تقارير ودراسات

التموجات الجيوسياسية للصراع على السلطة في تركيا

وصل المناخ السياسي في تركيا إلى درجة الغليان بسجن أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول والمنافس الرئيسي للرئيس رجب طيب أردوغان. يعدّ إمام أوغلو، الشخصية البارزة في حزب الشعب الجمهوري المعارض، مرشحاً قويًّا للرئاسة، ويمثل اعتقاله فصلاً جديداً في استراتيجية أردوغان لترسيخ سلطته. ويتمثل جوهر هذه الاستراتيجية في هدفين محليين: تهميش المعارضين السياسيين ومواصلة قمع الأكراد. ويتماشى هذان الهدفان المحلّيان مع طموحات إقليمية أوسع ذات تداعيات جيوسياسية على منطقة الشرق الأوسط.

وُجهت لإمام أوغلو تهم “تأسيس وقيادة منظمة إجرامية، وقبول رشاوى، وسوء السلوك الوظيفي، وتسجيل بيانات شخصية بشكل غير قانوني، والتلاعب في المناقصات”، بل سعى الادعاء العام إلى اتهامه بـ”مساعدة منظمة إرهابية مسلحة”، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني (البي كي كي)، الذي يخوض صراعاً مستمراً منذ عقود مع الدولة التركية بسبب سياساتها القمعية ضد الأكراد. وعلى الرغم من أن المحكمة قضت بأن هذه التهمة تحديداً “لا تعتبر ضرورية في هذه المرحلة”، فإن الاستراتيجية الأوسع نطاقاً واضحة: ففي تركيا، يمكن بسهولة اتهام أيّ شخص يتحدى النظام الحاكم بالإرهاب بهدف إبعاده عن السلطة.

تثير قضية إمام أوغلو سخرية خاصة بالنظر إلى تاريخ حزبه؛ فمنذ تأسيس تركيا الحديثة عام 1923 على يد مصطفى كمال (أتاتورك)، رسخ حزب الشعب الجمهوري سياسة إنكار وجود كردستان وقمع الهوية الكردية، وهي سياسة اتبعتها جميع الأحزاب الحاكمة منذ ذلك الحين. واليوم، تُحوّل أدوات القمع التي استُخدمت سابقاً ضد الأكراد ضد الكماليين أنفسهم، كاشفة عن الطبيعة الدورية للقمع السياسي والاستبداد في تركيا.

ما يتكشف الآن ليس صراعاً من أجل الديمقراطية، بل هو صراع ما بين الأتراك للسيطرة على أجهزة الدولة. فعلى الرغم من تنافسهما الداخلي، يجتمع كلٌّ من حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية الحاكم – إلى جانب حليفه حزب الحركة القومية – على حقيقة واحدة مشتركة: حاجتهم إلى أصوات الأكراد للفوز في الانتخابات العامة المقبلة عام 2028 وترسيخ قبضتهم على السلطة. وهذا يضع الأكراد وحزب الشعوب والمساواة والديمقراطية المؤيد لهم في موقف صعب؛ إذ يسعى كلا الفصيلين إلى التلاعب بالتطلعات السياسية الكردية لتحقيق مكاسبهما الخاصة.

تُصنّف تركيا على أنها “دولة بنية” تجمع بين سمات الديمقراطية والاستبداد، إلا أن الديمقراطية والشرعية وحقوق المواطنة لا وجود لها فعليًّا في المناطق الكردية في جنوب شرق تركيا. منذ عشرينيات القرن الماضي، فرضت الحكومات المتعاقبة حالة الطوارئ لذرائع مختلفة استُخدمت جميعها لقمع الحقوق الكردية بشكل ممنهج.

من أحدث خطوات أردوغان محاولته استغلال عيد النوروز الكردي (رأس السنة)، وهو مناسبة ثقافية وسياسية مهمة للأكراد. يعتزم أردوغان اقتراح الاحتفال به جماعياً من قِبل “العالم التركي” تحت رعاية “منظمة الدول التركية” في مايو/ أيار 2025 في محاولة مدروسة لطمس الهوية الكردية من مهرجان حظرته الدولة التركية عام 1992، مما أسفر عن خسائر في الأرواح، ولا يزال يُعتقل ويُسجن من يحتفلون به.

تمتد آثار سياسة تركيا تجاه الأكراد إلى ما وراء حدودها. فبعد يوم من خطاب أردوغان في 21 مارس/ آذار، تجلت هذه العقلية الإقصائية في منطقة أرومية الكردستانية غرب إيران، حيث يشكل الأكراد أغلبية السكان. تجمعت حشود قومية أذربيجانية مدعومة من تركيا وأذربيجان – بدعم ضمني من النظام الإيراني – في أرومية بعد احتفال كردي حاشد بعيد النوروز، داعية إلى ارتكاب مجازر ضد الأكراد ومواصلة حملتها لنفي وجودهم. بالنسبة لأردوغان، تمتد “الجغرافية الروحية” لتركيا “من سوريا إلى غزة، ومن حلب إلى تبريز [في إيران]، ومن الموصل إلى القدس”.

يتبع أردوغان وحزب العدالة والتنمية – بدعم من حزب الحركة القومية المتطرف – استراتيجية مزدوجة: القضاء الممنهج على منافسيهم السياسيين، مع مواصلة سياسة تركيا الراسخة في حرمان الأكراد من حقوقهم. ويتجلى ذلك في جهودهم العبثية لتحقيق “السلام” – دون أي خطوات ملموسة – تجاه الأكراد في تركيا، وكذلك في تعاملهم مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، ودعوته لنزع سلاح الجماعات الكردية، بما فيها قوات سوريا الديمقراطية. يتلاعب أردوغان بهذه الديناميكيات لتحقيق أجندته في سوريا، بهدف نزع سلاح الأكراد وإبعاد معقلهم الكردي المستقل في روج آفا (غرب) كردستان عن خريطة الشرق الأوسط الجديدة. وفي الوقت نفسه، يدعم الحكومة الجديدة في دمشق لتوسيع نفوذ تركيا في المنطقة.

إن استمرار دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية – وهي تحالف مناهض لتنظيم داعش بقيادة الجنرال مظلوم عبدي – قد وضعها في مواجهة مباشرة مع طموحات تركيا التوسعية. تنظر تركيا إلى قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب الكردية ووحدات حماية المرأة التابعة لها، على أنها امتدادات لحزب العمال الكردستاني، وقد ضغطت باستمرار على واشنطن للتخلي عن دعمها. منذ عام 2018، شنت تركيا عدة هجمات عبر الحدود على سوريا واحتلت أجزاء كردية منها وأضفت عليها الطابع التركي. إن الهدف الاستراتيجي لأردوغان واضح: إضعاف القوة السياسية والعسكرية الكردية. ومن خلال ذلك، يسعى إلى القضاء على كيان كردي ذي إمكانية للاستقلال وإقامة دولة يمكن أن تتحدى السلطة التركية داخل حدودها، والتي تعد موطناً لأكبر عدد من السكان الأكراد – أكثر من 25 مليوناً- وخاصة في الجنوب الشرقي.

أبعد من سوريا، تمتد مناورات أردوغان إلى المشهد الجيوسياسي الأوسع. ففي الشرق الأوسط، سعى إلى ترسيخ مكانة تركيا كقوة مهيمنة، مستغلاً النفوذ العثماني التاريخي لاستقطاب السكان السنة. ويشمل ذلك تصعيد التوترات مع إسرائيل من خلال توسيع الوجود العسكري التركي داخل سوريا ما بعد الأسد، والتدخل لملء الفراغ الذي خلفته روسيا وإيران. وفي خضم التوترات الأمنية المتصاعدة بين أوروبا والولايات المتحدة، تسعى تركيا إلى إبراز صورة التحول – ليس من خلال الشراكات التقليدية واسعة النطاق، بل من خلال تأكيد نفسها كمركز قوة إقليمي. وقد تحول خطاب أردوغان نحو المواجهة، لا سيما بعد هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول على إسرائيل، حيث يخاطب قاعدته الإسلاموية ويعرب عن دعمه لحماس ضد إسرائيل. وقد ازدادت حدة هذا الخطاب في أعقاب دعوة إسرائيل لدعم الأكراد كحليف طبيعي في سوريا.

تكشف المعركة السياسية في تركيا عن حقيقة أعمق تتعلق بالسيطرة محلياً وخارجياً. بالنسبة للولايات المتحدة، تشكل صراعات السلطة الداخلية في تركيا، وطموحاتها الإقليمية الأوسع، وسياستها تجاه الأكراد، تحدياً استراتيجياً. يتعين على واشنطن أن تتعامل بحذر مع الحاجة إلى مواجهة حكم أردوغان الاستبدادي المتزايد ودعم حلفائها الأكراد في المنطقة وكبح جماح أجندة تركيا التوسعية.

الكاتب: لقمان رادبي

https://www.meforum.org/mef-online/the-geopolitical-ripples-of-turkeys-power-struggle

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى