تقييم تأثير حرب غزة على الرسائل السلفية الجهادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
في أعقاب خسائر محور المقاومة

وسط صراع شامل بين حماس وحزب الله وأنصار الله (المعروفين شعبياً بالحوثيين) وإيران من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، والذي اجتاح دول الجوار خلال العام الماضي، كثفت الجماعات السلفية الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة وفرعها في جزيرة العرب (القاعدة في شبه الجزيرة العربية)، من جهودها الإعلامية والدعائية بشكل كبير، في محاولة لإلهام الهجمات وتحفيز المحرضين المحتملين في مختلف أنحاء العالم.
إن القدرة على الاستفادة من المزاج العام المتعلق بالحرب في غزة، والعمليات العسكرية الإسرائيلية، واغتيال شخصيات بارزة من الجماعات المنافسة، إلى جانب العدد المتزايد من الضحايا المدنيين الذي بلغ عشرات الآلاف، لم تكن مفيدة للدعاة الإعلاميين فحسب، بل شكّلت أيضاً جزءاً لا يتجزأ من توظيف القضية الفلسطينية في خطابهم منذ عقود.
الاتجاهات – القضية الفلسطينية
الرسائل السلفية الجهادية بشأن القضية الفلسطينية ليست جديدة بأي حال. ففي عام 1998، أصدرت القاعدة “إعلان الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين”، ووضعت فلسطين في المرتبة الثالثة ضمن مبررات شن الجهاد ضد الولايات المتحدة. وقد راجع الباحثان توماس هيغهامر ويوس واجماكيرز نصوص القاعدة بين عامي 1990 و2002، ووجدا 158 إشارة إلى فلسطين، وخلصا إلى أنها كانت تُستخدم في المقام الأول كـ “آلية تحفيزية”.
وأشار ماثيو ليفيت من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أن كل بيان علني تقريباً لأسامة بن لادن منذ عام 1990 احتوى على إشارة إلى فلسطين بشكل أو بآخر. وقد دفع ذلك أحد كبار منظّري التنظيم، أبو مصعب السوري، إلى القول بأن استخدام بن لادن للقضية الفلسطينية قد “نقل الجهادية إلى مستوى جديد”.
كان بن لادن وأبو مصعب السوري مرتاحين في استخدام القضية الفلسطينية لخدمة أهدافهما الأيديولوجية والاستراتيجية، وهو النهج نفسه الذي اتبعه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وقيادته خلال عام 2024. ومع ذلك، هل أدّت هذه الجهود فعلاً إلى ما وصفه السوري بأنه “جهادية بمستوى جديد”؟ إذا أخذنا العبارة بشكل حرفي وطبقناها على هجمات داعش والقاعدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فالإجابة ستكون: لا.
فكلا التنظيمين لم يعودا سوى ظل لما كانا عليه في الماضي في هذه المنطقة، على الرغم من تجدد بعض هجمات داعش في سوريا والعراق، وقدرة القاعدة في جزيرة العرب على الصمود في اليمن. وتُسجل للتنظيمين نجاحات استراتيجية في آسيا الوسطى وكذلك في إفريقيا جنوب الصحراء، بما في ذلك إعادة تأسيس معسكرات تدريب للقاعدة في أفغانستان تحت حكم طالبان، وهجمات داعش المستمرة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
ومع ذلك، فإن سلسلة من الضربات والاعتقالات المستهدفة ضد داعش في العراق وسوريا من قبل الولايات المتحدة، والعراق، وتركيا، قد أضعفت على الأرجح بعضاً من قدراتهما في المنطقة.
القاعدة وداعش واستغلال حرب غزة
على الرغم من ذلك، لم تتوقف الأذرع الدعائية لتنظيمي القاعدة وداعش عن توجيه الرسائل المتعلقة بحرب غزة، وإطلاق حملات عبر الإنترنت وعلى أرض الواقع لتحفيز الفاعلين المنفردين. وقد صدرت العديد من هذه الرسائل عن قيادات الجماعتين، بالإضافة إلى أذرعهما الدعائية الرسمية وغير الرسمية.
فعلى سبيل المثال، أصدر الزعيم المزعوم لتنظيم القاعدة، سيف العدل، والذي يُعتقد أنه قيد الإقامة الجبرية في إيران، أكثر من تسع حلقات من سلسلة أوراق بعنوان “هذه هي غزة”، قال فيها إن “الأحداث في غزة هي المسمار الأخير في نعش الغرب الاستعماري الصليبي الصهيوني”. وبالمثل، دعا زعيم القاعدة في جزيرة العرب، خبيب السوداني، إلى شن هجمات فردية في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة، في أعقاب هجوم 7 أكتوبر، الذي شبّهه بهجمات 11 سبتمبر من حيث الأهمية.
وقد أصدرت الذراع الإعلامية للقاعدة في جزيرة العرب، “ملاحم ميديا”، أكثر من 80 تغريدة ضمن سلسلة “إنسباير” خلال هذه الفترة، أشارت فيها إلى غزة وإسرائيل في سياق التحريض على تنفيذ هجمات في الشرق الأوسط والغرب.
اتبعت داعش النهج ذاته، إذ أعلن ناطقها الرسمي، أبو حذيفة الأنصاري، في مارس 2024، أن التنظيم سيجدد ويكرر “التحريض للأسود المنفردين على بذل الجهد لاستهداف الصليبيين واليهود في كل مكان”. كما دعت العديد من المنشورات والمجلات والمقالات ومقاطع الفيديو التي أنتجتها الأذرع الإعلامية الرسمية وغير الرسمية للتنظيم، إلى استهداف حكومات غربية وعربية متهمة بالتواطؤ في الحرب.
مرّت العديد من هذه الرسائل عبر قنوات مرتبطة بشبكات القاعدة وداعش على الإنترنت، مثل منتديات Rocket.Chat، وظهرت أيضاً على منصات اجتماعية شائعة مثل فيسبوك وتيك توك. على سبيل المثال، في يوليو 2024، رصد “معهد الحوار الاستراتيجي”(ISD) نحو 55 مقطع فيديو على تيك توك يظهر فيها دعاة من القاعدة وداعش، باستخدام بحث عشوائي بسيط لأسمائهم؛ وقد حصدت هذه الفيديوهات أكثر من 1.1 مليون مشاهدة.
ولم تقتصر جهود داعش على الدعاية فحسب؛ فبحسب الباحث آرون زيلين، تم تسجيل 16 مؤامرة مرتبطة بالتنظيم ضد إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، اثنتان منها يُرجّح أن مصدرهما من داخل سوريا. ومع ذلك، ورغم هذه التطورات، خفف تنظيم داعش من نبرته بشأن شن هجوم مباشر على إسرائيل، إذ أشار إلى أن “الوقت لم يحن بعد لمواجهة جهادية شاملة مع إسرائيل”، في ظل استمرار الضربات التي يوجهها إلى خصومه مثل حزب الله ومن يسمون بـ”محور المقاومة”.
محور المقاومة الإيراني
في حين لم تصل رؤية القاعدة وأبو مصعب السوري للجهاد إلى “مستويات جديدة”، ورغم استمرار جهود داعش في التحريض على الهجمات عالمياً، فقد أصبحت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، مثل حزب الله في جنوب لبنان، وحماس في غزة، والحوثيين في اليمن، أكثر حضوراً وتأثيراً في الخطاب العام عقب اندلاع الصراع.
وعلى الرغم من تعرض هذه الجماعات لضربات قاسية على مستوى القيادة – مثل اغتيال يحيى السنوار، زعيم حكومة حماس في غزة، ومقتل حسن نصر الله، زعيم حزب الله، إلى جانب أعضاء من مجلس قيادة الحزب – فإن “محور المقاومة” المدعوم من إيران نجح في ترسيخ موقعه داخل الخطاب العالمي المرتبط بـ”الجهاد”.
وعلى الرغم من اغتيال عدد من المنظرين والقادة والاستراتيجيين البارزين في كل من حزب الله وحماس، فإن هذه الجماعات لا تزال تحصد دعماً شعبياً واسعاً على الإنترنت، حيث تحقّق مئات الآلاف من المشاهدات لمحتوى ينعى قياداتها ويُمجّد هجماتها اليومية على إسرائيل. كما أن الهجمات الصاروخية التي تنفذها جماعات مثل الحوثيين وحماس وحزب الله لم تتوقف رغم هذه الخسائر، بل يبدو أنها ساهمت في تعزيز خطابهم الدعائي، في ظل استمرار الغارات الإسرائيلية عليهم.
يرتبط هذا الحضور الرقمي والدعائي جزئياً بمشاركتهم المباشرة في هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي شنّت خلاله حماس أكبر هجوم على الأراضي الإسرائيلية، وما تلاه من تداعيات إقليمية ودولية. وقد ساهم الانتشار الواسع لحساباتهم على منصات مثل “إكس”، و”فيسبوك”، و”تيليغرام”، و”تيك توك”، إضافة إلى مواقعهم الإلكترونية، في توسيع نطاق تأثيرهم.
فبعد هجوم 7 أكتوبر، ازداد عدد حسابات “تيليغرام” التابعة لحماس وكتائب القسام وقياداتها عشرة أضعاف. كما كشف “مشروع الشفافية التقنية” أن حسابات حزب الله على منصة “إكس”، بما في ذلك الحساب المنسوب إلى حسن نصر الله، كانت موثقة من قبل المنصة، مما منحها أولوية في الظهور ضمن نتائج البحث. وتشمل المنظومة الرقمية للحوثيين أيضاً حسابات موثقة على “إكس”، يتابعها مئات الآلاف.
بالمقارنة مع تنظيمَي القاعدة وداعش، فإن قدرة هذه الجماعات على الوصول إلى جمهور أوسع وتعزيز حضورها الرقمي تبدو استثنائية.
البيئة الاجتماعية السياسية الهشة
لا تزال القاعدة وتنظيم داعش يجدان فائدة في توجيه رسائل دعائية ضمن بيئة يطغى عليها خطاب الجماعات المنافسة، لا سيما في ما يتعلق بتواطؤ أو فشل الحكومات الإقليمية في وقف الحرب. ويسعى كلا التنظيمين إلى تسليط الضوء على هشاشة هذه الأنظمة، واعتبارها غير شرعية، في مناطق النفوذ مثل السعودية والأردن. ومن خلال تركيزهما على مفهوم “الطواغيت”، يأمل التظيمان أن تؤدي الإبادة الجارية في غزة إلى تحفيز هجمات ضد هذه الأنظمة. ومع اتفاق الطرفين في هذا الإطار العام، إلا أنهما يختلفان بشكل جوهري في مواقفهما من الجماعات المنخرطة في القتال، وعلى رأسها حركة حماس. فقد رحبت القاعدة بحماس واعتبرتها امتدادًا لها عقب هجوم 7 أكتوبر، في حين رفضها تنظيم داعش، متهماً إياها بالانحراف عن “النقاء الأيديولوجي”، وواصفًا نفسه بأنه الطليعة الحقيقية لتحرير فلسطين. ويذهب داعش إلى أبعد من ذلك، معتبراً كلًا من القاعدة وحماس “مرتدتين” بسبب تلقيهما دعماً من إيران.
وقد أشار الباحث أيمن التميمي إلى أن “لا دليل على أن حرب غزة قرّبت هذه الجماعات من تحقيق أهدافها، سواء من حيث تعزيز فروعها أو زيادة الدعم الشعبي لها في العالم الإسلامي”.
أما البيئات الأكثر هشاشة، فهي تلك التي تتمتع فيها جماعات المقاومة بتأثير مباشر، إذ تبقى معرضة لاحتمالات نشوب صراعات داخلية في ظل فراغات السلطة. ويمكن أن يكون هذا السيناريو وارداً في حال حدوث تغيرات مفاجئة في قيادات جماعات مثل حزب الله أو حماس. وكما قال الباحث والمحلل حسن حسن: “لم تكن وفاة السنوار لتشكّل هذا القدر من الأهمية لولا اقترابها من مقتل سلفه إسماعيل هنية في يوليو، وكذلك نصر الله، ومعظم الوجوه البارزة في محور إيران، مثل قاسم سليماني في عام 2020. المشهد يوحي بانهيار كيان بأكمله”.
الخاتمة
على الرغم من هذه السرديات، لا تزال القاعدة وداعش تواجهان صعوبات كبيرة في تحقيق مصعب السوري “جهادية بمستوى جديد”، ببساطة لأنهما خسرتا معركة الرسائل، وتم تقييد قدرتهما على التأثير من قبل جماعات منافسة أكثر فاعلية. وعلى مدار عام 2024، وربما يمتد ذلك إلى 2025، ستواصل الجماعتان استخدام القضية الفلسطينية كأداة خطابية لتحفيز الهجمات الفردية وزرع أيديولوجيتهما. ورغم أن هذه الاستراتيجية قد تؤدي إلى تنفيذ بعض الهجمات الفردية في الغرب، إلا أنها لن تغيّر المشهد الإعلامي لصالح القاعدة أو داعش، خصوصاً في ظل صعود محور المقاومة، الذي عزز حضوره من خلال سردياته وخسائره الكبيرة.
ترى القاعدة وداعش في فلسطين وسيلة لتحقيق أهدافهما. لكن قدرتهما على تحويل هذه القضية إلى مكاسب استراتيجية تعيد تشكيل صورتهما الإقليمية لا تزال معدومة، وربما لن تتحقق أبداً. وفي الوقت الراهن، يبقى مفهوم “جهادية بمستوى جديد” مجرد شعار غير قابل للتحقق، رغم ادعاءات الطرفين.
وفي أواخر عام 2024، وعلى مدى أحد عشر يومًا من أواخر نوفمبر وحتى 8 ديسمبر، شنّت هيئة تحرير الشام هجومًا حاسمًا ضد قوات بشار الأسد، في وقت تراجعت فيه الجماعات المسلحة المدعومة من روسيا وإيران، وتقدّمت فصائل مدعومة من تركيا لتفرض سيطرتها على مناطق واسعة من سوريا. وقد مثّل هذا التحرك الحاسم والسريع نهاية لأحد أطول الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط الحديث، ووجّه ضربة جديدة لنسخة القاعدة وداعش من الجهاد، مشيرًا – على الأقل – إلى بداية عهد جديد من “الجهاد القومي والتقني”، القائم لا على القتال فقط، بل أيضًا على القدرة على الحكم والإدارة. وكان نصر هيئة تحرير الشام وحلفائها حاسمًا ضد ميليشيات محور المقاومة المدعومة من إيران، ما يفتح الباب على تساؤلات حول مستقبل المنطقة.
يواجه محور المقاومة مستقبلاً غامضاً، في ظل تدمير هياكل القيادة عبر الضربات العسكرية الإسرائيلية، رغم استمرار قدرات الجماعات التابعة له على شن هجمات بالطائرات المسيّرة والصواريخ. هذه القدرات، إلى جانب الرسائل الإعلامية المتواصلة، والعدد المتزايد من الضحايا المدنيين في غزة، جعلت من هذه الجماعات رموزًا رقمية ذات حضور قوي على الإنترنت، بدعم إقليمي ودولي متنوع.
ومقارنة بحجم الخسائر البشرية في لبنان وغزة، يشكّل استمرار الضغط على إسرائيل تحديًا وفرصةً في آن واحد لتلك الجماعات، التي توظف هذا الوضع لتسليط الضوء على فساد النظام الدولي. لكن يبقى السؤال: هل يمكن أن يترجم هذا الزخم الرقمي إلى دعم حقيقي على الأرض خارج مناطق نفوذها الحالية؟ هذا لا يزال احتمالًا هشًا.
وكما أظهرت نتائج استطلاع “الباروميتر العربي” في أوائل عام 2024، فإن الدعم لإيران ووكلائها في المنطقة ليس بالقوة التي يُفترض أحيانًا. غير أن التطورات الأخيرة قد تسهم في تغيير هذا التصور. وحتى ذلك الحين، ستستمر هذه الجماعات في استغلال الحروب كوسيلة لتحدي النظام الدولي، والتأكيد على التزامها بمحاربة إسرائيل باعتبارها قضية شعبية، لا مجرد وسيلة للبقاء. وما هو واضح حتى الآن أن الشرق الأوسط لا يزال يحترق، والمدنيون يواصلون دفع الثمن، في ظل مشهد إقليمي تغيب عنه مؤشرات الاستقرار.
مصطفى أياد
المدير التنفيذي لأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا في معهد الحوار الاستراتيجي في لندن
المملكة المتحدة
المصدر:
