مفارقة بزشكيان: الرئيس الإيراني الجديد والحرس الثوري الإسلامي
يواجه مسعود بزشكيان معضلة صارخة كرئيس: إما استرضاء الحرس الثوري الإسلامي وأيديولوجيته المتطرفة، أو تنفير دائرته الانتخابية الإصلاحية، مما يعرضه لخطر الشلل السياسي.
لقد مر شهر تقريباً منذ ألقى مسعود بزشكيان، الرئيس “الإصلاحي” الجديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية، خطابه الأول في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وفي إطار جهوده لمغازلة وسائل الإعلام الغربية، أثار الرئيس الجديد فكرة تهدئة التوترات مع إسرائيل، مشيراً إلى أن النظام في إيران يمكن أن يضع سلاحه، إذا فعلت إسرائيل الشيء نفسه. ولكن في حين أثارت تعليقات بزشكيان اهتمام جمهوره المستهدف في الغرب، فإن حقيقة أن الرئيس الجديد تلقى رد فعل محلي عنيف من بعض عناصر الحرس الثوري وأنصاره المتشددين لم تتم تغطيتها بشكل كاف.
إن رسالة “السلام” التي أطلقها بزشكيان في نيويورك لا تعني أولئك الذين يتحكمون في مصيره: المرشد الأعلى وقوته المسلحة الأيديولوجية النافذة، الحرس الثوري الإسلامي. وهذا يشير إلى السؤال الرئيس: كيف سيبدو التانجو الذي سيقيمه الرئيس الجديد مع الحرس الثوري؟ يمكن أن يُقال الكثير عن طبيعة الحرس الثوري وعلاقاته بالإدارات السابقة.
لقد بدأ التوسع السريع لقوة الحرس الثوري الإيراني منذ تولي علي خامنئي، آية الله البالغ من العمر 85 عاماً، منصب المرشد الأعلى في عام 1989. لقد استخدم خامنئي الحرس الثوري بفعالية كوسيلة لتوسيع سلطته وقمع أي تهديد ـ سواء من النخب أو الشعب الإيراني ـ للمبادئ الأساسية للنظام وسلطته.
ولتنمية الحرس الثوري، بوصفه طليعة له، كان خامنئي يتنازل له تدريجياً عن المزيد من السلطة في مقابل الطاعة العمياء: وهي العملية التي يمكن تحقيقها من خلال التلقين الأيديولوجي الصارم والوصول إلى موارد أكبر.
وإذا كان الماضي بمثابة مقدمة لما سيحدث، فإن عاملين رئيسين سيحددان في نهاية المطاف علاقة بزشكيان بالحرس الثوري وكيفية تطور رئاسته: التوافق الأيديولوجي ومستوى الحماية التي يقدمها للمصالح الاقتصادية للحرس الثوري.
لا شك أن الحرس الثوري هو الجهاز الأكثر أيديولوجية في الجمهورية الإسلامية. ولهذا السبب على وجه التحديد يراه خامنئي “الركيزة الأساسية للثورة الإسلامية” ولم ينتقده ولو مرة واحدة.
إن نظرة الحرس الثوري الإيراني للعالم يمكن وصفها على أفضل وجه بأنها تطرف إسلامي صارخ، مع العديد من القيم الأساسية المتداخلة محلياً وإقليمياً وعالمياً. على المستوى المحلي، يتمحور توجه الحرس الثوري حول مراقبة الأخلاق الإسلامية وإضفاء الطابع الإسلامي على المجتمع. وفي مختلف أنحاء المنطقة، يقوم هذا التوجه على القضاء على إسرائيل ودعم ما يسمى بشبكة ميليشيات “محور المقاومة”. وأخيراً، على المستوى العالمي، يحرك سياسة الحرس الثوري العداء الأبدي تجاه الولايات المتحدة والنظام العالمي الليبرالي.
لقد أثبت الماضي أن الحرس الثوري سوف يدعم أي إدارة ـ بغض النظر عن هوية الرئيس ـ إذا التزمت بالإطار الأيديولوجي الأساسي للنظام. ومن الممكن أن نفهم من خلال هذه العدسة دعم الحرس الثوري لحكومتي محمود أحمدي نجاد وإبراهيم رئيس المتشددتين وعدم تجاوبه مع إدارتي محمد خاتمي وحسن روحاني. وكانت جهود حكومتي خاتمي وروحاني، ولو في الخطابة فقط، للحد من السياسات الاجتماعية والثقافية ـ الأيديولوجية للنظام هي السبب الرئيس وراء انتقاد الحرس الثوري لهاتين الإدارتين. لذلك، فمطلب الحرس الثوري من بزشكيان بسيط: ألا يتحدى أو يتخلى عن أي من الركائز الأيديولوجية الرئيسة للنظام.
ومن اللافت للنظر ـ أو ربما لا يكون كذلك ـ أن إدارة بزشكيان قد بذلت بالفعل قصارى جهدها لإثبات التزامها بما سبق، بدءاً من احتضان الرئيس الجديد المبالغ فيه لقادة “محور المقاومة”ـ بما في ذلك العناق والقبلات للزعيم الراحل لحماس إسماعيل هنية ـ إلى إعلان وزير الخارجية عباس عراقجي صراحة أن “السياسة الإيرانية تجاه أمريكا تقوم على النزعة العدائية، وليس هناك أي نية لإنهاء هذه النزعة”، بل إن بزشكيان تراجع حتى عن حملته الرئاسية الصريحة ضد مراقبة الأخلاق، مشيراً إلى أنه لا يجد أي مشكلة في هذه الممارسة ولكنه يريد تغيير شكل تنفيذها. وحتى روحاني ـ الذي لم يكن منحازاً إلى ما يسمى بالفصيل “الإصلاحي” النخبوي ـ ذهب إلى أبعد من ذلك في هذه القضية، فقال: “لا يمكنك أن تسوق الناس إلى الجنة بالقوة أو بالجلد”.
ولكن مجرد التوافق مع رؤية الحرس الثوري للعالم لا يكفي بالنسبة إلى الرئيس الجديد لضمان ولائه. العامل الأساسي الآخر الذي سيحدد علاقة بزشكيان بالحرس الثوري هو مستوى الحماية التي توفرها إدارته للمصالح الاقتصادية للحرس الثوري.
إن الثروة الاقتصادية الكليبتوقراطية التي يمتلكها الحرس الثوري الإيراني يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء. الجزء الأول ينبع من رأس المال الحكومي الريعي، حيث يتم منح العقود والمشاريع الحكومية للحرس الثوري بالأمر المباشر؛ الجزء الثاني يأتي من إدارة أعمال التهرب من العقوبات المربحة في إيران بحكم الأمر الواقع؛ والجزء الأخير ينبع من دوره في إدارة الاقتصاد الأسود للنظام، والذي يشمل الاتجار الدولي بالمخدرات. منذ أن فتح الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني باب الاقتصاد أمام الحرس الثوري، ومنذ إنشاء صندوق الاستثمار الخاص به، نمت أنشطته الاقتصادية بشكل كبير. خلال إدارة أحمدي نجاد (2005-2012) وتحت اسم الخصخصة وتنفيذ المادة 44 من الدستور التي نصت على خصخصة الشركات الحكومية، اشترى الحرس الثوري العديد من الشركات الحكومية بأسعار مخفضة. وفي عهد رئيسي، توسع الحرس الثوري بشكل أكبر في مشاريعه التجارية، مما أدى إلى سيطرته بشكل كبير على أكثر من نصف الاقتصاد الإيراني من خلال مؤسساته التجارية والمالية.
إن حماية وتعزيز أيديولوجية الحرس الثوري الإيراني والمصالح الاقتصادية لحكمه الأوليغاركي سوف تحدد علاقة الرئيس الجديد بالقوة المسلحة الأيديولوجية لخامنئي. ومع ذلك، فإن المشكلة بالنسبة إلى بزشكيان هي أن هذين العاملين هما أيضاً من بين المحركات الأساسية للأزمات الاجتماعية والاقتصادية في إيران، مما يؤدي إلى تنفير الإيرانيين العاديين وإخراجهم إلى الشوارع. لقد أصبح من الواضح منذ فترة طويلة أن معظم الإيرانيين يرفضون أيديولوجية الجمهورية الإسلامية، ويسعون إلى دولة علمانية وليبرالية. ويصبح هذا الرفض أكثر شراسة، عندما يتعلق الأمر بالمبادئ الأساسية للنظرة العالمية للحرس الثوري الإيراني. وهناك العديد من المؤشرات التي تثبت ذلك: من كون المجتمع الإيراني أحد أكثر المجتمعات تأييداً للولايات المتحدة في العالم الإسلامي إلى المعارضة الشديدة لشرطة الأخلاق – كما تجلى خلال احتجاجات عام 2022 – والإدانة الشديدة لدعم النظام لجماعات مثل حزب الله وحماس. وعلى نحو مماثل، أدى تدخل الحرس الثوري في الاقتصاد الإيراني واستهلاكه إلى تقويض القطاع الخاص في إيران إلى حد كبير، مما أدى بدوره إلى جعل المواطن الإيراني العادي أكثر فقراً وكان له تأثير مدمر على سبل عيشه.
في حين قاطع معظم الإيرانيين الانتخابات الرئاسية، ولم يصوتوا لبزشكيان ـ حيث حصل فقط على 54% من الأصوات من أصل 49% من السكان الذين صوتوا وفقاً لأرقام رسمية مبالغ فيها ـ فإن أولئك الذين صوتوا (قاعدته الانتخابية) فعلوا ذلك على وجه التحديد لإنهاء وتقليص قبضة الحرس الثوري على المجتمع والاقتصاد والسياسة الإيرانية.
وهنا تكمن المفارقة البزشكيانية: إذا سعى الرئيس الجديد إلى تعزيز توقعات قاعدته الانتخابية، فسوف يخسر دعم الحرس الثوري، وإذا قرر إبقاء الحرس الثوري إلى جانبه، فسوف يخسر قاعدته الانتخابية.
في الحالة الأولى ـ أي عزل الحرس الثوري القوي ـ سوف يستخدم الحرس الثوري كل الوسائل المتاحة لمهاجمة وتقويض إدارة بزشكيان، بما في ذلك تعبئة ميليشيا الباسيج الشابة المتطرفة وبلطجية حزب الله (المتشددين أيديولوجياً). واستناداً إلى التجارب السابقة مع إدارتي خاتمي وروحاني، فإن الذراع الثقافية والدعائية للحرس الثوري سوف تشن أيضاً حرباً نفسية لا هوادة فيها ضد الرئيس. وهذا من شأنه أن يزود جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري بما يكفي من الأدلة الملفقة لملاحقة واعتقال أعضاء ومنتسبي إدارة بزشكيان.
وعلى الجانب الآخر، إذا اختار الرئيس الجديد البقاء في السلطة من خلال الحفاظ على رضا الحرس الثوري، فسوف يضطر إلى التراجع عن وعود حملته الرئاسية وتنفير ناخبيه، وهي الخطوة التي ستكون المسمار الأخير في نعش ما يسمى “الإصلاحيين”. وكلا السيناريوهين يؤديان إلى نتائج خاسرة للجميع ويجعلان من بزشكيان رئيساً غير كفء: إما بسبب العقبات التي سيضعها الحرس الثوري في طريقه ردّاً على معارضته لمصالحه، أو بسبب فشله في تحقيق أهداف قاعدته الانتخابية نتيجة لاسترضاء الحرس الثوري.
لقد كانت هذه المعضلة بمثابة لغز لجميع الرؤساء الإيرانيين السابقين تحت قيادة خامنئي. فقد دعم الحرس الثوري حكومتي أحمدي نجاد ورئيسي، اللتين روجتا للركائز الأيديولوجية للنظام وسمحتا للحرس بممارسة نفوذ قوي على الاقتصاد. وفي المقابل، حاولت إدارتا خاتمي وروحاني الحد من التدخل الاقتصادي للحرس الثوري وتخفيف سياسات خامنئي الأيديولوجية، مما أدى إلى صراع مع الحرس الثوري.
حتى الآن، اختار بزشكيان إرضاء الحرس الثوري بدلاً من إرضاء ناخبيه. فمن الناحية الأيديولوجية، كان الرئيس الجديد صريحاً في دعم هجمات الحرس الثوري ضد إسرائيل، وتأييد عقيدة استخدام الميليشيات الشيعية في المنطقة كوكلاء، فضلاً عن الإشارة باستمرار إلى الخطاب الديني ـ الأيديولوجي المتطرف للحرس الثوري.
ولعل الأهم من ذلك، أن بزشكيان أوضح أيضاً أنه يريد إبقاء معدة الحرس الثوري ممتلئة اقتصادياً. فقبل رحلته إلى نيويورك مباشرة، اصطحب وفده الاقتصادي إلى مقر شركة خاتم الأنبياء للإنشاءات التابعة للحرس الثوري، وهي الرحلة التي ألقت الضوء على نيته إرضاء الجشع الاقتصادي لدى كبار الأوليغارشيين في المنظمة. وبعد الرحلة مباشرة، أعلن بزشكيان أن شركة خاتم الأنبياء سوف تشارك في بعض المشاريع الحكومية، بما في ذلك بناء المدارس في المناطق المحرومة. ولكن نسبة الأرباح التي قد يجنيها الحرس الثوري من هذه المشاريع لم تتضح بعد. وإذا لم يكن عرض بزشكيان جيّداً كما تريد المنظمة ـ بغض النظر عما إذا كان سيستمر في تقديم الدعم الأيديولوجي لها ـ فإن فترة شهر العسل بين الحرس الثوري والرئيس الجديد سوف تنتهي بالتأكيد.
الكاتب: سعيد جولكار، كسرى اعرابي
الرابط: