الفكرة السياسية الإسلامية المعاصرة: صراع الروح الإصلاحية والعقلية المتطرفة – الراديكالية
المهمة الرئيسة لهذه الدراسة، هي الكشف عن طبيعة التحول الفكري والمنهجي للأفكار السياسية الإسلامية المعاصرة، وربطها بقضايا العولمة. يكشف المؤلف عن طبيعة الترابط بين العولمة وظاهرة الإسلام السياسي المعاصر. كما يسلط الضوء على الصراع المستمر بين تيارين رئيسين؛ هما التيار الإصلاحي والتيار المحافظ.
يكشف هذا المقال عن طبيعة الوضع عندما تتم تعرية الاتجاهات المحافظة والتقليدية بمختلف أشكالها المتطرفة والبدائية. ويشير هذا، بدوره، إلى مستقبل الفكر السياسي الإسلامي، ويطرح العديد من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بمنظور البدائل العقلانية بدلاً من مستقبل “الإسلام السياسي”.
يشير هذا الانقلاب الدراماتيكي في مسار تبلور الفكرة الإسلامية، وانتقالها من حالة الفكرة الإصلاحية إلى أكثر الأشكال بدائية، إلى طبيعة الأزمة التاريخية للفكرة السياسية الإسلامية. كما يعكس أيضاً مأساة الفكرة الإصلاحية. في هذه الحالة، نجد انعكاساً فكرياً وأيديولوجياً لطبيعة المسار التاريخي والحضاري للعالم الإسلامي. كما نحدد محاولات الخروج من هيمنة الأنساق الكبرى للمرحلة الدينية السياسية نحو الحداثة. لم يكن مصير الإصلاح الديني سهلاً، في كل تجارب الأمم. كما أنه عادة ما يمر بمراحل عنيفة ودموية. مع ذلك، فهو ينفي الفكرة الدينية نفسها، مما يؤدي بالضرورة إلى استبدالها ببدائل فلسفية عقلانية. هنا يكمن المستقبل الإشكالي للعالم الإسلامي.
مقدمة
تُظهر دراسة تاريخ الفكر السياسي الإسلامي وتطور مدارسه المهمة أنه يعكس جوهر التحولات المهمة في تاريخ الدولة والثقافة. يمكن للباحث تتبع التوجهات الكبرى والنماذج المفاهيمية، و”المراحل التأسيسية” الرئيسة لتكوين الدولة، والرؤية العالمية، والنظام السياسي، والجوانب الثنائية الأساسية كالدين والسياسة، التي انعكست بشكل واضح في الدين والسلطة والمجتمع (أي النظام السياسي)، وغيرها من الظواهر الأخرى.
من المفارقات اللافتة التي ارتبطت بصعود التيار السياسي الإسلامي الحديث أنه ظهر وساد في وقت كان المزاج العام والمتنامي هو “انتصار النهج الثوري”، والعلمانية، والعلم، والتقدم، لكل ما تراكم عبر قرون من التحديث. ظهرت الحركة الإسلامية كما لو أنها ظهرت بعصا سحرية. كان الأمر يذكرنا إلى حد ما بالوثنية، والأساطير التي تدعي أن الآلهة ليس من السهل تحويلها عن أهدافها.
من وجهات النظر الثقافية والتاريخية، التأمل في النماذج القديمة ليس سوى دليل واضح على أن الوعي النظري والعملي لم يتجاوز مخلفات المرحلة الثقافية والدينية، وعقليتها اللاهوتية في تقييم الواقع القائم ووعوده. إنه غير قادر بعد على رؤية المعاصرة من خلال منظور المستقبل، وليس باستطاعته التدقيق في ما هو قادم في ضوء المستقبل. في هذا الصدد، تصبح معالجة الماضي فعلاً ملحاً للوعي والسلوك. وفي الوقت نفسه، يتحول إلى عمل ضروري يساعد على تجاوز هيمنة النهج الديني الفقهي والانتقال منه إلى مرحلة أعلى من التطور التاريخي للأمم والوعي. تكرر الظاهرة الإسلامية الحديثة هذا المسار المفاهيمي، لكنها تهزمه عملياً كجزء لا يتجزأ من مستوى الوسطية الإسلامية المعاصرة.
لقد كانت وحدة الدين والحياة الدنيوية معياراً عقائدياً وإيديولوجياً، ذائباً ومؤثراً، في معظم مشكلات الفكر السياسي الإسلامي النظرية والعملية، مما جعلها نموذجاً عالمياً وحتمياً للتاريخ الإسلامي على مستويي الحس والعقل. لا تنفصل الوحدة عن تلك السمات التي رافقت تحول الإسلام إلى دين دولة. بالتالي، فقد تم تقديسها منذ البداية، لتصبح أداة إيديولوجية للسلطة، تستخدم حتى في أكثر المواقف ابتذالاً.
من الناحية التاريخية، كان ذلك نتيجة لخصوصية الاحتفال وانتشار الإسلام. تجلى نجاح الإسلام كدين في إمكانية انتصار الدولة اللاحق (الخلافة)، والذي كان انعكاساً عملياً لقوتها الروحية والأخلاقية والعقائدية والأيديولوجية. لقد أنشأ الإسلام الدولة والأمة كواقع، وفي الوقت نفسه، كفكرة. وفي هذا الصدد، تشترك كل من الدولة والأمة في السمات التاريخية والميتافيزيقية الأصلية.
العولمة والإسلاموية
بعد الحرب الباردة، تصدرت إشكالية “التهديد الإسلامي” و”صراع الحضارات” الصراع الأيديولوجي والسياسي. لقد جسد ظهور فكرة “التهديد الإسلامي” أهمية التقاليد السياسية الأوروبية المركزية، أي التقاليد المنفصلة عن التراث الثقافي العقلاني والإنساني لأوروبا، والتي تكمل، في بعض جوانبها، التراث اللاعقلاني للثقافة الأوروبية نفسها.
بعبارة أخرى، لا تزال أوروبا أسيرة الصور النمطية التي طالما كانت حاضرة في التقاليد الأيديولوجية والسياسية الأوروبية المركزية، حتى عند الإدراك والتبرير العقلاني لهمجية بعض الحركات الإسلامية السلفية الراديكالية. من هنا يأتي التكرار الفوري والمخيف لهذه الأساليب في جميع وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمطبوعة في حال وقوع أي عمل إرهابي. ولعل المثال التقليدي على ذلك هو ردّ الفعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بالرغم من أن عدد الأفعال الشنيعة وجرائم القتل الهمجية التي ارتكبتها الولايات المتحدة وأوروبا على مدى القرون الماضية والعقود الاخيرة، بما في ذلك ما حدث وما يزال يحدث في العراق منذ احتلاله من قبل القوات الأمريكية، هي أكبر بآلاف المرات من أفعال الإسلاميين.
إنها ليست ظاهرة مصطنعة بقدر ما هي انعكاس لجوهر الإدراك المشوه لما يمكن تسميته بآفاق البدائل المحتملة الخفية لـ “العالم الإسلامي”؛ ومن ثمَّ، غياب الحدس القادر على استيعاب وفهم العلاقات الجديدة بين الإسلام والسياسة من منظور البدائل الممكنة، وكذلك الروابط بين المصالح السياسية والخيارات الممكنة من منظور انتمائها الطبيعي إلى التراث التاريخي والثقافي الخاص.
يمكن للمرء أن يلاحظ هذا الارتباط الخفي وراء الصيغة الأيديولوجية التي بدأت تنتشر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وولادة فكرة “نهاية التاريخ”، وهي الدعاية المزعجة لتفرد النموذج الأمريكي. لقد وجدت ردّها “الأيديولوجي” في “صراع الحضارات”، الذي لم يكن سوى فرضية خاصة قبل الأحداث الدراماتيكية التي رافقت العهد المؤقت لـ “الأحادية القطبية”؛ أي ظهور نماذج أيديولوجية مختلفة من السلام الأمريكي. لقد قدم المستشرق برنارد لويس عدة أحكام مماثلة حول الإسلام في مقاله “جذور الغضب الإسلامي” الصادر عام 1990، وكذلك في كتابه “الإسلام والغرب” الصادر عام 1993. أما بالنسبة إلى صموئيل هنتنغتون، فيمكن ملاحظة هذا التحول، والانقلاب البطيء، على سبيل المثال، في تطور آرائه حول هذا الموضوع.
كانت المواقف من الإسلام تتحدد، في النصف الأول من القرن العشرين، من خلال النهج الذي حددته الموسوعة البريطانية: كان الإسلام موضوعاً ومادة للبحث التاريخي. وكان يعدّ ظاهرة تاريخية وجزءاً من التراث، مثله مثل جميع حضارات وثقافات الماضي، غير أن الأحداث الدراماتيكية التي رافقت الثورة الإيرانية (1978-1979) فرضت مراجعة هذا النهج. لقد تحول الإسلام إلى “لغز” جديد، أيقظ بين عشية وضحاها العديد من التقاليد الأسطورية، والدينية اللاهوتية والعلمية القديمة والحديثة. لقد اختلطت هذه التقاليد بسمات سياسية وأيديولوجية قوية، والتي كانت عناصر من مرحلة تاريخية مضطربة، وُصِفت بذروة الرومانسية الثورية على نطاق عالمي.
ليس من قبيل المصادفة أن المصطلح الأوروبي “الإسلاموية” قد ظهر في فرنسا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، مصبوغاً باللون البنفسجي ومثيراً للتعاطف. كان ذلك انعكاساً للأجواء الثورية في أوروبا، وعلى وجه الخصوص، في فرنسا أواخر الستينيات، وكذلك في “العالم الثالث” في ذلك الوقت، حيث نضجت وتطورت الحركات اليسارية، والمدارس الفكرية، والأيديولوجيات، المتنوعة في الشكل، والمضمون، والتوجه. للمرة الأولى، ظهرت بوادر التمييز بين الإسلام القديم، بوصفه تراثاً ثقافياً، والإسلام الجديد، بوصفه تراثاً سياسياً وأيديولوجياً. لقد تركت وجهة النظر هذه بصماتها في التمييز بين الإسلام (الديني والثقافي) والإسلاموية (الدينية والسياسية). أدى ذلك إلى اختلافات في التفسير والشرح، ومن ثم في وجهات النظر والأحكام. يرى البعض أن الإسلام ليس ديناً سياسياً، والبعض الآخر يرى أن المكونات السياسية والثقافية للإسلام تتشارك الجذور.
من ناحية أخرى، رأى آخرون أن الإسلاموية ظاهرة شائعة إلى حد ما يمكن العثور عليها في مناطق مختلفة من العالم في ذلك الوقت: على سبيل المثال، لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية، والبوذية المتشددة في سريلانكا، والقومية السيخية في البنجاب. مع ذلك، يتميز الإسلام برفضه للاختلافات العرقية والقومية.
تم التعبير أيضاً عن مجموعة متنوعة من الآراء حول تعريف الأصولية الإسلامية؛ رأى البعض أن إحدى السمات الأساسية للأصولية الإسلامية هي “إتاحة الاجتهاد”، بينما رأى البعض أنها ظاهرة خاصة، وثانوية، تختلف عما هو شائع اعتباره إسلاموية، وتتماشى مع أكثر المناهج صرامة وتقليدية. إنها تركز على الأهمية القصوى للشريعة بوصفها العنصر الأكثر حيوية في الإسلام. رأى العديد من المؤلفين أن الأصولية أكثر من مجرد إسلاموية، بينما لم يجد الآخرون فرقاً كبيراً بين المصطلحين على افتراض أن نوايا وأهداف مؤيدي الحركات الأصولية والحركات الإسلاموية متطابقة – على الأقل في التفسير الأمريكي الحديث. لقد ذهب بعض الباحثين المختارين إلى أن هذه كلها ليست أكثر من قشرة تخفي تحتها مجموعة واسعة من الحركات: متعصبة ومتعددة، وتقدر وتعارض المعرفة العلمية، وتهدف إلى تحقيق التواضع والخوف من الله، وتميل إلى العمل السياسي، ديمقراطية واستبدادية، سلمية وعدوانية.
تعاني معظم التفسيرات من خلل جوهري يتمثل في أن مؤلفيها يسعون نفسياً إلى إيجاد أسباب المشاكل القائمة وتبرير التطلعات من خلال بناء عناصر التحدي. الفرق هو أن التفسيرات الأوروبية تركز على فكرة المواجهة مع الغرب، بينما يصوغ المؤلفون العرب والمسلمون أفكارهم وفقاً للمنظورات القائمة ويتحدون أنفسهم.
يمكن القول إن عدداً هائلاً من الأعمال الأكاديمية المتنوعة، على غرار جزيئات الملح، تذوب في بحر الدعاية والمعلومات. هذا يؤدي تدريجياً إلى نقل المشكلة من ساحة البحث التاريخي والفلسفي إلى ساحة الصراع الأيديولوجي، والسياسي، والثقافي. إن وسائل الإعلام والدعاية تقدم الإشكالية المعقدة على أنها الأكثر وضوحاً، والأكثر عرضة للتشكيك. إذ يمتزج البحث العلمي المتنوع من حيث الجودة والمستوى مع الدعاية السمعية والمرئية والمعلومات المستمدة من المصادر المطبوعة والإلكترونية. في نهاية المطاف، أدى ذلك إلى غلبة ما يمكن تسميته بالسفسطة العالمية الحديثة في تحديد جوهر الظاهرة الإسلامية، وطبيعتها، وآفاقها.
لا نعني بالسفسطة العالمية هنا أكثر من الانغماس المتزايد في البحث التنافسي عن كل ما يدعم حداثةً وتجديداً يتعلق بأسرار الظاهرة الإسلامية الحديثة- وفي الوقت نفسه، محاولة اختزالها في مفهوم “الإسلام السياسي”، حيث يجمع كل ما له علاقة بالإسلام. نتيجة لذلك، تتحول الجوانب السياسية للإسلام إلى مؤشر أساسي، وربما يكون المؤشر الوحيد والشامل للظاهرة الإسلامية.
الإسلاموية والعولمة
من بديهيات التأملات الأكاديمية الحديثة حول العولمة أنها مرحلة تنموية عالمية فريدة من نوعها. تُعد العولمة ظاهرة تاريخية موضوعية؛ إنها مظهر معين من مظاهر التطور الرأسمالي العالمي. وبالتالي، فهي تعبر عن مجموعة من المظاهر وتعتمد على الرأسمالية وخصوصياتها، وتناقضاتها الحية، والحادة. تجسد هذه الظاهرة تاريخ الحداثة، وما بعد الحداثة، والثورة الرقمية. تُعد العولمة عملية سياسية، واقتصادية، وثقافية-تاريخية متكاملة، ومع ذلك فهي ظاهرة “غربيّة” بالمعنى التاريخي وذات منشأ أوروبي-أمريكي. لقد أدت العولمة إلى بلورة عينات فردية من القيم والعلاقات. لقد تم كل ما حدث وفقاً لمعايير التجربة الاستثنائية للغرب. أدت هذه العملية إلى مشاكل واسعة ومعقدة مع مرور الوقت بسبب ظهور وتطور مراكز سياسية، واقتصادية، وثقافية ملحوظة. نظراً إلى أن “الطريقة” الأوروبية الأمريكية تقوم على التنافس والهيمنة، فإن ذلك يؤدي إلى تراكم التناقضات والمواقف المتشددة إزاء كل ما يبدو غريباً بمعايير القيم الخاصة للفرد. يتجلى ذلك في الحالة الإسلامية الجديدة نسبياً، أو ما يسمى بـ “الإسلاموية”. تتسم العولمة بالتناقضات، كأي قصة حية وعظيمة. إنها قاسية إلى حد كبير جدّاً بسبب أولوية رأس المال وهيمنته.
تحظى مشكلة الإسلام والعولمة باهتمام كبير. هناك عدد كبير من الدراسات التي تهدف إلى الكشف عن آلية ونوعية تأثير العولمة على الإسلام ومكانة هذا الأخير وموقفه من العولمة. تبحث هذه الدراسات في ردود أفعال المسلمين الثقافية تجاه التحولات، والتناقضات، والتحديات التي يواجهها الإسلام الحديث في طريقه إلى القرن الحادي والعشرين. لقد أحدث الانتشار السكاني، وعولمة الثقافة، وقوى ما بعد الحداثة صدمة في العالم أكثر من أي وقت مضى. كان لهذه الأحداث عواقب بعيدة المدى على العالم الإسلامي والعلاقات بين الإسلام والغرب.
يرفع بنجامين ر. باربر، على سبيل المثال، المفهوم الإسلامي للجهاد إلى مستوى موضوع قطبي في التاريخ الحديث، مرتبط بالعالم المعولم (ماك وورلد)، أي العولمة المستمرة كما تبدو من منظور الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ويعتقد باربر أن العنف، الذي يمزق العديد مما يسمى بالمجتمعات الإسلامية، لا يعني فقط أزمة داخلية حادة، بل هو احتجاج تشترك فيه كل المجتمعات، حتى في الغرب، ضد القوى العمياء للعولمة المسماة عالم ماكدونالد.
أكد باحث آخر هو محمد أركون أنه مع انتشار العولمة، وصلت القوى الاقتصادية والمالية والتكنولوجية إلى الذروة والأولوية في العملية التاريخية، مما أفقد المثالية المجردة قيمها الروحية، والفلسفية، والأخلاقية، والسياسية، والقانونية. أما من حيث التطبيق الواقعي، فقد استُنتج أن قوى العولمة الاقتصادية والمالية لم تعد مهتمة بدعم الشعوب في الوقت الحاضر، تماماً مثل المستعمرين الرأسماليين البرجوازيين في القرن التاسع عشر. لقد كانوا مهتمين بتحرير المرأة، والطبقة العاملة، أو، بشكل أكبر، الشعوب المستعمرة.
عندما يُسأل أركون عما إذا كان الإسلام معزولاً عن العولمة، يجيب أركون: من الواضح إلى أي مدى يكون الإسلام، كغيره من التقاليد الحية الأخرى في الفكر، والثقافة والمعتقد، عرضة لإعصار العولمة الذي لا يمكن التغلب عليه. بالتالي، لا معنى للنظر إلى الإسلام كمملكة معزولة عن تاريخ الأديان، والثقافات، والحضارات. لقد تمخضت دراسات كثيرة عن فهم العلاقة بين العولمة والإسلام على المستويات المحلية، كما في العالم العربي، وآسيا الوسطى، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، وغيرها من الدول.
يدعي العالم العربي أن العولمة مؤامرة على الإسلام والثقافة العربية الإسلامية؛ إذ يرى الكثيرون، أنها مورد لقيم الغرب الفاسد أخلاقياً. بالمقابل، يدرك بعض المثقفين العرب أهمية النظام العالمي الجديد، ويدّعون أن العرب لو كانوا متعقلين وعقلانيين لاستطاعوا أن يجنوا فوائد جمة ويتجنبوا سلبيات العولمة. كما يرى آخرون أن المشكلة لا تكمن في تجنب العرب والمسلمين للعولمة، بل في مدى جاهزيتهم واستعدادهم لها.
في آسيا الوسطى، يُنظر إلى الإسلام والعولمة من منظور أن جميع الجمهوريات تواجه نفس المعضلة: كيفية الدخول في العولمة والحصول على مكان في الساحة الدولية، وفي نفس الوقت تأمين الاستقرار الداخلي من خلال تعزيز النظام في سياق عالمي يُنظر فيه إلى “الإسلاموية” على أنها المصدر الرئيس للاضطرابات. معظم دول آسيا الوسطى متوترة وقلقة بشأن سياستها في حكم الشعوب المنتمية إلى مجتمعات دينية.
من أهم القضايا الناشئة عن مشاكل الإسلام والعولمة قضية ما يسمى «الإرهاب الإسلامي». في الوقت نفسه، يعتبر الإسلام ومشكلة الإرهاب ظاهرة معقدة ومثيرة للجدل بجذورها، ووظائفها، وأسبابها، ونوعيتها. لكن، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحوّلت إلى معادلة بسيطة تحكمها رؤية وسائل الإعلام. في الوقت نفسه، فقد تم تناولها في دراسات مختلفة ومتنوعة من وجهة نظر قيمتها العلمية، خاصة تلك المتعلقة بهذه القضية في سياق العولمة.
خلافا لمعظم التوقعات، كانت عمليات العولمة عنيفة جداً وولدت صراعات، وعداءات، وعزلة جديدة في جميع أنحاء العالم. في الأصل، كان من المتوقع، أن تؤدي العولمة إلى توسيع رقعة السلام، وتوفير الازدهار الاقتصادي الذي لا يرغب الناس في التضحية به في الصراعات. بدلاً من ذلك، أدى فرض التكيف الهيكلي ومعاهدات السلام غير الشعبية وغير العادلة، مصحوبة بمكافحة الولايات المتحدة للإرهاب، إلى زيادة الاضطرابات وعدم الاستقرار.
هنا يبرز السؤال: هل من الممكن أن يكون هناك عالم معولم خالٍ من التمييز والعدوان؟ الإجابات مختلفة وأحياناً متعارضة؛ يعتقد البعض أنه ممكن، مما يعني ضمناً الاستعداد للحوار والتفاهم المتبادل. يتعين على المسلمين إعادة النظر في التعاليم الإسلامية لمكافحة استغلال القرآن والحديث والصور النمطية والتحيز ضد الإسلام والمسلمين. يرى آخرون أن التحيزات المعادية للمسلمين أصبحت مشكلة مركزية في معظم المجتمعات الغربية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر. هناك جانب أكثر خطورة من رهاب الإسلام (إسلاموفوبيا): ألا وهو تأثير الأصولية المسيحية على السياسة الخارجية الأمريكية والموقف من إسرائيل. تتمثل إحدى النتائج النظرية للعولمة في اختفاء الفرق بين الداخل والخارج، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، ويعني التفاعل بين المجتمعات الحديثة أن المشاكل السياسية في جزء من العالم يمكن أن “تلوث” البلدان الأخرى بسهولة.
تشير هذه التفسيرات إلى تباين في المواقف المنهجية والسياسية عند النظر في الظاهرة الإسلامية الجديدة؛ إذ تتميز معظمها برؤية أحادية وجزئية، ومن ثم تتسم بالتناقضات الحادة وضعف المنهج الموضوعي والعلمي. لا يمكن حل هذه التناقضات بطريقة منطقية وعميقة إلا برؤية فلسفية علمية. وهذا ما نثبته من خلال مفهوم الوسطية الإسلامية؛ إذ تسعى الرؤية المنهجية إلى تحديد سمات وآفاق الاتجاهات الإسلامية المعاصرة، وصراعها الداخلي، وصراعها المستقبلي.
الإسلاموية والوسطية الإسلامية
إن كل ما حدث ويحدث في العالم الإسلامي على مدار القرنين الماضيين هو شكل ومستوى مختلف ومغاير للظاهرة الطبيعية والتاريخية الجديدة للوسطية الإسلامية. إنها ظاهرة ضرورية وعابرة تشكل حلقة في سلسلة التطور التاريخي. تعكس تناقضات هذه الظاهرة وديناميكياتها أحداث القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، أو القرنين الرابع عشر والخامس عشر حسب التسلسل الزمني الإسلامي. إنها تعكس في جوهرها الخفي تاريخ الوعي القومي والثقافي، بينما تعكس في تجلياتها الخارجية حقبة القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن، بما أن المعيار الزمني الخارجي ليس أكثر من قشرة، لا قيمة لها بالنسبة إلى الوسطية الثقافية، فإننا يجب أن نتحدث عن قيمة البحث في تطورنا الجوهري، مما يؤدي إلى تفعيل الإسلاموية الحديثة كأحد تجليات الوسطية الإسلامية الجديدة.
يعكس تنشيط التوسع النظري والعملي (السياسي) للإسلام تنشيط وتوسيع حدود المعرفة الذاتية التاريخية والسياسية. لقد كان ذلك نتيجة لتطور العالم الإسلامي الحديث واستمراراً لتقاليده في آن واحد.
لا تُعد الوسطية الإسلامية تجربة عاطفية، ولا حالة مستقلة. بل هي تطور يتمثل في تفكيك الوعي. إنها تمثل، في الوقت نفسه تجسيداً وتخليداً لأسمى نماذج الوعي التاريخي والثقافي. وهي، في هذا الصدد، متنوعة في شكلها ومضمونها، وما ظاهرة الإسلاموية الحديثة إلا أحد تجلياتها، وأحد مستوياتها. لقد واكبت هذه الوسطية تشكيل وحدة جديدة بدأت تتراكم كوسيلة للبقاء والتقوية، سواء اتخذت شكل موقف سياسي وأيديولوجي مباشر في وعيها المفاهيمي، وفلسفتها الثقافية والحضارية، أو شكل موقف عملي مضاد، أو شكل استجابة سياسية، أو شكل استيعاب لتراث الأسلاف بطريقة جديدة. في ظروف هذا التشكّل فقط يمكن للعناصر المتداخلة للوعي، التي تقيّم مسار الأحداث وآفاقها، أن تتبلور في شكل مُثُلٍ. يفرض علينا هذا الأمر حتماً أن نبحث عن ركائز مادية ومعنوية في الماضي لتعزيز ثقتنا بأنفسنا. لقد كان هذا هو المبرر الوحيد للقاعدة الحالية والضرورية للعمل. لا توجد ثقة بالنفس دون وعي حر متناسب. كما أن الوعي الذاتي الحر لا ينشأ إلا من خلال الإبداع؛ أي من خلال القدرة على رؤية الحلول والبدائل وتبريرها. وهذا بدوره، يحفز مهام الإصلاح كوعي علمي وعملي للعودة إلى المبادئ الأصلية، أي كل ما يقود في النهاية إلى تحويل هذه المبادئ إلى مُثُل أو نماذج واسعة.
تُظهر قراءة التاريخ الإسلامي أن مُثُلَه العليا كانت مختلفة في مراحل مختلفة، بدءاً من بوادر التوحيد الأولى إلى فروع الروح الأخلاقية بأسرارها التي لا تنتهي. غير أن هذا التنوع، لا يكاد يكون موضوع اهتمام المدارس الأصولية المختلفة حتى يخرج عن كونه تاريخاً لأحداث متعاقبة، ويصبح كلاًّ رمزياً حياً، بما فيه من أفكار، وأحكام، ووصفات قرارات قديمة. من الناحية الموضوعية، هذا الكل الرمزي يتطابق مع الكل الإسلامي، ويمثل أحد أشكال ومستويات الوعي السياسي والحضاري. لقد هيّأ الشروط الكامنة والظاهرة، المباشرة وغير المباشرة على حد سواء، لتأسيس الوسطية الإسلامية في الوعي العام الحديث. علاوة على ذلك، نظراً إلى أن هذه العملية لا تتم من خلال الرفض الذاتي الجوهري – بسبب فترات طويلة من الانحطاط والركود – فإنها لم تتحول إلى ثورة عقلية أو أخلاقية كبرى تنظمها.
هذا ما يفسر المعنى الجزئي والمفيد لتزامن مرحلة النهضة الإسلامية (والوطنية) الحديثة مع حقبة الفتوحات الاستعمارية الأوروبية ومواجهتها. نتيجة لذلك، أصبحت الوحدة الإسلامية نموذجاً روحياً وأيديولوجياً للقوى الاجتماعية التقليدية والجديدة على السواء. لقد أدى ذلك تدريجياً إلى تهميش الوحدة الجوهرية للكل الإسلامي الذي كان مجمداً في عصر الانحطاط والفوضى، مما أيقظ ذكريات الإنجازات المنسية. لم تكن هذه العملية متناغمة من حيث تأثيرها على الوعي الاجتماعي والسياسي، نتيجة لذلك، أصبح الكل الإسلامي هو المستودع الوحيد للوعي الوطني والاجتماعي والحضاري، مما ساهم في “النهضة” التي غذتها جميع الحركات بلا استثناء: السلفية، والإصلاحية، والتجديدية. لقد طالت هذه العملية جميع القوى، بما في ذلك القوى غير المباشرة. مع ذلك، لم يكن هذا هو التماسك الإسلامي للوعي الوطني الحديث في مختلف بلدان العالم الإسلامي. فقد أنهى هيمنة الإسلام السلفي بتقاليده الميتة. في الوقت نفسه، انفتحت الأبواب أمام تعددية وتنوع جديدين. ونظراً إلى أن هذا الانفتاح لم يكن انفتاحاً ذاتياً بل نشأ تحت ضغط خارجي، فقد قوض سيكولوجية التحدي.
إن تشكيل التحدي المتصاعد كقوة كافية، وكخط فاصل قوي بين القصتين، والثقافات، و”الأمم” الدينية، في غياب التكافؤ “المعقول”، لم يكن ليخفق في إحداث تأثير عميق على تكوين ملامح وعي جديد. كانت الهيمنة الأوروبية، والرغبة في فرض معاييرها الحضارية، مدعومة بتفوق أوروبا الاقتصادي، والعلمي، والصناعي، وتكاملها الثقافي الذي تحقق في سياق حروب ضارية، وكسر البنية التقليدية، وتجاوز تشكيل التقاليد الأيديولوجية، والثقافية، للمركزية الأوروبية الجديدة. لقد أعطت المواجهة الجديدة بين الشرق والغرب، بين العالم الأوروبي الاستعماري، المشبع بروح الهيمنة، والغزو، وبين العوالم الشرقية آنذاك، بما فيها العالم الإسلامي، الصراع نكهة تاريخية، وثقافية، ودينية.
إذا لم يكن غزو العالم الإسلامي عسكرياً سهلاً، فإن إخضاعه في العلاقات الثقافية والدينية كان أصعب بكثير. لم تكن هذه الحقيقة واضحة للوعي الأوروبي، العام والاستعماري. من هذا المنطلق، فقد كان مأسوراً بالأوهام بشكل رئيسي، حيث ربط التفوق العسكري والتكنولوجي بالتفوق الثقافي والروحي. لم يكن يدرك حقيقة أن الثقافة عالم له وجوده الخاص، لا سيما إذا ما تحدثنا عن ثقافة ذات تاريخ عريق، أعرق من التاريخ الأوروبي، والتي ساهمت في التاريخ العالمي بما لا يقل عن الدور الأوروبي، وهي، في نواحٍ عديدةٍ، تتفوق على الأخيرة من حيث إنها وضعت الأسس الأصلية الكبرى للثقافة الإنسانية بشكل عام.
مع ذلك، توجد فترات قصيرة، في التاريخ، يفشل فيها الوعي في رؤية حقيقة وجوده. هذا ما حدث للوعي الأوروبي أيضاً. فقد نسي أو تغافل عن الطبيعة التاريخية للجوهر الثقافي، الذي تدهور في مسار التطور. لكن بينما بدا هذا الوضع بالنسبة للوعي الأوروبي، الذي كان في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين معارضاً للعالم الإسلامي، وكأنه جزء من اللعبة التاريخية، التي فرضها منطق الإكراه الحضاري، بدا بالنسبة إلى الوعي الثقافي الإسلامي، وكأنه أحد تقلبات القدر التاريخي. في كلتا الحالتين، أفرز ذلك تصورات متناقضة ومتعاكسة في الوعي الذاتي، أو في طرائق الوعي الأعمق للعالم الإسلامي بهويته الثقافية.
أدت هذه العملية إلى بروز عالم إسلامي جديد كعالم سياسي فتيّ محروم من الثقافة الهائلة. لقد أجبرت هذه العملية القوى التقليدية على التراجع مؤقتاً. لكن، فيما بعد، ومع فشل المشاريع القومية العلمانية، أحيت هذه القوى بدائل “الإسلام السياسي (القومي)” من خلال الدعوة للعودة إلى الجذور الأصلية، وإخضاع مختلف الأجزاء والمكونات للتاريخ الثقافي الإسلامي. منذ ذلك الحين، بدأت تتبلور ملامح حركة ثقافية، واجتماعية سياسية جديدة تتجسد في القوى الإسلامية التي تمثل عنصراً فكرياً وعملياً جديداً من عناصر المرحلة الانتقالية نحو الوعي الديني والسياسي.
فكرة إصلاح الإسلام
منذ البداية، قيَّم الإصلاح الإسلامي ذاته من خلال معايير العقلانية والأهداف العملية. ونتيجة لذلك، كانت الفكرة الإصلاحية مقيدة بمهمة التصور الجديد لمشكلات التاريخ والحداثة، مما فرض عليها النظر إلى آفاق ما وراء الأهداف العملية من خلال معايير فهم الهوية الثقافية.
لقد شعر المصلحون بقوة الانحطاط وضعف الروح الثقافية، وأدركوا ثبات التراث العقلاني وثبات التراث التقليدي الجامح، وكل ما جعل من الصعب التوفيق بين الروح “النضالية” والعقلانية. هذا ما قد يدفع إلى تركيز مشاعر السياسة الواقعية وملء الثقافة المستقطبة بروح عقلانية بحتة.
ينبغي أن نلاحظ أن الإصلاح الإسلامي له تقاليد عريقة، وشاملة، ومتنوعة. إنه مرتبط بالعملية التاريخية لتطوير الدولة والثقافة وعدد من قضايا السياسة العملية والفكرية. كما أنه مرتبط أيضاً بالطبيعة الحقيقية للإسلام كدين سياسي. يمكن أن تكون دولة الخلافة (دولة عربية وإمبراطورية إسلامية) أحد أمثلته، وفي الوقت نفسه، تجسيداً له. لقد تنوعت تقاليد الإصلاح والأفكار الإصلاحية، باستثناء أتباع المدرسة الحنبلية. أما الآخرون، فقد كان لديهم شخصيات بارزة.
تبرز الفكرة الإصلاحية عادة عندما تنغلق آفاق التطور التاريخي، وعندما يتغلغل الانحلال والفساد في كل مسام الوجود الاجتماعي. لقد واجه العالم الإسلامي هذه الحالة في القرن التاسع عشر عندما تحول كل شيء إلى “مزاد علني” أو منجم محتمل للمراكز الاستعمارية الأوروبية. على سبيل المثال، في العالم العربي، نلاحظ الملامح الخارجية والواقعية الجديدة للاتجاه الإصلاحي في شخصيات وأعمال الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، وآخرين. أما في العالم الإيراني، فقد تجلت في أعمال محمد حسين النائيني، وفي العالم الهندي – في أعمال سيد أحمد خان، وسيد أمير علي، ومحمد إقبال. كما تبرز شخصيات مثل شهاب الدين مرقاني، وحسين فايزهانوف، وإسماعيل غاسبيرالي، وموسى يارولا بيغيف، ومفتاح الدين أكمولا، وغيرهم الكثير في العالم التركي الروسي.
من خلال أعمالهم النظرية وأنشطتهم المرصودة، نكشف النقاب عن خصوصية المنهج الإصلاحي تجاه كمية ونوعية التحولات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والروحية في العالم الإسلامي آنذاك. من الأهمية بمكان أن هؤلاء المفكرين أعادوا النظر في ثنائية الدين والحياة العلمانية من منظور جديد ودون تحويلها إلى نموذج لاهوتي.
على سبيل المثال، كان الأفغاني (1838-1897) “يناور” بين تيارين باردين: الدولة العثمانية الاستبدادية المريضة والغرب التوسعي القوي، بل وضع هو ومحمد عبده (1849-1905) الأحجار الأولى لتأسيس الوعي السياسي في تاريخه. تنطوي هذه العملية على إدراك غاية العمل ومعناه. نتيجة لذلك، كان من الصعب على الإصلاح الإسلامي أن يدرك الحدود الأولية لعقلانيته السياسية. لقد كان الإصلاح يبحث في حدود العقلانية الثقافية من خلال الاحتكام المستمر إلى التراث الحضاري والأدبي والمدرسي المحفوظ، وكان الإصلاح يبحث في حدود العقلانية الثقافية.
ينقل الأفغاني معنى العمل السياسي من مجال الاستدلال العقائدي والمدرسي إلى مجال الوجود الأوسع للدولة والأمة. فهو يعرّف الجوهر السياسي للإصلاحات ليس في سياق نظام عقائدي، بل في سياق القدرة على الفعل. مع أخذ ذلك بعين الاعتبار، ينبغي أن نفهم اقتراحه بأن العقبات التي تواجه الإصلاح تمثل ساحة عمل ونشاط. يتحدث الأفغاني عن أهمية التعليم كمقدمة للعمل السياسي. كما يتتبع الجوانب السياسية الإصلاحية في المسيحية، ويطالب بـ “الاقتداء” بها، ولا يعني ذلك أكثر من دراسة مصادرها الموثوق بها في الإسلام. يرى الأفغاني أن الحركة الإصلاحية التي تدعو إلى العمل الحر وتنكر أي وساطة بين الله والناس هي “تقليد للدين الإسلامي” بمبادئه الأساسية.
حاول الأفغاني إثبات العقيدة الإسلامية من الناحية السياسية خلال صعود “الإسلام الثقافي” الإصلاحي، مستمدّاً من هذه العملية قوة وطاقة خلاقة. لقد تم ربط تراث الإسلام بالحداثة بطريقة تبرر مفاهيم الدولة والسلطة، إضافة إلى الوحدة الاجتماعية والسياسية والثقافية للعالم الإسلامي.
قام الأفغاني بمواءمة مفهومي الوحدة والقوة مع عقائد الإسلام الأساسية. فهو يكتب أن الموافقة والعمل المشترك “ركنان قويان، وركنان متينان من أركان الدين الإسلامي، وواجب لا غنى عنه على المتمسكين به”. وهو يعلي من شأن الوحدة في الآراء والأفعال إلى أعلى مراتب الشريعة، ولا يختزل المسألة في التقاليد الفقهية والقانونية، بل يجعلها مرتبطة بالتفعيل الحقيقي للعمل الاجتماعي والسياسي.
أما عن وجهة نظره في ضرورة الدولة وشكلها السياسي، فقد كان يميل إلى الاعتراف بجمهورية، أو ملكية محدودة، أو ملكية دستورية كأشكال مقبولة للحكم. يرتبط اختياره للنظام الديمقراطي الدستوري باقتناعه بأن هذا النظام هو التجسيد الأمثل للفضيلة السياسية، وشكل من أشكال تحقيقها الاجتماعي والأخلاقي. مع ذلك، لا يكتفي الأفغاني بنقد وحشية الدولة، وقمعها، وسوء سمعتها. فهو يرسم مثالاً رائعاً للحكومة “العارفة” أو “الاستشارية” كنموذج مثالي. لا يوجد برأيه مجال للاستبداد في دولة تحكمها مثل هذه الحكومة لأن سكانها قادرون على إدارة شؤونهم. علاوة على ذلك، فإن “التفاوض” لا يساوي “الشورى” التقليدية. والأفضل، أن يتوافق مع النظام الدستوري الديمقراطي. لكن، لا يوجد حتى الآن اعتماد على رؤية فلسفية للتاريخ. ولا توجد سوى مؤشرات على السمات الخارجية لهذه الحكومة أو تلك. مع ذلك، لا تؤخذ الشروط الحقيقية في الحسبان، لرفضها الاجتماعي والاقتصادي، وهو أمر طبيعي؛ لأن الدلالة العقلانية للعمل في ذلك الوقت كانت تعتمد فقط على ذاتها. من هنا، كان الدور الحاسم للمعرفة، والعقل، والأخلاق، والموروث الثقافي. إن تضافر كل هذه العوامل مجتمعةً في المواقف النقدية العملية للإصلاح الإسلامي كان مؤشراً على تحديد أهمية السياسة ودورها الحاسم. وقد توصل الأفغاني إلى هذه النتيجة من خلال تأملاته وأنشطته العملية.
على الرغم من أن مسار محمد عبده كان مختلفاً نسبياً في موقفه السياسي، إلا أنه يكمل ويوسع نطاق الأفكار الإصلاحية بالتركيز على الجوانب الثقافية، والأكاديمية، والتربوية. يتجلى هذا الاختلاف في عناصر “التفسير السياسي” العميقة للتاريخ الإسلامي عند محمد عبده، وفي “اشمئزازه” الأخلاقي والنفسي من السياسة. وفي رده على أولئك الذين يجدون سبب تخلف العالم الإسلامي في صراعاته الداخلية التي ترتبط، على عكس العالم المسيحي، بقضايا دينية وعقائدية، يشير عبده إلى أن الصراعات والحروب في الإسلام لم تحدث أبداً لأسباب تتعلق بالمعتقدات الدينية. لم يتحارب الأشاعرة مع المعتزلة والفلاسفة، كما أنهم لم يتحاربوا مع غيرهم، رغم الاختلافات الشديدة. أما النزاعات والحروب التي خاضها الخوارج، والقرامطة، والعباسيون ضد الأمويين، فقد كانت لأسباب سياسية. على الرغم من تطلع عبده إلى تنزيه الصراعات القديمة من الدوافع الدينية والدكتاتورية، فإن هذه العبارة، مع دقتها الأكاديمية، تعكس رغبته في تقديم أحداث التاريخ الإسلامي على أنها وقائع تاريخ سياسي.
يربط الباحث بين سلطة السياسة وسيكولوجية المغامرة وغياب الحقيقة وانتشار الأهواء الفاسدة. إذا كانت هذه الصياغة تعكس الروح الأخلاقية والإصلاحية لموقف عبده من “تاريخ السياسة”، فإنها تمثل نقداً محدداً للدولة العثمانية. إنه يكشف في “سياستها في نشر الأفكار السلبية، والخضوع للقدر، وقبول الخرافات” ليس عن تناقض فقط بل حتى نقيض مباشر لأسس الإسلام فحسب، بل عن طريقة أيضاً للحفاظ على الهيمنة السياسية. وهو يعدها “سياسة الظالمين والأنانيين”، الذين يجلبون إلى الدين ما هو غريب عنه. نتيجة لهذه السياسة، فإن الإسلام ليس هو الإسلام، بل صورته المبتورة.
بصفة عامة، يمكن القول إن اشمئزاز محمد عبده الواضح من السياسة، عند إدراكه لأهميتها بالنسبة إلى أحداث التاريخ القديم والواقع المعاصر، هو انعكاس للفهم الإصلاحي لأهمية الكفاءة السياسية، أو الوعي السياسي المتشبع بالقيم الأخلاقية السامية المندمجة في مفهوم أولوية الحقوق والقانون.
إصلاح الإسلام: من الثورة إلى السلفية
واصل محمد عبده مسيرة الأفغاني الإصلاحية، بينما كان الكواكبي يتجه نحو بعد سياسي بحت، فصاغ تصميمه للإصلاح في مجال سياسي بالدرجة الأولى، ليكون بمثابة أيديولوجيا الدولة والأمة. من هنا، كان تركيزه على نقد الاستبداد في كتاب “طبائع الاستبداد”، وتأسيس البدائل في كتاب “أم القرى”. كان هذا الثلاثي من المفكرين مصدر الفكرة السياسية والثورية الإصلاحية في ذلك الوقت، بينما تحولت مساهمة محمد رشيد رضا إلى ما يمكن تسميته بالخروج من الروح الثورية إلى السلفية.
تأثر التكوين الفكري والروحي لرشيد رضا (1865 – 1935) بالمواقف المتجمدة تجاه فكرة الإصلاح، والتي كانت حاضرة في الفكر الإسلامي بمعزل عن الاضطرابات التاريخية الواقعية. يصف رضا كتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي بأنه المصدر الأساسي لأفكاره. لقد ساعدته المصادفة السعيدة على التحول من فكرة إصلاح فكرة الإسلام القديمة إلى فكرة إصلاح الإسلام الجديد؛ وذلك من خلال اطلاعه على مجلة “العروة الوثقى” للأفغاني ومحمد عبده.
حوّل رضا فكرة أستاذه محمد عبده الإصلاحية، خلال مسيرة تطوره الشخصي، إلى مومياء جافة مصنوعة في ضوء الفانوس الخافت، في ظلام الصعود إلى مستقبل العرب الضبابي. لقد حصل رشيد رضا على موافقة عبده على إنشاء مجلة المنار، وضمن تأييده لفكرة تفسير القرآن. تتجلى أصداء هذه الصفقة في التقييم الفكري والسياسي الذي قدمه رشيد رضا لحياة محمد عبده وممارسته. ينطلق رضا من موقف إيفلين بارينغ، إيرل كرومر الأول، المراقب العام البريطاني في مصر، تجاه عبده وليس من نظرة شمولية لأنشطة عبده العلمية والعملية.
عدّلت العقدة السلفية، الحاضرة سرّاً في فكر رشيد رضا وموقفه من الإصلاح، بشكل تدريجيٍّ، تقييمه لمضمون، ومقاصد، وأهداف فكرة عبده الإصلاحية. لقد بلغ الفكر السياسي لرشيد رضا ذروته مع طرحه مسألة الدولة العربية وبنيتها السياسية. في ذلك الوقت، كانت القضية تتركز حول الخلافة. لم يكن موقف رضا منسجماً بما فيه الكفاية. فقد استند إلى المدرسة السلفية أكثر مما استند إلى الإصلاح. لم يأخذ في الحسبان الانقلاب الهائل الذي قام به الإصلاح الإسلامي في منظومة المفاهيم والقيم العقائدية والسياسية من خلال جهود الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي.
لقد طُمست وتلاشت الروح النقدية والعقلانية لمبادئ الإسلام الإصلاحية. يصرح محمد رشيد رضا أن أعداء السنة الحقة والإسلام هم الجميع، على سبيل المثال، المعارضون للوهابية (السعوديين). إنه يضع علامة مساواة بين “السنة الصحيحة”، و”الإسلام الصحيح”، والسلفيين. يعلن رضا، بانحيازه إلى الوهابيين، أنهم الممثلون المثاليون للإسلام الحقيقي. علاوة على ذلك، ومن خلال تبرير هذا الموقف لهم، فإنه يحيي مفاهيم فقهية وشرعية عفا عليها الزمن مثل البدعة (ابتكار مذموم)، معلناً أنها مكونات ضرورية للمنهج “المنهجي”. نتيجة لذلك، يكون رشيد رضا قد وضع فكرة إصلاح الإسلام ذاتها في إطار الوهابية، وبالتالي، في ربطها ودفع مضمونها العقلاني والإنساني، ووضعها في موقع ثانوي بالنسبة إلى العقيدة المتزمتة والبدائية.
ينطلق رشيد رضا في دفاعه عن الوهابية، من ضرورة محاربة البدعة المضللة، زاعماً أن أي ابتكار من هذا القبيل يعد خطأً، وخروجاً عن الصراط المستقيم. إنه يصف الوهابيين بأنهم “المتمسكون بسنة رسول الله”. في هذا الصدد يقدّر الفيلسوف ابن تيمية، واصفاً أفكاره بأنها من الأمثلة العالية للفكر الإسلامي. ينسب رشيد رضا الفضل لمحمد بن عبد الوهاب، مسمياً إياه مصلح الإسلام، الذي بشر بالسنة الصحيحة. كما يولي رضا احتراماً كبيراً لأتباع وذرية عبد الوهاب وأمراء نجد من عشيرة آل سعود.
تتراكم مواقف رشيد رضا السياسية وتشكل السلاسل العقائدية والسياسية التي تكبّل روح الإصلاح الإسلامي وتربطه أكثر فأكثر بالتقادم والسلفية. إن موقف رضا من الانحطاط التاريخي لفكرة الإصلاح، وتقييمه للوهابية كداعية مخلصة للإسلام والسنة، وتقديره العالي لعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود كنموذج للمسؤول الماهر في الدولة، وتصوره للدولة السعودية الوهابية كتأليه للتوحيد والاستقلال، كل ذلك يشهد على التشوه الخفي لفكرة الإصلاح عموماً، وموجهها السياسي خصوصاً. يمكننا أن نذكر أن ما قام به أدى إلى تبرير الاتجاه السلفي الجديد، وإعطاء الأفكار القديمة بريقاً من الجدة.
كانت أفكار رضا من حيث إمكاناتها عودة إلى أكثر نماذج التراث “الإصلاحي” في الإسلام تقليدية وغير مباشرة. ولم يتمكن رضا من تطوير استنتاجات الإصلاحيين الإسلاميين، ودفع الإصلاح إلى حدود جديدة على خلفية انهيار الخلافة، مما جعل أفكاره مصدراً متناقضاً لكل من التيار الليبرالي الإسلامي الصاعد (علي عبد الرازق) والتيار السلفي الأكثر تطرفاً (الإخوان المسلمون). إن تأثير رضا في ظهور أفكار عبد الرازق النقدية يعني أنه ساعد هذا الأخير في كتابة كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم” الذي كان، من حيث الدافع العميق، أول رد نظري على أفكار محمد رشيد رضا السياسية حول النظام السياسي (الإسلامي).
الدافع الأخير للإصلاح الكلاسيكي في الإسلام
لم يكن كتاب علي عبد الرازق (1888-1966) “الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام” ردّاً سياسياً على رغبة النظام الملكي المصري في احتكار الرموز الثقافية والسياسية وتوظيفها لمصالحه الأنانية، بل كان ردّاً أيديولوجياً على سلفية رشيد رضا ومحاولته تبرير “الحكم الإسلامي نظرياً”. بالتالي، فقد كان ردّاً أيديولوجياً وسياسياً على مشروع الدولة والمشروع الثقافي الذي كان وراءه مشروع نهضة جديدة في العالم العربي.
ترتبط “النكهة الدينية” التي أضفيت على الخلافة، كما يكتب عبد الرازق، بأسباب خارجية وطارئة لا تنبع من الإسلام نفسه. علاوة على ذلك، فإن دين الإسلام “لا يتماشى مع الخلافة، التي يُفترض أن يعترف بها جميع المسلمين”. فالخلافة لا ترتبط بالخطط الدينية. بناءً على ذلك، يتوصل علي عبد الرازق إلى استنتاج أيديولوجي وسياسي مفاده أن الخلافة، بتاريخها، عنصر من عناصر مشروع سياسي بحت “لا علاقة للدين به. إن التقديس التقليدي الخاطئ للخلافة كنموذج أعلى لتقوية الدولة الضعيفة هو الذي حدد ركودها الثقافي، وانغلاقها الحضاري، وافتقارها لآفاق المستقبل”. لقد كان نقد عبد الرازق للخلافة ودعوته إلى مراجعة وجودها التاريخي يعني ضرورة مراجعة التجربة التاريخية للدولة لتجنب تقليد التراجع المستمر.
يسعى الفيلسوف إلى تبرير مشروعية التعددية السياسية والأيديولوجية دون فرض تفضيل نظام معين. وهو يربط بين إنجازات الإصلاح الإسلامي وتطلعات الروح الليبرالية الديمقراطية في أوائل القرن العشرين. لقد كان ذلك بمثابة مقدمة أولية للعلمانية الإسلامية المعاصرة، سواء من حيث مجالها السياسي والثقافي، أو من حيث إمكانية الجمع بينهما ضمن مشاريع البدائل الواعدة.
أدت سلفية محمد رشيد رضا إلى ظهور حركات سلفية مختلفة (الإخوان المسلمون وما شابهها). في المقابل، ساهمت آراء علي عبد الرازق في ظهور المدارس السياسية والأيديولوجية لـ “الإسلام الثقافي”. مع ذلك، ينبغي التأكيد أن مفترق الطرق التاريخي الذي وجد الإصلاح الإسلامي نفسه فيه كان بسبب الطبيعة المتناقضة للعناصر المكونة له. لقد كانت عملية طبيعية، كأي مسار أصيل يحاول تجديد شيء ما يمكن إعادة تصميمه، لدمج ما هو متوافق، استجابة للتغيرات الكبرى في الحياة الاجتماعية والسياسية. فالحياة الاجتماعية والسياسية تعد دائماً محور التجديد، ومعيار الواقعية أو الوهم، والصدق أو الكذب، وصواب الأفكار أو خطأها.
انهيار الإصلاحية وصعود الراديكالية الإسلامية المعاصرة
يؤكد حسن البنا، في شرحه لموقفه من الإصلاح الإسلامي: “حدد الأفغاني المشاكل وحذر منها، وكان محمد عبده يدرس ويفكر، وكان رشيد رضا يؤلف الرسائل، وكلهم مصلحون وأخلاقيون تنقصهم الرؤية الإسلامية الشاملة”. ما سبق ذكره يقودنا حتماً إلى إنكار جذري لتقاليد الإصلاح الإسلامي العقلاني بوصفه مجرد رؤية، وتعلم، وإبداع دون منهج شمولي وتطبيق عملي.
لقد حملت جماعة الإخوان المسلمين مجموعة معقدة من المتطلبات المسبقة الموزعة على تيارات مختلفة من العروبة الثقافية والقومية، والإسلامية الإصلاحية والسلفية، والليبرالية المعربة والغربية. لم تكن تلك المتطلبات المسبقة جزءاً من هذه التيارات بقدر ما كانت مأخوذة منها ومجمّعة في مواد بناء إسلامية بحتة. لقد سعى حسن البنا إلى دمج جميع النوايا والاهتمامات في تجربة “العقل الإسلامي”، الذي لم يكن قد اكتمل تشكيله في ذلك الوقت.
يتبع البنا تقاليد “الإسلام الصحيح” المتراكمة من قبل المدارس الفقهية المختلفة والفكر النظري الإسلامي التي أكدت ارتباط الإسلام بالفطرة الإنسانية. في هذا الصدد، يرفض البنا أي حركة تبتعد عن “فطرة الإسلام”، بغض النظر عن مصدرها، وشكلها، ومضمونها. وهو يسعى إلى الاقتراب من “فطرة الإسلام الحقيقية” التي تتجلى في شعارات أساسية مثل القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد سبيلنا.
يتحقق تجسيد الدروس الإسلامية القديمة والحديثة في فكر “الدعوة الجديدة”، كما يقول البنا، “لأن أفكارهم (الإخوان المسلمين) ستشمل جميع جوانب الإصلاح الحياتي”. فهو يرى أن حركته تقوم على الإصلاح الشامل، الذي يهدف إلى أن يشمل المعتقدات والعقائد، والأخلاق وقواعد السلوك، والروح والجسد، والسياسة والعلم، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية.
إن القول بأن تعاليم الإسلام ومؤسساته تغطي جميع جوانب الحياة الدنيوية والأخروية، وتصلح لكل زمان ومكان، ليس أكثر من صيغة أيديولوجية لتحقيق أهمية معالجة “المبادئ الأصلية”. فالدعوة إلى الإسلام العملي تمثل تلخيصاً متجدداً للعقيدة السياسية، وهي حالة يتحول فيها الإسلام إلى أيديولوجيا سياسية مستقلة قائمة على عقائده الأساسية.
لقد كانت آراء البنا حول “الحكم الإسلامي” استجابة علنية للعملية المرتبطة بانهيار الخلافة والوعي بأهمية الدولة المستقلة، الذي يتجذر في الوعي الاجتماعي والسياسي العربي. وإذا كان رشيد رضا قد سبقه بطرح هذه الفكرة للمرة الأولى، فإنه لا يزال يمتلكها، كما يقول البنا، بوصفها جزءاً من الأبحاث النظرية البحتة. يذكر البنا أن نظام الحكم، في رؤية الإخوان المسلمين للإسلام، هو أحد الأركان الأساسية للإسلام. فهو، في الإسلام، ليس موضوعاً للتفسيرات الفقهية والقانونية، بل يُعد أحد الأركان الأساسية للعقائد الرئيسة. وهذا ما يحدد مسبقاً موقف البنا النقدي تجاه الإصلاحيين المسلمين الذين لم يسعوا إلى السلطة.
بالنسبة إلى البنا، فإن الدولة الإسلامية ليست مجرد ضمان للحرية الحقيقية، بل هي أيضاً وسيلة لإعادة بناء الوجود الإسلامي وتنفيذ رسالته العالمية في نشر الدعوة الإسلامية. كما إنها تمثل وسيلة لتحقيق نظام عادل وتكافل اجتماعي. إنها تجسد وحدة الضرورة الأساسية التي يجب أن يجسدها الحكم الإسلامي في الدفاع عن فكرة دينية. فهي كيان تتجسد فيه ومن خلاله مظاهر مختلفة من الوحدة والمبدأ. يرى البنا أن وظيفة الحكومة ليست أكثر من “خادمة، لموظفها، الذي يحمي مصالحها”. ومن ثم، فإن الحكومة ليست أكثر من موظف لدى المجتمع. يبرر البنا وظيفة الحكومة الإسلامية بمعيار “الإباحة والتحريم” الإسلامي.
كانت هذه الآراء بمثابة مقدمة لموقف البنا من طبيعة الحكم الإسلامي ونظامه السياسي. وهكذا، فهو يؤسلم النظام البرلماني والدستوري، ويجمع بجرأة بين أسسه وبين ما يسميه قواعد الحكم الإسلامي، وهو يحاول بناء نموذج مناسب لعقد اجتماعي حر، من خلال عقد المجتمع القائم على القرآن مع الحاكم، ويضع الانتخابات البرلمانية على قدم المساواة مع الشورى، ويرى الدستور تجسيداً للنموذج القرآني.
يسعى البنا إلى تأكيد الأهمية الجوهرية للوحدة بالنسبة إلى النظام، والنظام بالنسبة للوحدة، مُحدّداً التعددية بجوهر الإسلام ذاته. ويحاول تسييس هذه المقدمة الفقهية من خلال الادعاء بأن الاختلافات والنزاعات ليست شرطاً مسبقاً لعمل النظام التمثيلي. فالاختلاف في القضايا الثانوية يمكن الاستفادة منه في البحث، والدراسات، والمشاورات، والبحث عن حل وسط معقول يصب في المصلحة العامة على أساس رؤية إسلامية.
كانت فكرة الاكتفاء بالذات في كل شيء ولكن ليس من حيث التجربة والرؤية الشخصية، بل من حيث الإسلام وتقاليده الخاصة فقط، تحمل جوهراً محافظاً عميقاً ومظهراً راديكالياً. لقد أفسحت هذه الفكرة مجالاً للتطرف، مثال على ذلك فكر سيد قطب، الذي حول فكرته عن الحاكمية والجاهلية (السيادة لله والجهل) إلى قطبين للعلم والعمل الإسلامي.
من الراديكالية إلى التطرف
إن التناقض الذي يصف موقف سيد قطب من العلاقة بين الدين والعلمانية وموقفه السياسي، بشكل عام، هو أن وجهة النظر تمثل ثمرة علم النفس، أي أنها، طريقة تفكير تسمح باستخراج الحجج والبراهين من الخطابة، والبلاغة، والذوق الشعري. إن التأمل السياسي للمفكر هو بناء فقهي بحت ورؤية عالمية شاملة. إنه إيديولوجيا مصطنعة مبنية على أولوية المشاعر الدينية وأهميتها القصوى، متحررة من أية مشاكل مرتبطة بالواقع وشروط الوجود التاريخي. وهو يسميها “الفجوة المؤلمة” بين الدين والحياة الدنيوية.
مع ذلك، فإن الحالة الفعلية للواقع والتاريخ الحقيقي لا يعنيان شيئاً لسيد قطب مقارنةً بالبناءات التخمينية المتعلقة بالبديل الإسلامي. إنه يزعم بثقة صاحب البصيرة أن العالم كله في حالة من الحيرة، والتخبط، والسكر، فهو محصور “في قفص المعرفة، مقيد الأرجل. وإذا ما أراد العالم أن يقفز قفزةً، فإن أعلى قفزة ستصدها شبكة القفص”. هذا ما يفرض مسؤولية جسيمة على “حاملي المنهج الإسلامي”: يجب عليهم حقاً “إنقاذ البشرية التي يتعرض وجودها للتهديد”. يجب أن تكون لديهم “نظرة كلية وشاملة للمشكلة، وأن يقدموا حلولاً غير تافهة ناشئة عن هذه النظرة الشاملة الجديدة”.
تصبح القناعات الأيديولوجية المستوحاة من “الإيمان المجرد”، أي الإيمان الذي يتجاوز الواقع العقلاني، والمنطق، والحقيقة، والمعرفة، والطبيعة، مقدمة ضرورية للطوباوية اللاعقلانية، والانعزال عن المنظور. وانطلاقاً من هذه الأرضية، يزعم سيد قطب أن “المستقبل للإسلام”. هذا المستقبل لن ينشأ من الواقع الحقيقي (الحاضر)، ولا من دراسة منطق التاريخ الفعلي، ولا من حقائق الوجود الإنساني وتحليل الوضع الحقيقي، بل من الذكريات، والأساطير، والقصص الخرافية، المفضلة لدى علم نفس الطفل والعقلية المُسنة.
تتمثل مهمة “المنهج الإلهي” في إعادة بناء الكون، والوجود، والإنسان، والنظام، والمعتقدات، والقيم، والمفاهيم. إن تحقيق ذلك يتم بطريقة بسيطة وغير معقدة ومضمونة النتائج. تنص هذه الطريقة على أن “الهيمنة المطلقة في المجتمع البشري تعود لله تعالى، منهج الله، ولا يصح أن تعود تلك الهيمنة المطلقة لأي مخلوق من مخلوقات الله أو لمنهج خلقه غير الله”. لتحقيق ذلك “لا بد من بيئة خاصة يكون فيها مثل هذا التمثيل، بكل قيمه الخاصة، موجوداً. ويجب ألا تكون بيئة جاهلية”. باختصار، هناك حاجة إلى موقف إلزامي. وكل ما عدا ذلك لا يهم ما دامت كل عناصر الوجود يجب أن تتوافق مع الرغبات الناشئة عن هذا التمثيل اللاهوتي.
غير أن الوعي الديني، كونه التجسيد الأكثر صلابة للتقليد وغياب العقل النقدي الحر؛ أي الوعي المحدد بمقتضيات الإيمان وقواعده، لا يدرك إلا ما هو مقدر له. لذلك، فهو مفتون ومحدود بالصيغ اللفظية التي تمثل أبسط تعويض للتفكير بالتمني. هكذا تصبح الحقيقة الأصيلة مجرد إضافة يمكن جذبها واستخدامها حسب الحاجة.
لا تكمن الأهمية المنهجية والعملية لفكرة سيد قطب السياسية في مضمونها، بل في نمط تفكيرها الحنبلي، القائم على أولوية النص الذي يفتقر إلى العقل، ولكنه يحتوي على مجرد ضغط نفسي وإكراه خطابي.
بالعودة إلى تطور الإصلاح الإسلامي المعاصر، يتبين لنا أن تطوره كان منحدراً من الناحية النظرية والعملية: من الأفغاني إلى محمد عبده، ومن محمد عبده إلى رشيد رضا، ومن رشيد رضا إلى حسن البنا، ومنه إلى سيد قطب. وقد أدى هذا التدهور النظري والعملي مع مرور الزمن إلى اختفاء الفكرة الإصلاحية الإسلامية من الساحة التاريخية للعالم الإسلامي. وبدلاً من ذلك بدأ يسيطر التقليد الحنبلي – القديم والمتجدد (الوهابية وما شابهها من مدارس فكرية)، وهو أكثر الاتجاهات رجعية في التاريخ الإسلامي من الناحية العقلانية والروحية والإنسانية. من جهة أخرى، يستمر ظهور حركات وأفراد مختلفون لا يزالون يؤيدون ويتبعون الإصلاح العقلاني والإنساني الأصيل، ويوسعون البذور العقلانية والواقعية في أعمال الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي. كما تعكس الحركات الجديدة طبيعة التحولات التاريخية الكبرى التي طرأت على العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً، إضافة إلى مكانتها على الصعيد العالمي.
خاتمة
يبين تحليل الاتجاهات الرئيسة لإصلاحات الإسلام ومسارها النظري والعملي أن تجديد الإسلام الحديث غير ممكن في حد ذاته. لقد انتهت مرحلة التجديد لأسباب تاريخية، وثقافية، ومنهجية كبرى. كما أن عصر الإصلاح الديني قد انتهى أيضاً؛ لأن زمن الثقافة الدينية والفقهية قد ولّى إلى غير رجعة. فالتجديد الديني في سياق الانتقال من الوعي الديني الفقهي إلى الوعي السياسي والاقتصادي هو إما نقد سطحي للآخرين بسبب نقص الوعي الذاتي أو افتراس للفكر العلماني، الذي هو في مجمله صراع شامل من أجل العودة إلى الإنسان، والطبيعة، والمستقبل.
يشهد الفكر السياسي الإسلامي على ضعف أو غياب نظام سياسي أيديولوجي؛ أي غياب أي فلسفة أصيلة بالمعنى الدقيق للكلمة.
ميثم الجنابي، جامعة الصداقة بين الشعوب في روسيا
المجلة: مجلة دراسات العولمة. المجلد 12، العدد 1/ مايو 2021
ملاحظة
* تم دعم البحث من قبل المؤسسة العلمية الروسية (المشروع رقم 19-18-00155، “التطرف الإسلامي في سياق الأمن الدولي: التهديدات التي تواجه روسيا وإمكانيات التصدي لها”).