الانضمام إلى التنظيم، واختاروا الذهاب إلى بنغازي للانضمام إلى القتال ضد حفتر بدلاً من ذلك. وحدث الشيء نفسه في النوفلية، حيث رفض أمير أنصار الشريعة، غيدان النوفلي، الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية، واختار التمركز مع قواته في مستودع للأعلاف خارج المدينة.
وبالتالي، حتى بين هذه العناصر الأكثر تطرفاً، لم تكن جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية كافية ليكون قادراً على توحيد التيار المتطرف. وفي حين أن تنظيم الدولة الإسلامية ربما اجتذب بعض الشباب من مدن أخرى، فضلاً عن مجموعات من العناصر المتطرفة الأجنبية، إلا أن جاذبيته لم تكن عالمية. في الواقع، على الرغم من أن بنغازي كانت موطناً لبعض أكثر المتشددين تطرفاً، لم يتمكن تنظيم الدولة الإسلامية من اجتذاب إلا عدداً قليلاً من الأتباع في المدينة. وبينما تمكن من كسب بعض الدعم في درنة، فقد تفوقت عليه عناصر مسلحة أخرى بسهولة وطاردته، بقيادة كتيبة شهداء أبو سليم، التي كانت متجذرة محلياً في المدينة. وفي صبراتة، بقي التنظيم مجرد خلية صغيرة لم يكن لها أي تأثير حقيقي.
وعلى الرغم من الفوضى وانعدام القانون في ليبيا ما بعد القذافي، ظل نطاق التنظيم محدوداً ومقيداً بعدة عوامل بما في ذلك جغرافية البلاد، والمشهد الإسلامي المزدحم والتنافسي للغاية الذي يضم مجموعات كانت أكثر رسوخاً في الخريطة المحلية. بالإضافة إلى ذلك، وعلى النقيض من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، لم يتمكن تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا من اللعب على الديناميكيات الطائفية، ولم يكن نقطة جذب لأفراد النظام السابق. وعلى الرغم من التقارير الواردة في بعض وسائل الإعلام، والتي تفيد بأن قبائل أو وجهاء من العشائر المرتبطة بالنظام السابق قد أعلنوا ولاءهم لتنظيم الدولة الإسلامية، لا يوجد دليل ملموس يشير إلى ذلك. ولو أن هذه القبائل دعمت التنظيم بأي شكل جدي، لما تم طرده بهذه السهولة.
وعلى هذا النحو، بمجرد أن أطلقت مصراتة حملتها للسيطرة على سرت، أصبحت أيام التنظيم معدودة. وبمساعدة الضربات الجوية الأمريكية، نجح “البنيان المرصوص”، وهو تحالف من كتائب من مصراتة، يضم قوات ذات توجهات إسلامية، في طرد تنظيم الدولة الإسلامية والاستيلاء على المدينة، مما أسفر عن مقتل واعتقال العديد من قادته وعناصره.
منذ هزيمته في سرت، ناضل ما تبقى من تنظيم الدولة الإسلامية لجعل وجوده محسوساً. تُتهم فلول التنظيم بارتكاب عدد من هجمات الكر والفر في المناطق الصحراوية، كما حدث في مايو / أيار 2017، عندما هاجم مقاتلو داعش مشروع اللد الزراعي، جنوب سرت، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2018، عندما شنّوا هجوماً على بلدة الفقهاء الصحراوية النائية في الجفرة. وفي الآونة الأخيرة، فجر انتحاري نفسه عند نقطة تفتيش في سبها في هجوم أعلن التنظيم مسؤوليته عنه. ومع ذلك، من الصعب التأكد من صحة مسؤولية داعش عن هذه الهجمات، بالنظر إلى أنه في البيئة الفوضوية والمتنازع عليها، كان من المفيد لكلا طرفي الصراع في ليبيا أن يطلقوا على خصومهم اسم تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حين أن داعش لا يزال لديها عناصر تعمل في الصحاري الجنوبية، فقد فشلت هذه العناصر في استغلال المساحات الشاسعة غير المسيطر عليها بأي طريقة مرئية أو ملموسة.
وعلى هذا النحو، يبدو أن مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية محكوم عليه بالفشل. وفي الواقع، في ضوء الصعوبات التي واجهها التنظيم في تثبيت نفسه في ليبيا عندما كان في ذروته وظروفه شبه مثالية، يبدو من غير المرجح أن يظهر مرة أخرى بأي شكل ذي معنى. وربما كانت التحذيرات من كونه في وضع يسمح له “بالنمو بشكل أقوى في ظروف الحرب الأهلية”، ومن قدرته على “الانبعاث على نطاق واسع”، مبالغ فيها. وهذا لا يعني أنه ليست هناك عناصر متطرفة في ليبيا تطمح إلى نوع من الأيديولوجية المتشددة التي يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية. ومع ذلك، أثبتت ليبيا في نهاية المطاف أنها معادية للتنظيم الذي لم يتمكن من ترسيخ نفسه في مشهد مسلح مكتظ تهيمن عليه الشخصيات والإقطاعيات.
التدخل التركي
مع هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سرت وطرد مجلس شورى ثوار بنغازي ونظرائه في درنة وأجدابيا من الشرق، أصبح غرب ليبيا المركز الرئيسي لما تبقى من المشهد الإسلامي في ليبيا. لكن هذا المشهد لا يقل فوضوية. منذ الإطاحة بالقذافي، كان غرب ليبيا يعج بالمجموعات المسلحة ذات الألوان المختلفة، وكل منها مدينة لقادتها أو مناطقها الخاصة. وعلى الرغم من أن العديد من هذه القوى اجتمعت معاً تحت راية تحالف فجر ليبيا، كافح هذا التحالف من أجل الحفاظ على تماسكه، وانخرطت مكوناته بلا نهاية في حروب على النفوذ من أجل الهيمنة وجني ثمار السيطرة على الهيئات الرسمية والمباني والتدفقات المالية.
أصبحت هذه الانقسامات أكثر وضوحاً عام 2016 مع وصول حكومة الوفاق الوطني المدعومة دولياً، عندما قامت مجموعة من القوات في طرابلس، بقيادة القادة السلفيين المدخليين بشكل رئيسي، بوضع نفسها، لأسباب انتهازية، كحارس أمني للسلطة التنفيذية الجديدة. وقد حدث انقسام بين القوى، التي ضمت قوة الردع الخاصة وكتيبة ثوار طرابلس، والتي وضعت نفسها اسمياً تحت قيادة وزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، والقوى الإسلامية الأكثر تشدداً والموالية لمفتي ليبيا المتشدد الشيخ صادق الغرياني. رفضت هذه المجموعة الأخيرة حكومة الوفاق الوطني تماماً، معتبرة إياها بمثابة فرض إمبريالي يخدم ما اعتبروه القوى المضادة للثورة في الشرق. كما اعتبروا أن القوى المدخلية السلفية تعمل كناقل للنفوذ السعودي، على الرغم من أن مدى الدعم السعودي لهذه العناصر لا يزال غير واضح.
وفي حين لم يكن هذا الانقسام واضح المعالم بأي حال من الأحوال، وبينما كانت هناك قوى أخرى موجودة في الغرب لم تندرج في أي من المعسكرين، اشتدت المنافسة بين هذين الاتجاهين الرئيسيين في نهاية عام 2016، عندما بدأت القوات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني في اعتقال وسجن عناصر من مجلس شورى ثوار بنغازي، الذي كان يدعمه الغرياني وأنصاره. والأكثر إثارة للانتباه هو أنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، اتُهمت عناصر من قوة الردع الخاصة باختطاف وقتل الشيخ نادر العمراني، نائب الغرياني في دار الإفتاء. خوفًا من رد فعل عنيف من المعسكر الموالي للغرياني، شنت القوات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني ما وصفته بـ “ضربة استباقية” على خصومها المتشددين، وهاجمت مختلف الميليشيات المتشددة وطردتهم من العاصمة.
وعلى الرغم من أن هذه القوات المتشددة ظلت متخفية لفترة من الوقت، عادت إلى المشهد بشكل جماعي في أبريل / نيسان 2019، عندما شن حفتر هجومه على طرابلس. في هذا الوقت، قامت حكومة الوفاق الوطني على عجل بتشكيل تحالف “بركان الغضب”، حيث جمعت جميع القوى بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية للمساعدة في صد الهجوم. وعلى الرغم من خلافاتها مع حكومة الوفاق الوطني، رأت هذه الفصائل المتشددة في هذه الحملة فرصة للعودة مع تقديم نفسها على أنها قادرة على التدخل وإنقاذ الموقف.
ولذلك، أدى هجوم حفتر إلى تحفيز مجموعة واسعة من الجماعات الثورية والإسلامية، بما في ذلك السلفيين والجهاديين وأولئك ذوي النظرة الأكثر اعتدالاً، الذين وضعوا خلافاتهم جانباً للدفاع عن العاصمة. لقد قدموا قوة هائلة، وكما لاحظ بعض المتابعبن عن حق، فإن “منطق حفتر في الهجوم تجاهل حقيقة أن مجموعة مذهلة من الميليشيات الطرابلسية قد مُنحت حوافز سياسية واقتصادية للدفاع، على العكس من الفراغ الأمني في الجنوب والديموغرافيا القبلية في الشرق، حيث كان حفتر أكثر نجاحاً”.
ومع ذلك، لم تكن الحماسة الثورية وحدها السبب وراء طرد حفتر من طرابلس بعد ما يزيد قليلاً عن عام. ترجع هزيمة حفتر في جزء كبير منها إلى تدخل تركيا، التي قدمت مساعدة عسكرية كبيرة لحكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك إرسال وحدات كبيرة من المرتزقة السوريين للمساعدة في القتال. تم شحن قوات المرتزقة هذه، والتي كان معظمها من التركمان السوريين، الذين دربتهم تركيا في شمال سوريا، إلى ليبيا في مجموعات كبيرة مع وعد بالأجور وتوفير الرعاية الصحية وإمكانية الحصول على الجنسية التركية، فضلاً عن التهديد بالطرد من الجيش الوطني السوري. وكانت أنقرة تأمل من خلال هذه القوات إعادة توازن المعادلة العسكرية وتعويض التفوق الممنوح لحفتر من خلال الدعم الذي كان يتلقاه من مصر والإمارات وروسيا، بما في ذلك مرتزقة مجموعة فاغنر. والواقع أن الصراع في ليبيا كان يتغذى على التدخل المتواصل من قِبَل القوى الخارجية على الجانبين، والتي أدت إلى تفاقم الفوضى وإطالة أمدها.
وعلى الرغم من أن العديد من القوى في الغرب، بما في ذلك ذات التوجهات غير الإسلامية، رحبت بالتدخل العسكري التركي، كانت القوى الثورية الإسلامية والأكثر حماسة هي التي دفعت بقوة من أجل هذا التدخل. وكان من المتوقع أن يتطلع الإسلاميون إلى تركيا في هذا الوقت، حيث أصبحت تركيا، التي وقفت مع عملية فجر ليبيا عام 2014، بالفعل نقطة جذب رئيسية للإسلاميين الليبيين من جميع الأطياف. لم تكن بمثابة ملاذ فحسب، حيث فتحت أبوابها للفارين من الشرق، وكذلك لأولئك الذين أصبحوا يشعرون بعدم الارتياح بشكل متزايد في الغرب بعد وصول حكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك الغرياني نفسه، بل أصبحت مركزاً أيديولوجياً جديداً يدور حوله الإسلاميون الليبيون.
لذلك، كان من الطبيعي أنه في أواخر عام 2019، عندما بدا حفتر مستعدّاً لسحق القوات في الغرب بفضل دعم رعاته الإماراتيين والمصريين والروس، ضغطت القوى الإسلامية والشخصيات السياسية على حكومة الوفاق الوطني لقبول عرض تركيا بتقديم مساعدة عسكرية واسعة النطاق. ألمح رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين الليبية، في هذا الوقت، إلى أن رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج قد يجد نفسه وحكومته يسقطان إذا لم يقبل المساعدة العسكرية التركية. في غضون ذلك، انتقد الغرياني حكومة الوفاق الوطني لتباطئها في قبول المساعدة التركية، وأصدر فتوى تقضي بأن القواعد العسكرية التركية في ليبيا حلال (مسموح بها دينياً) ومقبولة قانوناً. وفي ظل هذا الضغط، ومع استعداد حفتر لتولي السلطة، لم يكن أمام حكومة الوفاق الوطني خيار سوى الامتثال.
وفي حين أدى دخول تركيا إلى الصراع إلى تحويل مجرى الحرب لصالح حكومة الوفاق الوطني، فإن وجودها المستمر في البلاد كان له تأثير أيضاً. وفي الواقع، يبدو أن الوجود التركي كان له إلى حد ما تأثير على استقرار مجموعة القوات في غرب ليبيا. لقد حدث انخفاض ملحوظ في القتال داخل الميليشيات منذ وصول تركيا، ويبدو أن طرابلس أصبحت أكثر استقراراً مما كانت عليه منذ فترة.
وهذا لا يعني أنه ليست هناك توترات أو اشتباكات منخفضة المستوى تندلع بين الحين والآخر. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الخلاف المستمر حول من يسيطر على الأوقاف، والذي يدور بين التيارات المدخلية السلفية وتلك ذات النزعة الإسلامية السياسية. ومع ذلك، يبدو أن أنقرة قد جلبت بعض مظاهر النظام، مؤقتاً على الأقل. ومع ذلك، في حين أن تركيا ربما ساعدت هذه القوى على وضع بعض خلافاتها جانباً، إلا أنها ليست أقرب إلى أن تصبح قوة أو حركة متماسكة. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومات المتعاقبة لتحويلها إلى قوات أمنية محترفة، ما زالت غير عملية كما كانت دائماً. وفي حين لا تزال هناك قوى ذات توجهات إسلامية تسيطر على أحياء وبلدات معينة، فإن هذه القوى لا تزال أكثر تركيزاً على ما يمكنها كسبه بدلاً من فرض أي أجندة أيديولوجية معينة. وعلى هذا النحو، تم استيعاب الإسلاميين من مختلف الأطياف في الفوضى الأوسع، تاركين مشهداً إسلامياً معقداً ومتشابكاً وأكثر مراوغة من أي وقت مضى.
خاتمة
لقد فتحت الإطاحة بالقذافي الباب أمام مجموعة واسعة من الفصائل والقوى الإسلامية التي برزت إلى الواجهة بعد أكثر من 40 عاماً من القمع. إن الفوضى التي اجتاحت البلاد في ذلك الوقت، فضلاً عن غياب أي سلطة مركزية مناسبة، وتوافر الأسلحة بسهولة، والتهميش الكامل لأولئك المرتبطين بالنظام السابق، بدت على السطح وكأنها توفر بيئة مثالية للمتشددين. ولكن على الرغم من انتشار القوى الإسلامية، بما في ذلك العناصر الجهادية، فإنها لم تنجح قط في تشكيل أي قوة إيديولوجية موحدة أو متماسكة يمكن أن تمتد إلى ما هو أبعد من المستوى المحلي.
ومع ذلك، لم يكن الإسلاميون وحدهم في فشلهم في إنشاء حركة ذات امتداد أو جاذبية وطنية. لم تنشأ قط أي حركة وطنية عضوية حقيقية في ليبيا، التي تم دمج مناطقها الثلاث معاً عند الاستقلال عام 1951. وكان النظام الملكي في ليبيا دائماً نتاجاً للشرق، وعلى الرغم من أن انقلاب القذافي عام 1969 ربما اجتذب بعض الدعم، فإن جماهيريته الثورية فُرِضَت بالقوة الغاشمة. منذ وفاته، لم يكن هناك أي حركة وطنية قادرة على الانتشار في جميع أنحاء البلاد ككل. وكانت محاولات تشكيل الأحزاب السياسية مثيرة للشفقة، في حين ظلت الهويات الإقليمية والمحلية والقبلية قوية كما كانت دائماً. إن تبني نظام سياسي قائم على التوزيع مؤخراً، حيث يتم توزيع المناصب في حكومة الوحدة الوطنية المعينة حديثاً حسب المنطقة لاسترضاء مختلف المدن والقبائل والشخصيات هو دليل على ذلك.
ليس من المفاجئ إذن أن تظل الحركة الإسلامية الليبية تتسم بالانقسام والخلاف. وفي حين ستستمر العناصر الإسلامية في تمثيل عنصر مهم في الصورة الوطنية، فإنها ستبقى مجزأة مثل أي شيء آخر في البلاد.
الرابط:
https://www.hudson.org/national-security-defense/libya-s-islamists-a-fragmented-landscape