الخريطة الإسلاموية في مالي
على غرار ما نعاينه في أغلب دول غرب إفريقيا، يبقى التدين الصوفي هو المهمين في دولة مالي، ولكن هذا التدين تعرض لاختراقات عدة في العقود الثلاثة الأخيرة، بخلاف الحالة السنغالية مثلا التي تعرض فيها التدين الإسلامي لاختراق الإسلاموية منذ حوالي سبعة عقود.
ولكن ما نعاينه في مالي، يكمن على الخصوص في دخول السلفية التقليدية بداية، قبل أن تصبح اليوم مجسدة على الخصوص في السلفية الجهادية، ما ساعد على ظهور مجموعة من الجماعات الإسلامية الجهادية.
ومقابل هذا الحضور السلفي الجهادي، هناك حضور إخواني، ولكنه متواضع أمام الثقل الجهادي.
وبين التدين الصوفي الذي يجسد القاسم الديني المشترك للشارع في مالي، وحضور السلفية الجهادية وبدرجة أقل الإخوان، نعاين في مالي ظاهرة الدعاة المستقلين الذين يحظون بشعبية كبيرة لدى الرأي العام، ونجد في مقدمة هؤلاء خلال العقد الأخير على الخصوص، الشيخ والداعية محمود ديكو، والذي برز نجمه مع تولّيه منصب الأمين العام لـ”جمعية مالي للاتحاد وتقدم الإسلام” التي تأسست في العام 1980، ثم جذب الأنظار إليه حين عمل إماما لمسجد السلام الذي يُعد من أكبر مساجد العاصمة باماكو، إضافة إلى توليه إحدى أهم المؤسسات الإسلامية في مالي، ويتعلق الأمر بـ”المجلس الإسلامي الأعلى”، وكان قبل ذلك رئيسا لتجمع الجمعيات الإسلامية في مالي.
ومن أهم أسباب الشعبية الكبيرة التي يحظى بها محمود ديكو، نجد تمكنه من المسائل الشرعية والسياسية وجرأته في الدفاع عن الأخلاق العامة، وجاء تكوينه الديني من التحاقه السابق بمعهد العلوم الإسلامية في مدينة أبي تلميت بموريتانيا، وحصل منه على إجازة علمية، قبل الذهاب إلى المدينة المنورة في السعودية.
وبسبب هذا المسار الديني بين موريتانيا والسعودية، وبسبب أصل تكوينه في مالي من جهة أخرى، هناك تباين في قراءة مرجعية الشيخ محمود ديكو، بين من يُصنفه في خانة الصوفية السياسية، وبين من يصنفه في خانة السلفية العلمية، وهناك تيار ثالث، يصفه بأنه إخواني المرجعية، وهذا طرح يؤدي إلى “سلب هذا النضال المبني على طلب الحرية والعدالة ومحاربة الفساد والأمن” بتعبير الشيخ نفسه.
بعد رحلة التكوين في موريتانيا والسعودية، عاد محمود ديكو إلى مالي لترتفع أسهمه الدعوية، حتى أصبح يملك شعبية كبيرة في المجتمع المالي، وصارت مواقفه السياسية والاجتماعية الشجاعة محلا للإجماع، بل أصبح مؤثراً في صناعة القرار، مع أنه لا يقود حكومة أو معارضة أو حزب سياسي أو جماعة سلفية أو إخوانية، بل إن توجهه ديني محافظ اجتماعيا، ولا يتعارض مع جذور مالي الثقافية قبل الإسلام، ويعبر عن الإسلام التقليدي لشعوب غرب أفريقيا، ولكن الشعبية التي يحظى بها، خولت له على سبيل المثال، أن يكون مؤثرا في وصول الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا إلى السلطة؛ وذلك بتعبئة الفعاليات المسلمة في البلاد للتصويت لكيتا خلال الانتخابات الرئاسية المنظمة في يوليو 2013.
كانت أحداث “الفوضى الخلاقة” في المنطقة [2011 ــ 2013]، محطة مفصلية ستجعل محمود ديكو يبزغ نجمه محليا وإقليميا بسبب تفشي الظاهرة الجهادية في مالي، حيث لم تمر سوى سنة على تلك الأحداث في تونس، حتى استولى متشددون على الشمال المالي في 2012، وعلى إثر هذه التطورات، سوف يُبادر الشيخ إلى مقابلة إياد أغ غالي أحد قيادات تنظيم “حركة أنصار الدين”؛ محاولا إقناعه بالانسحاب من الشمال حقنا للدماء، ولكن الأخير رفض وتخلى عن الحوار ليشن هجوما جديدا هدد باختراق الجنوب والتقدم نحو باماكو، مما سيدفع ديكو للموافقة على طلب قوات فرنسية لمواجهة المتشددين، سيبرر ديكو موقفه بصمت الدول الإسلامية، وسيتهم بعد لقائه بالزعيم الجهادي بأنه على صلات وثيقة بتنظيم “القاعدة”.
بعد تركه لمنصبه بالمجلس الذي استمر لمدة 10 أعوام، أسس ديكو “تنسيقية الحركات والكتل المناصرة للإمام ديكو”، ليبدأ فصل جديد في مواجهة السلطة، وشن حملات سياسية ضد النظام في مالي، ولعب دوراً بارزاً في إقالة رئيس الوزراء السابق سوميلو بوبي مايغا في أقل من شهر في 18 أبريل من العام 2019، وبعده إسقاط الرئيس كيتا، حيث لعب الشيخ ديكو دورا حاسما في إسقاط النظام السابق.
من الملفات المفتوحة ذات الصلة بالحالة الإسلامية، ومنها الملف الإسلامي الحركي، انخراط العديد من الأثرياء الخليجيين، من بينهم سعوديون وقطريون وكويتيون، في تمويل بناء المدارس وتدريبات إعداد الدعاة والأئمة، خاصة وأن الحكومات المالية المتعاقبة، غضت الطرف عن هذه المشاريع الدينية، وفشلت في السيطرة على قنوات التمويل. وحين أدركت حجم الأموال التي تدخل مالي من مصادر غير معلومة، لم يكن لديها موارد كبيرة لتتعقبها بشكل موثوق فيه.
وسواء قبل أحداث “الفوضى الخلاقة” أو بعدها، أصبحت مالي حالة فريدة في دول غرب إفريقيا في موضوع الانقلابات العسكرية، والإطاحة بالحكومات المتعاقبة، بسبب الصراعات القائمة بين المؤسسات العسكرية، حتى إنه بين غشت 2020 ومايو 2021، عاين الرأي العام انقلابان اثنان، الأول كان مع سقوط نظام الرئيس المالي إبراهيم كيتا يوم الثلاثاء 19 غشت 2020، والثاني، جرى يوم 24 مايو 2021، مع سقوط نظام الرئيس السابق.
كان للتيار الإخواني حضور واضح في أحداث “الفوضى الخلاقة” في نسختها التونسية والمصرية والسورية والمغربية، ولكن الأمر مختلف في حالة دولة مالي؛ لأن الهيئات التي تقف وراء تأييد أحداث صيف 2020، كانت مجسدة على الخصوص العديد من الأحزاب السياسية بمن فيهم الديمقراطيون والاشتراكيون وبعض القيادات الدينية السنية منها والصوفية والاتحادات الشبابية والنسوية، حيث أفضى تحالف هذه المؤسسات والهيئات، السياسية والمدينة والدينية، في إسقاط نظام الرئيس إبراهيم كيتا.
على صعيد آخر، كانت أحداث 2011 في المنطقة، سببا وراء ظهور العديد من الجماعات الجهادية في مالي، ومرد ذلك أن أحداث الفوضى في المنطقة، تميزت في صيف 2011، بسقوط نظام معمر القذافي في ليبيا، وهو النظام الذي كان متحكما ومدبرا للخريطة الإسلامية في العديد من دول غرب إفريقيا، قبل 2011، ولكن سقوط القذافي، تسبب في عودة المئات من المسلحين الطوارق ممن كانوا يقاتلون في صفوف قوات القذافي، إلى مواطنهم في النيجر ومالي وبرفقتهم سيارات عسكرية وأسلحة متطورة وذخائر.
وإجمالا، وإضافة إلى الحضور القديم لـ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، يمكن حصر أهم الجماعات الجهادية المالية في التنظيمات التالية:
حركة “أنصار الدين”
“أنصار الدين”، جماعة إسلامية مسلحة، ذات توجه سلفي، تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على كامل التراب المالي، لكن لا تطالب باستقلال شمال البلاد على عكس حركة “تحرير أزواد” العلمانية التي تسعى إلى انفصال الشمال لإقامة دولة أزواد. مؤسس الجماعة هو الزعيم التقليدي ”إياد آغ غالي”، وهو من أبناء أسر القيادات القبلية التاريخية لقبائل ”الإيفوغاس”. عسكري سابق، وشخصية بارزة، وزعيم تاريخي في تمرد قبائل الطوارق خلال التسعينيات من القرن الماضي، ينحدر من أسرة أزوادية عريقة في (كيدال) بأقصى الشمال الشرقي لمالي.
وتعدّ الجماعة من أكبر الجماعات في شمال مالي وأهمها؛ لأنها حركة محلية معظم قياداتها ومقاتليها من أبناء مالي، وقد تمكنت جماعة أنصار الدين من بسط سيطرتها بشكل كامل على مدينة تمبكتو الأثرية، شمال غرب مالي، وفي هذه المدينة الكبيرة عملت الجماعة السلفية على هدم أضرحة الصوفية والعتبات الدينية، مباشرة بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة”.
حركة “التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا”
إحدى أهم الحركات الإسلامية المسلحة التي تنشط بالمناطق الشمالية، وهي حركة منبثقة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ويقودها محمد ولد نويمر، ومعظم عناصرها من العرب. وتدعو الحركة إلى الجهاد في غرب أفريقيا، وتتمركز سيطرتها في مدينة (قاو) الواقعة على نهر النيجر في شمال شرق مالي، وكانت “التوحيد والجهاد” تتقاسم السيطرة على المدينة مع “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” بعد طرد الجيش المالي منها، وقبل أن تطرد ـ فيما بعد ـ عناصر الحركة الأزوادية على خلفية صراع بين الطرفين استمر نحو شهرين.
وبفضل ما يتوفر لديها من موارد مالية، وما تملكه من روابط قبلية، وما لها من حضور ميداني، استطاعت حركة “التوحيد والجهاد” طرد جميع مناوئيها الطوارق من مدينة إسونغو، بعدما ألحقت بهم هزيمة كبرى في مدينة قاو، إحدى المدن الثلاث الكبرى في شمال مالي. ومن بين الأسباب التي سهلت للحركة تواجدها أنه كان ينظر إلى “التوحيد والجهاد” من قبل السكان المحليين بعين الرضا خاصة في قاو؛ لأنهم كانوا يواجهون المتمردين الطوارق في “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” الذين اشتهروا كقطاع طرق ومتهمين بارتكاب العديد من أعمال العنف والتعديات في المدينة قبل أن تطردهم الحركة بعد معارك طاحنة.
كتيبة “أنصار الشريعة”
أسسها عمار ولد حماها، الذي سبق وطاف على كل الجماعات الإسلامية في مالي قبل أن يشكل كتيبته بعد خروجه مباشرة من جماعة “التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا”، وعرف ولد حماها بقدرته الكبيرة على جلب الانتباه إليه منذ بداية سيطرة الإسلاميين على شمال مالي، حيث لقب بـ”الرجل ذي اللحية الحمراء”، ووصفه آخرون بأنه “رجل الكاريزما القوية” نتيجة لحضوره اللافت ولغته الفرنسية “الحادة” التي يتقنها أكثر من أي زعيم إسلامي آخر في الشمال.
استطاعت الجماعة أن تقنع أغلب عناصر الجبهة العربية الأزوادية، من القبائل العربية في تينبكتو، بالالتحاق بها بعد أن بقيت على هامش الصراع الدائر منذ عام، فيما حظيت بدعم العرب الموجودين في منطقة غاوه. وكان قادة أنصار الدين قد أفسحوا المجال للكتيبة التي تحمل هوية خاصة بوصفها “التنظيم الإسلامي العربي الوحيد” في منطقة تعددت فيها التنظيمات حسب تعدد الأعراق، حيث يشير ولد حماها إلى أنه أسس الكتيبة “غيرة على العرب والبرابيش الذين تجاوزهم إخوتهم من الطوارق الذين تعمقوا في الجهاد”.
كان ولد حماها ناشطاً في جماعة الدعوة والتبليغ، لينتقل بعد ذلك إلى ما وصفه بـ”مرحلة السيف” مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وكتيبة “الملثمين” ثم تنظيم “التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا” فحركة “أنصار الدين”.
كتيبة “الموقعون بالدماء”
يتزعمها الجزائري خالد أبو العباس “مختار بلمختار”، وكان قد شكلها حديثا بعد عزله من زعامة “كتيبة الملثمين” من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وإن بقي بلمختار حريصا على التزامه بوحدة القرارات التي تتخذها التنظيمات المسلحة حيال الأزمة في شمال مالي، وخاصة الاتفاقيات الموقعة بين حركتي “أنصار الدين” و”حركة التوحيد والجهاد”، ومعها القبائل التي دعت إلى تطبيق الشريعة، كما وجه مختار بلمختار دعوة إلى العلماء وطلاب العلم وأبناء الدعوة الإسلامية جميعاً في موريتانيا إلى ما وصفه حينها بـ”الهجرة لنصرة إخوانهم المسلمين في أزواد”.
وما يعزز هذا الاحتمال هو طبيعة المشهد السياسي المالي الذي يتميز بضعف بناء الدولة وبالحضور القوي للمؤسسة العسكرية من ناحية ولممثلي الثقافة الإسلامية المحلية من ناحية ثانية. وقد شهدت العشريات الأخيرة تحوّلاً واضحاً على مستوى النخبة الدينية في مالي. فقد عوض الأئمة الخطباء الجدد والمتأثرون بالفكر السلفي القادم من بلدان الخليج العربية تلك النخبة الدينية القديمة الممثلة للإسلام الطرقي الصوفي المرابطي. وقد استطاعت هذه النخبة الجديدة من توسيع تأثيرها مستفيدة من محافظة المجتمع وكذلك من ضعف السياسيين، بالإضافة إلى عودة الانقسامات القبلية والإثنية.