تقارير ودراسات

تفكيك أصول خطاب العنف الدموي: قراءة نقدية لكتاب ابن تيمية “الصارم المسلول على شاتم الرسول”

محمد أمعارش باحث مغربي

 

ملخص الدراسة

تقارب هذه الدراسة صنعة الفتوى في المجال الديني الإسلامي، بإنجاز قراءة نقدية في فتوى فقهية موسعة ومفصلة لابن تيمية، أنشأ لها كتابا بعنوان “السيف المسلول على شاتم الرسول“، صارت كل الفتاوى بعده، منذ القرن الثامن الهجري إلى اليوم، عالة عليه سواء في الاقتداء بنهجه في ترجيح نقول العنف والمجالدة والقتل في معاملة المسيء للمقدس النبوي على نصوص العفو والمجادلة والصفح، أو في تبني استراتيجيات تنزيله النصوص على فهمه ومذهبه، بتنمية وتطوير خطاب أحادي صِدامي عنيف، يضع المؤمنين في مأزق حرج، يخيرون فيه بين نصرتهم النبي والمتعينة بالقتل وسفك دم شاتمه المسيء إليه، أو خذلانهم لهذا النبي بترخصهم وحقنهم لدم المسيء، الأمر الذي يرهنهم بين حَدَّي الإفراط والتفريط، ويربط لديهم عواطف التقديس بالتطهير الدموي تقربا وقربانا، ويجعل لسيف العنف الدموي عليهم سلطانا يتعاطونه في خلافات الرأي والاجتهاد.

ولأن عامة المؤمنين المستفتين لا يلتفتون في الفتوى إلا إلى ما يطلبونه منها من نتيجة متمثلة في الموقف النهائي والحاسم المُعَبَّر عنه بحكم من الأحكام الشرعية المقررة مِن أمرٍ ونهيٍ، يتصرفون في ضوئه، ويترجمونه إلى سلوك، وفي أبعد تقدير قد يطلبون في الفتوى الدليل الخبري من النصوص والآثار، فإنهم يغفلون عن أن الفتوى لا تدور على نقل النصوص والأحكام وتعيينها، وإنما تدور أيضا على استعمال هذه النصوص؛ أي على مختلف العمليات الإنتاجية والتحويلية الظاهرة أو الخفية في صنعة الفتوى وتسويقها، تلك ز3العمليات المحكومة بشروطها التاريخية والاجتماعية والنفسية والمعرفية، التي يعسر على الموقف الساذج والمتجرد عن العلوم الشرعية والإنسانية وعن نظريات الفهم والقراءة والتأويل، أن يدركها ويستوعبها.

ومن هذا الاعتبار، تسعى هذه القراءة إلى تفكيك عدد من استراتيجيات بناء الفتوى وصناعتها، انطلاقا من اقتناع هيرمينوطيقي أصولي يعتبر الفتوى اجتهادا بشريا ظنيا يدبر نصوص الوحي وأحكام الشرع بناء على اختيارات جدولية من متعدد ومختلف، ووفق أبنية وقواعد موضوعة سلفا، توزع عليها هذه الاختيارات لتشكل مجتمعة نَحْوَ الفتوى وجملتها المفيدة ونسيج نصها.

لا يتعلق الأمر في هذه الدراسة بمواجهة اختيارات ابن تيمية نصوص تَعَيُّنِ القتل، وأطروحة التكفير وتقرير العنف في معاملة الآخر المختلف، باختيارات وأطروحات مضادة تحتملها النصوص والنقول، وإنما بتفكيك الأبنية الثقافية والنفسية المقامة على النصوص والنقول والمنحجبة في المنتوج الإفتائي المُعَدِّ للتسويق.

إن رفع الستار عن المشهد الآخر الذي تجري فيه عمليات صناعة الإفتاء يسمح لفهمنا باختراق ما تراكم على نصوص الوحي من ضروب التصرف فيها بالجمع والتفريق والتحويل والتوجيه وإعادة التدوير، والتي صارت بدورها ضمن مجال المقدس الديني، بعد أن كانت صناعة فنية إنسانية. الأمر الذي يتطلب من الوعي الديني للمسلمين في عصرنا بذل جهد نقدي مزدوج لتحرير النصوص والأسانيد الشرعية من قبضة تحجير الأبنية الذهنية والنفسية والاجتماعية القديمة المغلقة، ولفتح هذه النصوص والأسانيد على الفهم المتجدد الذي تحتمله من أفق العصر، وهذا حُكم الوقت والشأن على الفتوى بحتمية التغير تبعا لتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، كما قال القدماء أنفسهم.

تقديم

يُعدّ كتاب “الصارم المسلول على شاتم الرسول” لابن تيمية (ت 728 هـ) أحد المراجع الإيديولوجية الملهمة لجماعات التكفير والعنف الديني في العصور الحديثة كلما أثيرت مسألة موقف المسلمين من الآخر المختلف؛ إذ يتجاوز هذا الكتاب حدود الفتوى الدينية المتعينة في الحكم الفقهي على من سب الرسول وشتمه مسلما كان أو كافرا، ذميا أو محاربا، إلى وضع إيديولوجيا متكاملة في نقض مبادئ التعايش والسلام المقررة في أصول الأديان السماوية والشرائع الإنسانية، وفي نسخ جميع آيات وأحاديث العفو والتسامح والصفح والحِلم، بتأصيل القتل وتغليب الحل الدموي وإجراء أحكام السيف على رقاب كل من خالف اعتقاده اعتقاد المسلمين أو خالفهم الرأي وأظهره، أو صدر عنه ما يعتبر تنقيصا في حق مقدساتهم وتدنيسا لسيرتهم، تعمد ذلك وقصده عن ظلم، أو أخطأ عن جهل أو عن استخفاف ولهو ولعب، حتى إن أبواب التوبة والاستتابة وتصحيح الإيمان من المسلم المخطئ، أو الدخول في الإسلام من أصحاب العقائد المخالفة من أهل الذمة أو المعاهدين أو من هم في دار الحرب، مسدودة في هذا الكتاب عليهم جميعهم، فليس إلا السيف المسلول حلا وحيدا أمام المسلم التائب لتطهيره، وأمام الكافر لقمع فتنته وجرأته على الدين وعلى الرسول.

ومع أن كتاب “الصارم المسلول” يتضمن تفصيلات وتفريعات لأحوال السابة والشاتمة من أهل الملة أو من أهل الذمة أو من أهل الحرب، وصور الطعن والسب والشتم، وتمييز السب عن الكفر أو التكذيب أو عدم التصديق، واستعراض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المختلفة وأقوال الصحابة ومقالات المذاهب الفقهية في المسألة، إلا أنها تصير جميعها صورة واحدة، وترجع إلى قول واحد، ويؤول الحكم فيها إلى السيف في كل الأحوال بلا خلاف عند ابن تيمية، فتكون التفاصيل والفروق والتقسيمات مجرد عمليات تراكمية حسابية وإحصائية صورية وشكلية، ورياضة ذهنية فقهية تنتهي حيث بدأت، وهو بداهة تحتم القتل لساب النبي مسلما أو كافرا، قاصدا أو غير قاصد، جادا أو ساخرا، مميِّزا أو غير مميِّز، تائبا أو مُصِرًّا، بل يتوسع القتل وتمتد مشروعية إعمال السيف في الكتاب إلى من قدح في الأنبياء جميعهم مع إمكان إلحاق الطاعنين في صحابة النبي ونسائه وكافة المسلمين بهم، ولا يتميز الرأي عن السب، ولا النقد عن السخرية، ولا مجرد ملاحظة عن إساءة.

خطورة “الصارم المسلول”

تكمن الخطورة البالغة لـ “الصارم المسلول” في تغليبه الإرهاب والترهيب على الحجاج والحوار والتفاهم، وسله السيوف في كل الاتجاهات وفي القضايا الفرعية الخلافية بين المسلمين أنفسهم، إذ يتعين من التفريعات والقياسات التي أوردها في تكفير الجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وأصحاب الفرق والمذاهب، ومن قال في مسألة كلامية أو فقهية بما لا يوافق مذهب ابن تيمية في اتِّباع السلف، قتالهم وجلادهم، مع ما استلزمه هذا الانجرار إلى العنف الشامل في تدبير الخلاف والرأي، من مواقف مضادة لخصوم ابن تيمية نفسه من فقهاء عصره وقضاته وحكامه بسعيهم إلى تكفيره وتبديعه والحكم عليه بالسيف المسلول الذي سله عليهم.

إذ من مكر خطاب العنف وفتاوى السيف بالرجل أن يكون هو نفسه من ضحاياهما؛ فقد توفي في سجن القلعة محبوسا بتهم خطيرة وقضايا تتعلق كلها بالإساءة للذات الإلهية والطعن في الاحترام الواجب للنبي، حتى إن من أعظم ما أنكر عليه ما يتعلق بتحريمه زيارة قبر النبي، واعتباره شد الرحال إليه معصية، وتأول خصومه تشدده وتعصبه في مسألة الزيارة، على أن الرجل يحمل في قلبه ضغينة للرسول، واعتبروا تصديهم له وفتاواهم بتفسيقه وتضليله غيرة للرسول ونصرة له، يقول ابن حجر الهيثمي في ذلك: “ووقوعه في حق رسول الله ليس بعجيب، فإنه وقع في حق الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فنسب إليه العظائم كقوله: إن لله تعالى جهة ويدا ورجلا وعينا وغير ذلك من القبائح الشنيعة، ولقد كفره كثير من العلماء، عامله الله بعدله وخذل متبعيه الذين نصروا ما افتراه على الشريعة الغراء”[1].

هناك سوابق على ابن تيمية ولواحق عديدة في التاريخ الإسلامي كان فيها أصحاب خطاب العنف والإرهاب من بين ضحايا خطابهم، فكما فتكوا بخصومهم ممن يخالفونهم الرأي بفتوى القتل دينا أو سياسة، قُتلوا هم أيضا بالفتوى الدينية والسياسية القاتلة نفسها. فالسيف الذي سله خالد بن عبد الله القسري، حينما نزل من منبر خطبة عيد الأضحى، وذبح به الجعد بن درهم المعتزلي في المسجد، بتهمة ترتبط بالخلاف الكلامي المعلوم في تأويل أخبار الأسماء والصفات، قد رُد في نحر خالد القسري، إذ بعد أن شكر له المشايخ صنيعه بخصمهم ومدحوه، انقلبت فتوى الذبح إليه وقُتل بالسيف شر قتلة، في تهم سياسية مغلفة بفتاوى دينية تدعي الغيرة لله كما ادعاها هو في نحره الجعد بن درهم، ومن هذه التهم بناؤه كنيسة لأمه النصرانية، وسبه لعلي بن أبي طالب وبغضه ونصبه العداء لآل البيت وزندقته.

لهذا كلما سل السيف في نزاعات التأويل والخصومات العقدية، والحوارات الفكرية والخلافات السياسية، وصار إليه الأمر والنهي وتلبست به الفتوى، دار هذا السيف على الجميع وذاقوا منه بلا استثناء بقدر ما أذاقوه بعضهم بعضا، إذ خطاب العنف لا يستثني أحدا ويتعشى مساء بأبنائه كما تغذى ظهيرة بخصومه، فعلى قَدْر ما شَيطنوا كل رأي واجتهاد تُشيطَن آراؤهم واجتهاداتهم، وفي ذلك قال شمس الدين الذهبي: “الأصولية بينهم السيف، يكفر هذا هذا، ويضلل هذا هذا، فالأصولي الواقف مع الظواهر عند خصومه يجعلونه مجسما وحشويا ومبتدعا، والأصولي الذي طرد التأويل عند الآخرين جهميا ومعتزليا وضالا، والأصولي الذي أثبت بعض الصفات ونفى بعضها وتأول في أماكن، يقولون: متناقضا”[2]، والذهبي هذا من تلامذة ابن تيمية، وهو القائل في شيخه صاحب “الصارم المسلول”: “وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت قد أخره بين أهل مصر والشام، ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب، وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار. فانظر كيف وبال الدعاوي ومحبة الظهور، نسأل الله تعالى المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم، وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم، بل بذنوبه، وما دفعه الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون، فلا تكن في ريب من ذلك”[3].

في عصرنا هذا من الأمثلة الكثيرة عن تداول المسلمين السيوف المسلولة على رقاب بعضهم البعض، وتعاطي القتل، وتبادل التكفير والتكفير المضاد، حتى إنك لا تجد عالم دين أو متكلما فيه، أو صاحب رأي واجتهاد في القضايا الفكرية والأمور الفقهية، لم يُعرض على السيف ولم يسلم من لسان التكفير وسنان التهديد بالقتل من شركائه في الملة والدين، وتكفي الإشارة إلى التكفيرات المتبادلة بين الجماعات الدينية والمجموعات المذهبية، وضرب بعضهم رقاب بعض، والتحريض على القتل بمجرد الظنة والشبهة والخلاف في الرأي والفروع، ناهيك عن الخلاف في الأصول، وكذا الإشارة إلى العنف اللفظي الشنيع الذي يرسله المفتون على فتاوى واجتهادات غيرهم، مع ما في هذا العنف من فتنة وتهييج للعامة، وحض ظاهر أو خفي للشبان الأغرار المتتلمذين للمشايخ على التنافس في ترجمة فتاوى التكفير إلى ممارسات للتقتيل والاغتيال والتنكيل، وإيجاد المسوغات الدينية والمبررات الشرعية الأشد قسوة للظهور على الأقران وطلب النجومية والأضواء والانتقام لأنفسهم وأوضاعهم من المجتمع والدولة ومن المؤسسات باسم نصرة الدين وإقامة الشريعة[4]. ولولا انقماع بعض ما يشيعونه من فوضى بالرقابة القانونية وبما كفلته لهم أنظمة العصر والمنظومات الحقوقية والأمنية وحريات الرأي والتعبير من حقن للدماء ومراعاة للحق في الاختلاف، وضمانات للمحاكمة العادلة، والتي ينقلبون عليها وينتقدونها ويستنكرونها ويتهمونها بالفساد والتغرب، لما أبقوا، بألسنتهم وبسيوفهم المعروضة والمسلولة في كل الاتجاهات، كرامة أو حياة لفرد أو جماعة منهم، فضلا عن غيرهم، ولأهلكوا وهلكوا تحت أقدام أطروحاتهم التكفيرية وفتاواهم الدموية.

الأصل القتل وإسقاط العفو

في “الصارم المسلول” لا اعتبار لمصالح المسلمين مع العالمين، ولا احترام لمقتضيات الجدال والرد بالتي هي أحسن، ولا معاملة بالمثل مع أهل الأديان الأخرى، إذ يقر بحق المسلم في “سب دينهم الباطل وإظهار معايبهم”[5]، مع منعهم من إظهار شيء من دينهم أو إعلانه. ولا مراعاة لمقاصد الدين في الرحمة بالخلق، ولا لحلم الرسول وعفوه عند المقدرة عمن هجاه، وصفْحه عمن شتمه وآذاه، ولا إعمال لقاعدة درء الحدود بالشبهات أو تغليب الخطأ في العفو عن المسيء على الخطأ في تنفيذ العقوبة عليه، وتوصية الرسول بالتماس المخارج والأعذار للمسيئين على التماس أدلة الإدانة والتوريط، خصوصا وأن العقوبة مغلظة وفيها سفك دماء وإزهاق أرواح، إذ لا يكتفي كتاب “الصارم المسلول” بتقرير حكم تكفير وكفر المستهزئ بالدين والمستخف برموزه، بل يتعداه إلى إيجاب قتله، بله قتل من لا يعتقد بوجوب القتل، إذ التشكيك في حكم القتل أو ترك هذا الحكم وتعطيله وإسقاطه، خذلان لله ولرسوله.

ومع أن القتل اختيار من بين اختيارات عديدة في الفقه الإسلامي القديم، ومنها العفو والمن والافتداء أو الرد بجنس العمل أو بالإفحام والإقناع بالحجة، فإن كتاب “الصارم المسلول” لا يترك اختيارا آخر يبرز غير السيف؛ أي اختيار الأشد عنفا والأكثر دموية ونكالا وتنكيلا وفتكا بالمخالفين، بل لا يترك للاختلاف في الحكم وإن قرره في المسألة أن يتوسع في اتجاه وضع صحي وسليم في مواجهة الرأي بالرأي، حيث يسلط على المواقف المستعظمة لإراقة الدماء، جيشا جرارا من الآيات والأحاديث التي يوردها للاعتضاد لا الاستناد، وهي عنده نص في وجوب القتل، فضلا عن دعاوى الإجماع المطلق والإسراف في إعمال آليات القياس والاعتبار والاستنباط، التي تترجح مجتمعة على غيرها من نصوص القرآن وأخبار سيرة الرسول مع من آذاه من المكذبين والمنافقين والشعراء، كما تتراجع معها الأقاويل الفقهية والمذهبية الأخرى المضادة الدالة على وجود اختلاف في المسألة، وتذوب في الوحدة والتشابه والرأي الواحد الغالب، حتى تصير كالشواذ والشوارد من الآراء، التي لا حكم لها بل حكمها أن تؤكد القاعدة العامة، ومنها حكاية موقف أبي حنيفة من قتل الذمي شاتم الرسول، بالاختزال وبصيغة التشكيك والتمريض: “وحُكي عن النعمان: لا يُقتل ـ يعني الذمي ـ ما هم عليه من الشرك أعظم”[6]، وأن عهد الذمي لا ينتقض بالسب.

وقد بالغ ابن تيمية في رد هذا الموقف، وتعسف في دَفَع توجيه الأحناف للآثار المنقولة في وقائع قتل الطاعنين في الدين والمسيئين للنبي والمسلمين، وتأولهم لها على أن القتل فيها رأي المصلحة اقتضته السياسة، وليس حكما شرعيا[7]، وعنده “أن من طعن في ديننا حل دمه وماله”[8]، كما رد بعدم الاستحسان تمييز عدد من الفقهاء بين المحارب الذي تجب محاربته ومقاتلته، والمعاند والمحاد المسالم الذي تتعين مناظرته بالحجة، ذاكرا أن “المحاد ليس بمسالم”[9]، ورجح مذهبه هذا معتبرا إياه “أحسن من قول من قال: إن الغلبة للمحارب بالنصر، ولغير المحارب بالحجة، فعُلم أن هؤلاء المحادين مغلوبون”[10].

ينتهي قارئ كتاب “الصارم المسلول”، إلى خلاصات خطيرة في استطرادات واستنباطات ابن تيمية وتفريعاته على المسائل، تتجاوز حُكم شاتم الرسول، إلى إعلان الحرب والقتال على المعاهدين من أهل الهدنة المقيمين في بلدانهم إن آذوا المسلمين، وعلى أهل الذمة إن أظهروا شيئا من دينهم “الباطل”، وإن لم يؤذوا المسلمين،[11]، إذ إنما “أقررناهم على إخفاء دينهم”[12] فـ “أهل الكتاب محادون لله ورسوله وإن كانوا معاهدين”[13]، ومحاداة الله ورسوله ناقضة للعهد إذا أعلنها الكتابي، و”المحاد لا عهد له على إظهار المحادة”[14]، وأن ما ذكر من عفو الرسول عمن آذاه من المخالفين المحادين، إنما كان في بداية دعوته، قبل أن يؤمر بالقتال والقتل، وتنتسخ آيات العفو والصبر.

مفاد كل ذلك، بالنسبة إلى قارئ الكتاب المتأمل في توجيهاته للنصوص والأخبار، وترجيحاته بين المتعارضات، أن الأصل في الإسلام هو القتل والقتال في مواجهة الآخر المختلف، وأن حد السيف وأشد طرق التعنيف والتعذيب في الرد هما قاعدة معاملة هذا المختلف، وأن القتل دين لا سياسة، وأن الهدنة مع غير المحاربين سياسة مؤقتة واستثنائية، ويمكن الانقلاب عليها شرعا ولأدنى سبب مفتعل، وأن العفو والصفح الجميل لا يتناسبان مع التحقير والصَّغار اللازمين في أصول معاملة الآخر المختلف دينا، وأن ما أظهره النبي والمسلمون الأوائل من جنوح إلى السلم والتسامح وعصمة الدماء، إنما كان خدعة ومداراة في حال الهوان وضعف الشوكة، فلما قوي الإسلام وانتصر وانتشر، تقررت أصول العنف والحرب والإكراه، ورُفع استثناء الحِلم والسِّلم والتخيير، فكأن هذا القتل عقيدة، وكأن تحريض الأمة والأفراد واجب ديني، يأثم تاركه أو المشكك فيه، “وكل من أمرنا بقتاله من الكفار، فإنه يُقتل إذا قدرنا عليه”[15]. والحال، أن المعلوم نقلا وعقلا وعرفا، أن العفو شيمة القادر الكريم عند المقدرة، وليس شيمة للضعيف عند العجز والهزيمة.

وما احتفاء جماعات العنف الديني في الإسلام بهذا الكتاب، والاستشهاد بمقتطفات منه في خطاباتها وفي مشاهد ذبحها وتحريقها للمخالفين والأسرى، والتي تنقلها شاشات وسائل الإعلام المرئية، إلا دليل على وقعه الخطير والسيئ على شباب المسلمين والأغرار ممن تولوا مهمة الترجمة الأمينة لخلاصاته وتوصياته في العصر، وممن أساءت صورهم إلى نبي الرحمة المهداة، وإلى أصول الدين وجوهره، وكرست في متخيل الشعوب والأمم غير المنتمية إلى الثقافة الإسلامية صورة مخيفة وموحشة عن المسلم المتعصب والمتعطش للدماء، كما كشفت للعالم عن أزمة في الوعي الحضاري للمسلمين، وعن مبلغ ما أصاب الإسلام من مرض التطرف وداء التعصب[16]، بسبب سوء تدبير المنتسبين إليه لعلاقتهم بالدين والتراث والدنيا والحداثة، وضعف أخلاق الحوار لديهم وآداب الدفع بالتي هي أحسن، ورد السيئة بالحسنة، وبحكم تراجع اجتهادهم واغترابهم في التراث، جراء ما تراكم في واقعهم من خيبات وهزائم وإحباطات وإفلاس ديني وفكري.

الوضع الاعتباري الاجتماعي للكتاب / الفتوى

وجد المحققون نسخا مخطوطة كثيرة لكتاب “الصارم المسلول”، متفرقة في المكتبات العامة، كما وجدوا له مختصرات وتلخيصات مشتهرة، حققوا عددا منها[17]، مما دل عندهم على كثرة تداوله ونسخه والاهتمام به من قبل القدماء، كما دلت عندنا كثرة تحقيقاته وطباعاته ومعاودات طبعه في مختلف الأقطار الإسلامية، وكذا تلخيصاته ومختصراته في العصر الحديث، على شدة الطلب عليه واحتلاله مكانة معتبرة في المكتبات الدينية مقارنة مع غيره من الكتب والمصنفات القديمة والجديدة التي تتناول بالفتوى الفقهية أحكام المساس بالمقدسات ونبي الإسلام[18].

ولقد بلغ الإعجاب بالكتاب لموافقته هوى التيارات المحافظة والمتشددة، ولتجاوبه مع عواطف التقديس والحمية الدينية في العصر، وكذا الاستدلال به في تبرير التكفير والتقتيل في حوادث القصص والأشعار والأفلام والرسومات المسيئة للرسول، حدا دفع مبجلي الكتاب من الدعاة والغلاة إلى مطالبة المسؤولين عن التعليم، بإدراج “الصارم المسلول” في المناهج التعليمية المدرسية والجامعية: “لكي يدرك الطلاب هذا الأمر إدراكا صحيحا، وينتشر بين الناس معرفة حكم الساب وحده الشرعي”[19]، مع أن الكتاب يشكل خطورة على الناشئة، لما يترتب عن تلقينه مِن زرع لثقافة الكراهية والعنف والقتل. كما تم اقتراح التعريف به على نطاق واسع في العالم عبر ترجمته إلى جميع اللغات: “فيا حبذا لو يترجَم هذا الكتاب وغيره من كتب شيخ الإسلام القيمة إلى اللغات الأخرى، ليعم النفع بها بإذن الله تعالى، فما أحوج الناس اليوم إلى إدراك حقيقة هذا الأمر الخطير.”[20]

كأنه لم تكْفِ هؤلاء الدعاة تشوهات صورة الإسلام في العالم، جراء السلوكيات العدوانية والإرهابية لعدد من المنتسبين إليه، حتى أضافوا إليها ما يكرسها بالدليل والبرهان. ولو أنصفوا دينهم ونبيهم أمام الأغيار لدعوا إلى ترجمة مواقف الرحمة المهداة للعالم، بدل اقتراح ترجمة فتاوى التعذيب والقتل والسحل والذبح وقطع الرؤوس وتحريق الأجساد وشي اللحوم.

أي نفع أو فائدة للإسلام وللمسلمين ولشركائهم في العالم من أهل الملل والنحل والمذاهب والأفكار والسياسات، في عرض الإسلام وتعرفه من أضيق زواياه، ومن التشوهات التي أصابته؟ بل ما الذي ستضيفه ترجمات فتاوى القتل المسيئة لصورة المسلمين في العصر، على الروايات والصور والرسومات والأفلام المسيئة، التي لم تقم إلا بتجسيد الفتاوى وترجمتها واستنساخها؟ فلِمَ الانتفاض إذاً ضد هذه التعبيرات الفنية، إذا كان الدعاة وغُلاة العنف الديني يمدانها بالمادة الأولية للصورة ممثَّلة في سلوكيات الإرهاب والكراهية وقمع الحريات والحقوق من جهة، ومؤصلة ومترجَمَة في خطاب “الصارم المسلول” و”الصواعق المحرقة” من جهة أخرى؟ وكأننا أمام مشهد لمرايا متجاورة يعكس بعضها ما في بعض، أو أمام مشهد مسرحي لحفل تنكري تُتبادل فيه الأدوار والمنافسات على التنكيل بجسد الإسلام؛ يبدأ من خطبة عنيفة ثم قنبلة مفجَّرة، لينتهي عند رجيع الصدى في الشاشات فالرسومات، ثم يعود الدور من حيث بدأ.

كتاب “الصارم المسلول على شاتم الرسول” عبارة عن فتوى موسعة ومفصلة ولذلك يتم تصنيفه تارة بالنظر إلى إفتائه في نازلة ضمن مصنفات الفتوى، كما يتم تصنيفه تارة أخرى بالنظر إلى موضوعه المتعلق بأصول الاعتقاد في النبوة والإيمان بالنبي ضمن كتب العقيدة وأصول الدين، وبالنظر إلى خوضه في الحدود والأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات على المخالفات، يصنف ضمن الكتب الفقهية والتشريعية، وبالنظر إلى الطابع السجالي الذي بنى به منهجيته وساق به أطروحاته الصارمة بشأن تعين عرض سابة وشاتمة المقدسات على السيف ولا شيء غيره، لمواجهة أطروحات الترخص والتساهل والتسامح المضادة، يصنف الكتاب ضمن كتب الردود والجدل.

غير أنا نكتفي بمعاملة الكتاب من زاوية تلقي العامة والجمهور له، باعتباره مرجعية في الفتوى المعتمدة بخصوص العلاقة مع الآخر المختلف، والحكم الشرعي في مسائل تدنيس المقدسات، مجردا من سياقاته التاريخية وحدوده المعرفية، وباعتباره أيضا خزانا مليئا بالمواقف الجاهزة والصارمة التي متحت منها كثير من الفتاوى الدينية اللاحقة عليه إلى عصرنا هذا، وغذت ولا تزال تغذي خطاب العنف للجماعات الدينية المعاصرة، في تسويق التشدد والكراهية على نطاق واسع، ومواجهة فقه الاعتدال والرفق والوسطية. ونجد في تصنيفنا للكتاب ضمن كتب صناعة الفتوى، ما يبرره ويسنده من إشارة ابن تيمية لسبب تأليفه في مقدمته بقوله: “وإنما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتي به المفتي، ويقضي به القاضي، ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه.”[21]

حرر الكاتب فتواه على إثر واقعة تاريخية (نازلة) حدثت في قرية من قرى دمشق عام 693 هـ، بعد أن شهد جماعة من الناس على أحد المسيحيين يدعى عساف النصراني بسب النبي، وبلغ ابن تيمية ذلك فانتقل رفقة أحد مشايخ دار الحديث إلى دار الأمير نائب السلطنة لشكاية النصراني، وخرج معهما خلق كثير هائج، وصار الأمر فوضى، فلما أُحضر المتهم ضربه المحتجون ورجموه، وتدخل الأمير وأمر بضرب ابن تيمية ورفيقه وسجنهما، وعقد مجلسا للحكم في النازلة، حيث أكد النصراني المتهم أن بينه وبين الشهود عداوة سابقة، الأمر الذي يشير إلى أن الشكاية قد تكون كيدية، حيث حكم المجلس بناء على هذه الشبهة ببراءة المتهم وحقنِ دمه، وقيل إنه أعلن إسلامه، ثم استدعى الأمير ابن تيمية ورفيقه وأطلق سراحهما واسترضاهما[22].

لم يُرض هذا ابن تيمية، فعكف على تأليف الصارم المسلول، مستحضرا خصوص السبب وعموم اللفظ في فتواه، وهو ما يفسر انتقاده الشديد لأي ترخص أو تهاون في قتل ساب الرسول من أهل الذمة، والتماسه إنزال أقصى العقوبات به، وإن دخل إلى الإسلام.

فالكتاب يستحضر مناخ عصره وكذا انخراط ابن تيمية في أتون الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية في بلاد الشام، والتي سعت سلطات الإقليم إلى احتوائها وتهدئتها تارة، والاستفادة منها تارة أخرى في خلق التوازنات وتقوية نفوذ الدولة ومؤسساتها الرسمية لمواجهة المخاطر المتربصة بها، وما ضرْب ابن تيمية وسجنه في الواقعة إلا علامة على انزعاج قطاع عريض من فقهاء المذاهب ومشايخ الصوفية والقضاة والأمراء من تدخلات ابن تيمية في الحياة العامة، بفتاوى مهيجة ومستفزة للاستقرار والأمن الهشين بالمنطقة.

وإذ توسعت حملات تكفير ابن تيمية لمخالفيه في المذهب والعقيدة والسياسة والفكر والرأي، توسعت كذلك حملات خصومه في تكفيره، وكثيرا ما رفعوا أمره إلى السلطات، وسعوا في تجريم فتاواه، وسُجن مرات عديدة بتهم الإساءة إلى الدين، مع الإشارة إلى ما تخفيه هذه التهم من وجود صراع مصالح ومراكز ونفوذ بين فرقاء وشركاء الفعل السياسي والديني لاستقطاب الجماهير أو التقرب للسلطات.

وقد شُحنت كتب التأريخ لسيرة ابن تيمية وعصره، وكتب وفتاوى خصومه بإشارات إلى مؤاخذات وتشنيعات عليه من مثل: التلبيس على الناس، وتهييج العامة وإثارتها، وإحداث الهرج والقلاقل، والخروج عن الجماعة، وطلب الزعامة، والازدراء بالأكابر، ومحبة الظهور، ومصادمة العوائد المستقرة[23]. ومن شأن استحضار هذا المناخ الديني والسياسي في ارتباطه بالتهديدات الخارجية التي تعرضت لها بلاد المسلمين، أن يفسر أسباب عنف خطاب “الصارم المسلول”، الذي لا ينكل فيه ابن تيمية فحسب بساب الرسول، بل ينكل فيه ضمنيا بمن حموا هذا الساب وحقنوا دمه من القضاة والأمراء، وفرقوا الجموع التي التفت على ابن تيمية في ما يشبه كرة ثلج متدحرجة تنذر بما ستصير إليه.

كأن ابن تيمية بصنيعه في “الصارم المسلول” قد خلد انتصاره العلمي والسيكولوجي في هذه الواقعة، وإن لم ينتصر في الواقع بما كان يأمله من قتل النصراني المتهم، وعلى هذا يمكن اعتبار فتوى “الصارم المسلول” تعبيرا عن موقف سيكولوجي لابن تيمية أكثر منه تعبيرا عن موقف الإسلام أو عن موقف فقهي معرفي هادئ مجرد عن الأغراض والأهواء. فقد رد الرجل الصاع صاعين لمن جادله من الفقهاء ولمن ضربه وسجنه من الحكام في الواقعة بين يدي أعدائه، وصفى حساباته الشخصية مع المراجع الدينية الحاكمة بإخمالها بالسلطة المعرفية الشرعية للعلوم التي يحملها والتي فتقها بالكتابة وحبك بها “الصارم المسلول”، بعد هدوء الغضب والتفرغ لعلاج الجرح بالكتابة.

والمعلوم أن عددا من مصنفات ابن تيمية وفتاواه ألفت في ظروف محنته وامتحانه، وفي السجون التي تنقل فيها، ولا يخفى ما تحمله من شحن عاطفي في وضعيات عداء ومواجهة وأحوال غضب وتوتر نفسي، ولذلك قال عنه الصلاح الصفدي (ت 764هـ) في كتابه “أعيان العصر وأعوان النصر”: “ضيع الزمان في رده على النصارى والرافضة، ومن عاند الدين أو ناقضه، ولو تصدى لشرح البخاري، أو لتفسير القرآن العظيم، لقلد أعناق أهل العلوم بدُرِّ كلامه النظيم”[24].

يغفل غلاة أتباع ابن تيمية عن أنه ألف “الصارم المسلول”، في مرحلة شبابه وعمره لا يتجاوز اثنين وثلاثين سنة، وكان مولده عام 661هـ، وأن مؤلفاته ورسائله في هذه الفترة من عمره، يغلب عليها حماس الشباب والبدايات، وشيء من التسرع والتعجل في الحكم والفتوى بالتكفير، الأمر الذي يُلاحَظُ أنه تجاوزه في مؤلفاته في الخمسينيات والستينيات من عمره، مع مؤلفات من عيار “درء تعارض العقل والنقل”، و”الرد على المنطقيين”، وغيرها من مصنفاته ورسائله في هذه الفترة التي غلب عليه فيها نوع من النضج المعرفي والنفسي، والتي تتضمن تراجعات ومراجعات في مسائل التكفير وفتاوى القتل.

إن واقعة عساف النصراني، التي تنازعتها أحكام السلطان والقضاء المؤسسي، وحكم الفقيه السلفي ابن تيمية، تكشف لمن تأمل ملابساتها وسياقاتها عن مجانبة ابن تيمية للصواب والحكمة فيها، كما تكشف عن خفته وتسرعه وانسياقه مع الحشود والشهود في تثبيت التهمة والإدانة على النصراني، والمطالبة برأسه، وابن تيمية مع علمه وفقهه، ومع أنه لم يسمع مباشرة من الرجل سبا للرسول، وليست معه بينة على الدعوى، لم يأخذ بعين الاعتبار إمكان وجود شبهة في الواقعة تعصم دم المتهم، وهي الشبهة التي صرح بها هذا المتهم، حينما ذكر أن بينه وبين الشهود المدعين سابق عداوة، واستفزاز متبادل وأحوال من الغضب، الأمر الذي أخذته المؤسسة القضائية والسياسية بعين الاعتبار، وبناء على حساباتها وتقديراتها كذلك، فحكمت بحقن دم المتهم ومتعته بظروف التخفيف وأخلت سبيله.

لعله بسبب من هذا التسرع والخفة وعدم مراعاة عين الحكمة والعقل في كثير من خرجات ابن تيمية ومعاملته للمختلفين معه عقيدة أو شريعة أو سياسة أو رأيا وفكرا، ذمه من ذمه بالتنطع والغلظة وخفة العقل، وجفاه عدد من أصحابه وتنكروا له، مع الشهادة له بالعلم الغزير والوافر في المعارف النقلية والعقلية لعصره، والذي لا يدانيه فيه قرين أو مجايل، وفي ذلك قال عنه شمس الدين الجزري (ت 739هـ): “وكان علمه أكثر من عقله”[25]، فصار القول حُكما تناقله غير واحد من المؤرخين والفقهاء، حيث حكم به شهاب الدين الآمدي في كتابه “نهاية الأرب في فنون الأدب”، قال: “وكان علمه أرجح من عقله”[26]، وذكره الرحالة ابن بطوطة في “تحفة النظار” في قوله: “ابن تيمية كبير الشأن، يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئا”[27]، وبذلك صرح الصلاح الصفدي من معاصري ابن تيمية والمتتلمذين على يديه، فقال: “الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية، رحمه الله، علمه متسع جدا إلى الغاية، وعقله ناقص يورطه في المهالك، ويوقعه في المضايق”[28].

في مثل هذا الوضع التاريخي من صراع المناصب والمراكز والزعامات، وتفشي القلاقل والتوجسات في النسيج الاجتماعي والجسد الثقافي، وغزو الأجانب وتربص الأغراب، لن يعود الآخر المختلف شريكا في البلد أو “المواطنة” أو الإنسانية، بل عدوا يمكن لأي حركة منه تعلن اختلافها أو وجهة نظر تبدر منه، أن تكون مستفِزَّة ومتأوَّلة على أنها مفسدة عظيمة، يجب وأدها وقمعها بشدة في مهدها، فتجيء الفتوى لتبرر القتل بترجيح قاعدة “أولوية درء المفاسد على طلب جلب المصالح”.

والقصد بيان أن وراء مشهد الاستدلال النقلي والعقلي والحجاج الفقهي الظاهر في الكتاب/ الفتوى، باعتباره منتوجا ثقافيا خالصا، مشهد آخر للعمليات الإنتاجية الإيديولوجية التي تحكمت في إنتاجه وصناعته، وفي ضوء كواليسها يتقرر فهم خطاب الكتاب، وتفسير عنفه، وهي عمليات ليس بمقدور كل قرائه ومعتمديه في الفتوى أن ينتبهوا إليها، بله أن يفصلوا فيها بين الذاتي والموضوعي، والمتغير والثابت، وأن يميزوا فيها السياسي عن الديني، وأن يفكوا شفرات الخطاب، ناهيك عن الحجر على التلقي النقدي للتراث الديني في حاضر المسلمين، وتغييب الوعي التاريخي بموضوعات هذا التراث وقضاياه ورهاناته المحكومة بأفق عصرها وتحدياته.

استرتيجيات صناعة العنف في الكتاب /الفتوى

لقد حاول ابن تيمية نفسه جاهدا إخفاء كواليس الواقعة التي كانت سببا في تصنيفه للصارم المسلول، وتجريد فتواه من ملابساتها التي أثبتها مؤرخو عصره، على غير عادته في فتاواه الكثيرة، التي وثق فيها أسباب ورودها وإيرادها، غير أن كتابه متلبس بها في خطابه المشفر وشكل تعبيره وتلفظه[29]، وبين سطوره ومنها ما أشار إليه مُنَكَّرا في قوله: “فاقتضاني لحادث حدث أدنى ما له (أي النبي) من الحق علينا، بله ما أوجب الله من تعزيره ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل مؤذ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب…”[30]، كما أخفى قوانين وقواعد بنائه وشفرات خطابه ولعبة تركيبه وعمليات تصرفه في المتون السابقة عليه، كدأب كل نص، إذ هذا الإخفاء شرط وجوده وتوجهه إلى قرائه، والكشف عن هذه القواعد والقوانين في لعبة النص تجعله يتفكك وينهار من تلقاء نفسه بين يدي قرائه، ولا يعني هذا الانهيار قتلا للنص وطيا له، بل تنسيبا له ودفعا لتوتراته ولتبايناته للانكشاف والظهور من بياناته المعلنة.

قد يرى عدد من قراء الكتاب والمعجبين به والمتحمسين له في العصر، أن مؤلفه لم ينفرد بما ذهب إليه في الكتاب من أطروحة التكفير والقتل، عن جمهور علماء المسلمين من جميع المذاهب، وأنه ليس بدعا بين المفتين في مثل هذه النازلة، بل إنه لم يقم إلا بنقل الدليل بـ “قال الله” و”قال الرسول”، مدعما بأقوال السلف من الصحابة والتابعين وحكاية إجماعهم في المسألة. لكن شأن الكتاب وأمره يفوق ذلك بما صنعه بهذه النصوص والأقوال بإعماله قواعد في القراءة والتفسير والتوجيه والتأويل والتعليل، في اتجاه توريط هذه النصوص المنقولة في فتواه، وتنزيلها على فهمه ومذهبه، وإغلاقها عن أي فتح ممكن لها على الاختلاف أو الاحتمال بتسييجها بالموانع والمحاذير. مما يعني أن نقل هذه النصوص بتجميعها والمواءمة بينها وعنونتها والاستنباط منها، مع ترجيح بعضها على بعض وإهمال غيرها مما هو في سياقها ويخالفها في الدلالة على ما يتعين القيام به في المسألة، ليس مجرد نقل لهذه الآثار والنصوص، وإنما هو تحويل وإعادة إنتاج لها بالكتابة والتصنيف والتصفيف والمراقبة، وتكثيف ونشر لاقتصاد عنفها في مختبر الكتابة.

لقد صنع الكتاب من النصوص المنقولة نسيجا نصيا آخر هو الكتاب نفسه في بنيتيه السطحية والعميقة، ومن شأن فتح العمليات الإنتاجية المتوارية خلف الكتاب المنتوج، أن يزيل الستار عن هذا المشهد المسرحي الآخر الذي تجري فيه مختلف الانزياحات والتحويلات والتنقيلات غير الظاهرة لنصوص وآثار سابقة.

ليس هذا الكتاب/الفتوى مجرد عمل تدويني ونقلي لتراث السلف في المسائل المفتى بها، فحسب، بل حركة تحويلية بامتياز لهذا التراث وزحزحة لمركزه، في إطار برنامج قرائي محكوم بأفق كتابته المتمثلة في الشبكة المعقدة لإنتاجه ضمن هذا الكل الاجتماعي Le tout social الذي نسميه ثقافة العصر وصراع المصالح ونزاع التأويلات.

من هذا الأفق الكتابي، نَحَتَ ابن تيمية داخل النصوص المنقولة نصه الخاص المركب من مادتها الأولية المنتقاة بعناية، والمحولة بوساطة استراتيجيات استبدالية جدولية Tabulaires تقوم على انتقاء واختيار نصوص بعينها من المدونة التراثية (دعم نصوص تَعَيُّنِ القتل وتَحَتُّمُ السيف والمجالدة مع استبعاد نصوص تغليب العفو والمجادلة، بالإسقاط أو التأويل)، واستبدال كلمات بكلمات وعبارات بأخرى بوساطة التعليل والقياس (إظهار المخالف دينه محادّة لله ورسوله، والمحادة طعن في الإسلام والمسلمين، والسب والشتم محادة، والمحادة سيفُ قتال وإعلان حرب ونقض معاهدة وإيمان وأيمان. سب المسلم سب للنبي، سب الصحابي سب للنبي. الهجاء قتال…)، وبوساطة استراتيجيات توزيعية خطية Linéaires تقوم على إسقاط هذه الاختيارات والانتقاءات الجدولية من مدونة التراث الحديثي والفقهي واللغوي والكلامي والأصولي على القاعدة التركيبية لخطاب المؤلف؛ أي تنزيلها على نَحْوِ فهمه وتقعيده وخطاطة إدماجه وتنميته لهذه النصوص النقلية القديمة المختلفة والمتنوعة السياقات في نص/ كتاب جديد منسجم ومتماسك، يشطب كل الاختيارات المتعارضة في مسألة حكم شاتم الرسول وعقوبته غير اختيار الحكم بالسيف.

مِن هذا الاختيار تم تطوير اقتصاد العنف في النصوص المنقولة، بما أتاح للكتاب إعطاء قيمة مطلقة لهذا العنف في المبادلات الثقافية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية (تنضيد النصوص بعمليات رد المتشابه إلى المحكم، والمتعدد إلى الواحد، والاختلاف إلى الإجماع، وكذا عمليات الترجيح والتغليب والنسخ والترتيب والتقريب، والإجمال والتفصيل والإطلاق والتقييد، وتنقيح المناط والتعليل بعلة واحدة…).

إن تفكيك هذه الاستراتيجيات الجدولية الاستبدالية والخطية التوزيعية المعتمدة في صناعة الكتاب/الفتوى، من شأنه أن يحدد وضعه الاعتباري من حيث هو عمل على النصوص وتعديل لها اجتماعيا وثقافيا (الاجتهاد = بذل الجهد)، حتى تصلح للاستعمال الجديد والمبادلة الزمانية. ومن ثمة نرى أن تحليل تمفصلاته لا ينبغي أن تنشغل فحسب بثنائياته البنيوية الأصولية: النص والرأي، والنقل والعقل، واللفظ والمعنى، والمحكم والمؤول، بالقدر الذي يتعين الاشتغال على تمفصلاته التكوينية، بين المنتوج النصي المتعالي والخالص والنهائي الظاهر للعيان Le produit / وعمليات الإنتاج اللانهائية المنحجبة فيه، والتي يستبطنها La production. وهو ما عنيناه بتحليل الإنتاجية La productivité، أو برفع الستار عن المشهد الآخر الذي يمثل لاوعي النص، والذي تجري فيه مختلف التحويلات للنصوص والأقاويل.

والقصد بيان أن الكتاب/ الفتوى عمل أشبه بالكتابة على المحو (طرس Palimpseste)، وأن على التحليل ألا يهتم فحسب بالنصوص المنقولة من حيث دلالتها وبناها وحجيتها، بل أيضا بتحليل قيمتها الاستعمالية والتداولية؛ أي تعرف ما يصنعه الناس بالنصوص وكيف يستعملونها في مبادلاتهم الثقافية والاجتماعية.

حسبنا التمثيل بمثالين في عمليات صناعة العنف وتوليده من النصوص المنقولة، عبر تحليل الاستراتيجيات الكتابية المعتمدة في إنتاج الكتاب/ الفتوى واستعماله:

أ- استراتيجية العنونة

فقْه كتاب “الصارم المسلول” كله مختصر في عنوانه، وقد تنبه القدماء إلى ما لعناوين الكتب من تأثير كبير في توجيه مدونات النصوص الثقافية كمدونات الحديث واللغة، حيث اشتهر عنهم قولهم: إن فقه البخاري يُلتمس في تراجم (عناوين) أبواب جامعه الصحيح (كعنونته بابا في مدونة أحاديث كتاب العتق من صحيحه: باب كراهية التطاول على الرقيق)، كما قيل إن علوم اللغة عند سيبويه مختصرة في عناوين أبواب كتابه “الكتاب”،(من مثل هذه العناوين: باب ما يجري في الشتم مجرى التعظيم، وباب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده). ومن ثمة لا يمثل عنوان: الصارم المسلول في غلاف الكتاب مجرد تسمية أو وسم دلالي لما بين دفتي الكتاب لتمييزه عن غيره من الكتب، فمصنِّفه كان أمام اختيارات مفتوحة كثيرة لعنونة كتابه، كاختيار عنوان: “حكم شاتم الرسول”، أو “الفتوى العسافية” نسبة إلى واقعة عساف النصراني المستفتى في شأنه، على غرار عناوين محايدة له كالتي عنون بها رسائله وفتاواه الأخرى الموسومة بأسماء مدن أو أشخاص منتسبين إليها، من مثل: “الرسالة التدمرية” نسبة إلى تدمر في سوريا و”الفتوى الحموية” نسبة إلى حماه في سوريا و” العقيدة الواسطية” نسبة إلى واسط في العراق، أو اختيار عناوين أخرى كعنوان “النهي عن سب الرسول”، والذي نجد له نظائر في الكتب والرسائل المصنفة في القرون المتقدمة على قرن ابن تيمية، ومنها: “رسالة في من سب النبي” و”رسالة النهي عن سب الصحابة” للفقيه محمد بن سحنون (ت 256).

إن اختيار عنوان “الصارم المسلول على شاتم الرسول”، دال باختياره الواعي وإنشائه اللفظي، وصنعته وصناعته، على الرغبة في الإظهار المباشر والمختصر للحكم والفتوى: حكم شاتم الرسول القتل/ السيف، وكل ما بعد العنوان في الكتاب هو مجرد تفاصيل وتفريعات واستدلالات على الحكم والفتوى بالدليل والأقاويل والتعليل، ومجرد تبديد للشبهات ومطاردة للاعتراضات ب “الدليل السالم من المعارض”.

لا يسمح عنوان الكتاب/ الفتوى، في انغلاقه وعدم انفتاحه، لقارئه بإمكانات متعددة لبناء فرضيات قراءته، أو احتمال اختلاف ممكن في قصده، فهو يصدمه بالجواب قبل السؤال، حيث يعلن العنف عن نفسه من أول اتصال بالكتاب، للدلالة على أن عظم الجرم المرتكب وكبره لا يسمح بأي تأخير لبيان العقوبة المغلظة والفورية، كما لا يسمح العنوان بانتظار إنهاء قراءة الكتاب والنظر في أدلته وتعليلاته والمذاكرة فيها، لاستجماع كل عناصر الجواب والفتوى؛ فالسيف مسلول للجواب وهو “أصدق إنباء من الكتب” كما قال أبو تمام.

وعلى الرغم من أن العنوان من استراتيجيات التأليف، وهو آخر ما يصنفه الكاتب أو يراجعه ـ في أغلب الأحوال ـ بعد فراغه من تأليف كتابه، فإنه أول ما يصادف القارئ خالي الذهن في وضعية التلقي، أو المستفتي في هذه الفتوى من حيث هي جواب تام يكتفي بنفسه، ويغني عن كل مطالعة، وإليه تؤول كل الأقوال في الموضوع، وإليه ترجع النصوص المنقولة وتصير، وكأنه منبعها وأصلها، يمكن تشغيله بوصفه قاعدة لتأصيل الراجح من الأقوال، كما يمكن تشغيله بوصفه نصا للنصوص أو جامعا نصيا لها Architexte.

إن التقابل العنيف والحاد في العنوان بين جواب الفتوى والحالة المستفتى فيها، أو بين الحكم وموضوعه، تزيد من تكريس عنفِه توازياته الإيقاعية (التوازي الصوتي: الصارم/الشاتم، المسلول/ الرسول) والدلالية (القتل المادي / الإساءة اللفظية، الجزاء/ العمل) والتركيبية (الجملة الابتدائية / شبه الجملة، الرفع/ الجر، اسم المفعول/ اسم الفاعل) وكل هذه التوازيات النصية Parallélismes تصدر عن تواز تداولي اجتماعي، في مجتمعات الفروسية والبطولة تعتبر الشتم والسب عارا لا يوازيه إلا القتل، ومن ثمة ترفع سيوف القتل، لا الشتيمة المضادة أو مبادلة كلمة بكلمة، لمحو عار الشتائم، فقيمة الشتيمة والهجاء والتعرض للأعراض بالانتهاك اللفظي، لا تحتسب إلا بالدماء التي تسال في المبادلات والتعاطيات معها، والشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يراق على جنباته الدم، و”الطعن” بالسيف هو الشافي الوحيد للغيظ الكامن في الصدور من جراء “الطعن” بالقول واللسان، واللسان كالسنان، وقد يَحتمل الشريف أو النبيل الكريم القتل ولا يحتمل السخرية منه أو الاستهزاء أو السب والشتم، ولذلك عبر الكتاب/ الفتوى مجازيا عن معاني السب والشتم بألفاظ قتالية كـ “الطعن”، وجعل حدة اللسان هي “المحادة”، واعتبر تناول الأعراض بالكلام السيئ، أكلا ونهشا للحم و”ولوغا في الدماء” استحق بسببه أحد المصلوبين الذين طرحت جثتهم في المزبلة، أن ينتهي أمره بولوغ كلب في دمه، كل هذه الاعتبارات مكشوفة وواردة في استطرادات ابن تيمية في الكتاب.

كما أن استحضار العنوانِ معجمَ الحرب والقتال والجهاد المسلح المورط للغة والكلام في العنف المادي، قد تم على مستوى إشاري اجتماعي آخر، تستنفر فيه الذاكرة الجمعية للمسلمين للرد على عنف السب بالعنف المسلح، بقياس ذلك على قتال الرعيل الأول تحت القيادة العسكرية لخالد بن الوليد الملقب بـ”سيف الله المسلول”. ويمكن إجراء تحليل نفسي لاشعوري أيضا لوضعية استلال السيف المُكَني عن مكبوت العنف بدلالة الانتصاب القضيبي المتضمنة في وضعية “السل والإشهار” على الأفواه المُشَهِّرة، بدل الارتخاء في الغمد.

إن التطبيع مع العنف المادي المحرَّض عليه في العنوان يتم عبر هذه التوازيات والأقيسة، التي تجعل الجرح الرمزي باللسان جرحا أكبر من جرح السنان القابل للالتئام؛ فالأول لا يلأمه ويضمده إلا دم الآخر فهو قربانه، وبهذا الدم وحده تقع المبادلة مع الشاتم التائب المقرِّ ـ لتطهيره ـ أو مع الشاتم الجاحد المصر ـ لتطهير المقدس المدنس. في هذه الوضعية المحكومة بتمثل اجتماعي نفسي مغلظ للشتيمة أو الإساءة اللفظية والمعنوية ووقعها بوصفها تدنيسا لا يغتفر للقداسة والكرامة، يتوجب إعادة تمثيل مشهد الإراقة الرمزية لماء الوجه والكرامة بالشتم، بالإراقة الفعلية لدم المشتوم بالسيف قربانا وتقربا.

ولست أعلم مما اطلعت عليه في تاريخ تصنيف الردود على المخالفين أو كتابة الفتاوى قبل ابن تيمية، كتابا حمل عنوانا بالقسوة التي عليها عنوان كتاب “الصارم المسلول”[31]، فجل ما كُتب في الردود والجدل والفتوى قبله، يحمل عناوين: “النقض” أو “الرد” أو “التنبيه” أو “رسالة في كذا” أو “فتوى في واقعة كذا”، أو “النهي عن كذا”، وبعد هذا الكتاب مباشرة وإلى غاية يومنا هذا، انفتحت شهية التأليف في موضوع الردة والإساءة للمقدسات باستنساخ عنوان “السيف المسلول”، بكل مرادفاته وإبدالاته، ليستقر أمر هذا التأليف في عناوين كتب الرد على المخالف من الملة أو من الطائفة أو من الذمة أو من غيرها. حتى إنَّا وقفنا على كتب سلت السيف، ظاهرا مشهورا في عناوينها، على المُوالي والأخ في المذهب، إمعانا في إعمال العنف ومده وتعميمه ونقله من الأصول إلى الفروع، ومن التنزيل إلى التأويل[32]، فقد كتبت “سيوف مسلولة” في قضايا فرعية من فروع علم القراءات والتجويد والأصوات واللغة والشعر والأدب لا تحتمل بتاتا تجريد السيوف لها[33]. هذا وقد تحول اسم “السيف المسلول” من إجرائه في الخطاب بتسمية كتب ورسائل وفتاوى به، إلى إجرائه في الممارسة الاجتماعية والفعل السياسي، واستحضار مخزونه من العنف في تسمية عمليات إرهابية وإرعابية به، ومنها إطلاق منظمة مُوالية لتنظيم القاعدة بسيناء المصرية، على نفسها اسم “جماعة السيف المسلول”، وإطلاق تنظيم داعش تسمية “صليل الصوارم” على نشيده الرسمي وعلى سلسلة مذابحه ومَثُلاتِه المصورة المنقولة إلى العالم.

لقد مارس عنف عنوان كتاب ابن تيمية “الصارم المسلول”، تأثيرا كبيرا على أساليب بناء عناوين عدد من الكتب التي صنفت بعده، وتداولتها سوق الكتابة والنشر في العالم الإسلامي، أحصينا عشرات منها، وهي علامة على انحطاط النقاش والرد، وميلاد نمط جدالي وجنس خطابي كتابي خاص مُغْرٍ لنزعات العنف والتشدد للنسج على منواله والتماهي مع أسلوبه في تقرير الحقيقة والدفاع عنها بالسيف، بل التفنن في تفصيل عنف هذا السيف بين “المسلول” و”المشهور” و”البتار” و”الباتر” و”المهند” و”اليماني” و”الحديد” و”القاطع” و”الحسام” و”الصقيل” وإضافة سيوف وأسنة ورماح إليه “الصوارم والأسنة” و”القرضاب” و”السهم” و”السهام” جمعا، وتطوير السيف إلى “صواعق محرقة”، وكل هذه الأسماء المتنوعة للعنف المسلول ثابتة في عناوين كتابات تمتد من عصر ابن تيمية إلى غاية عصرنا هذا، وتكفينا الإشارة إلى التماهي مع هذه العناوين والاغتراب فيها، في عنوان صارخ لكتاب ألفه الشيخ السلفي ممدوح الحربي عام 2000م، للرد على قصائد الشاعر نزار قباني، سماه: “السيف البتار في نحر الشيطان نزار ومن وراءه من المرتدين الفجار”، فبعد سرده ما يوجب تكفير الشاعر وقتله، بسبب تطاول شعره على الله ورسله، ختم الشيخ بهذه الصرخة المبطنة: “فأين سيف الحق البتار ماله لا يخرج من غمده، ويقيم على هؤلاء المرتدين ذلك الحد الذي غاب قرونا عديدة، وسنين مديدة، فإن خشبة الصلب قد حنت لأجسادهم، والأرض في شوق لدمائهم لتشرب منها تعبُّدًا لله وتَقَرُّبا”.[34]

من لطف الأقدار أن الشاعر نزار مات على فراشه وانتقل إلى رحمة ربه وعفوه، قبل أن تمتد قنبلة إلى جسده أو يهوي سيف مسلول على رقبته، استجابة لنداء الشيخ وعملا بتحريض فتوى السيف المسلول البتار، وإنْ لم يُخطئ بارود القنبلة وصليل السيف هدفهما بعد نزار، في أجساد ورقاب أدباء ومفكرين ومواطنين أحرار.

ب- استراتيجية الجمع والتفرقة

إن تجميع نصوص منقولة متفرقة وتنضيدها وترتيبها والربط بينها في باب من كاتب أو بين دفتيه، هو من بين استراتيجيات التصرف في هذه النصوص واستعمالها وتحويلها، فهو عمل إنتاجي لهذه النصوص بامتياز، وهذا يكون دون التصرف بالاختيار بينها والتخير، أو إسقاط غيرها أو توجيه دلالتها، مما يبطل القول بأن الجامع للنصوص لم يزد شيئا عن: “قال الله” و”قال رسول الله”. فإذا كان التلفظ بملفوظ في سياق غير التلفظ به في سياق آخر، فإن تلفظ متكلم به لن يكون كتلفظ متكلم غيره، وإن إنشاءه الشفهي حال التلفظ غير إنشائه الكتابي حال النقل.

وذاك أن مجرد جمع النقول ليس عملا تقنيا محايدا ومتعاليا، فبالأحرى أن يكون تنظيمها وتبويبها كذلك. لقد انتبه القدماء قبل المعاصرين إلى ما للكتابة بالنقل ووظيفتها التدوينية للشفهي من أثر في إعادة إنتاج النصوص المنقولة بضروب من التحويل والتأويل الخفي، التي تكشف للباحث والمحقق المحرر عن انزياحات لا مناص منها في أي عمل لصناعة كتاب أو نص جديد، فقد عد أبو حامد الغزالي (ت 478هـ) في “إلجام العوام عن علم الكلام”، التفريع والجمع والتفرقة من أوجه التصرف في النصوص، حتى إنه منع العوام منها وقال: “لا يجمع بين متفرقة، ولا يفرق بين مجتمعة”، وفي معنى العوام عنده “الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم”[35] إذا لم يتجردوا من الأغراض والأهواء ودواعي الفتنة والتطرف المذهبي، قال عن الكُتَّاب الذين جمعوا أحاديث في أخبار الصفات المتشابهة، وأفردوها بكتب مستقلة وبوبوا لها بأبواب: “ولقد بَعُد عن التوفيق، مَن صنف كتابا في جمع هذه الأخبار خاصة، ورسم في كل عضو بابا، فقال: باب في إثبات الرأس، وباب في اليد، إلى غير ذلك، وسماه كتاب الصفات، فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول الله عليه السلام، في أوقات متفرقة متباعدة، اعتمادا على قرائن مختلفة، تُفهم السامعين معاني صحيحة، فإذا ذكرت مجموعةً على مثال خلق الإنسان، صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة، قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر، وإيهام التشبيه.”[36]، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على عمليات جمع أخبار وآثار متفرقة في معاملة الرسول والصحابة للآخر المختلف، منتزعة من سياقات تبديدها في الزمان والمكان والأحوال، وفي مواقف تواصلية متفاوتة، وبمنظور انتقائي يستهدف إظهار قرينة العنف فيها، وكذا انتصاب عمليات أخرى لجمع آيات وأحاديث مضادة تظهر قرينة العفو والصفح والتسامح في معاملات الدين للمخالفين.

ومن هنا تأتي صورة الغرابة أو الاستغراب أو الاستنكار، المتبادلة بين مسلمي العصر في احترابهم بنقول وآثار وأقوال متضاربة ومختلفة، لم يتم بشأنها إنجاز مشروع لإعادة البناء والقراءة، بهدف إحداث انعطافة حضارية في الوعي التاريخي الجديد للفكر الديني، بعيدا عن الصراعات الإيديولوجية القديمة التي فقدت قاعدتها ومبرراتها التاريخية.

إن عمليات الجمع والتفريق، التي هي خاصية الكتابة من حيث هي عمل تأليف وخياطة وحياكة، جعلت للمتفرق صورة أخرى مجموعة؛ فدلالة النصوص المنقولة في نظام الجمع والنظم الكتابي، ليست كدلالتها في نظام التفريق والتبديد الشفهي في الزمن، وصفة اليد الكاتبة ليست هي الصفة نفسها للسان الناطق، وأفق كتابة الكاتب الأول أو اليد الأولى ليس هو أفق كتابة الكاتب الثاني أو اليد الثانية La seconde main[37]، فوقع الاختلاف لاختلاف صورة النشأة في النظم التفريقي الشفهي الكلامي النفسي، عن صورة النشأة في النظم التجميعي الكتابي التدويني الرقمي، وعن صورة النشأة في نُظُم إعادة الكتابة.

حسْبُنا الإشارة إلى هذا المعطى؛ أما التفكيك الدقيق لاشتغال عمليات الجمع والتفرقة في الكتابة وإعادة الكتابة عند ابن تيمية في السيف المسلول، فبابه واسع عريض ويحتاج إلى وقفة لبيان طريقة معاملته للنصوص والنقول بجمع متفرقها وتفريق مجتمعها، وتغليب بعضها على بعض، وتنزيلها على مذهبه، مع تقوية نقول وأحاديث مرسلة أو موضوعة أو مضطربة واردة في كتب المغازي والسير، واستبعاد غيرها مما هو أقوى منها دلالة على ما يعارض دليله. فإذا كان اشتغاله على النقول قد قاده إلى الإفتاء بتعين القتل مطلقا، وإعمال أقصى درجات العنف في معاملة الآخر المختلف شاتم الرسول، فإن الاشتغال على هذه النقول قد قاد غيره من العلماء والفقهاء إلى استنتاج آخر مضاد وفتوى مغايرة، يقول العلامة أحمد بن محمد القسطلاني (ت 923 هـ) في كتابه “المواهب اللدنية بالمنح المحمدية”، ردا على مَن منع مطلقا إسقاط حد القتل عن شاتم الرسول، بحجة أن الحد حق للنبي لا ينبغي لمن بعده التساهل أو الترخص فيه مادام لم يرد به إذن أو تخيير، قال: “فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه صلى الله عليه وسلم، كأن يقول مثلا: من سبني فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة، ولا رجوعا عن سبه. فإن نُقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوقه تعالى مبناها على المسامحة، كذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى.”[38]، أي أن حق الرسول في هذه الحال ـ من حيث نبوته ورسالته لا من حيث بشريته ـ مغمور في حق الله، المبني على المسامحة والعفو[39]، إذ حدود الله مبنية على الدرء والعفو، اجتهادا من هذا الشيخ في إعمال قاعدة فقهية مشهورة تقول: “حقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المُشاحَّة”[40]، والمُشاحَّة هنا هي المخاصمة وعدم التنازل عن شيء من الحق باستيفائه ورده وضمانه، يقول فخر الدين الرازي في ذلك: “اعلم أن الواجبات على قسمين؛ حقوق الله تعالى، وحقوق العباد: أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة، لأنه تعالى غني عن العالمين، وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها”[41]، ومما يجب الاحتراز عنه دماء الناس المعصومة وأمنهم المرعي، وحقوقهم المضمونة، التي ثبت النهي عن المساس بها بالتساهل والترخص، حتى أنه تواترت الأخبار بتضييق نطاق العقوبات والحدود ودفعها بالشبهات والتأويلات، وطلب الاستبراء من الدماء بالتماس المخارج والتعلات، فلئن تتعطل الحدود بشبهات واردة خير من أن تقام في الشبهات[42]، وقد يثبت الحكم وتأخذه الفتوى بالنظر ليس فحسب في دليله النصي، بل بالنظر إلى شروط التنزيل وموانعه ومتغيرات الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، إذ الفتوى توطين للحكم (إظهار مقصد الحكم العام في موطن متعين خاص) وتكييف له بما يحقق مقاصد المشرع في رفع ظلم أو إقامة عدل أو تيسير أمر.

حكم التغيير على الفتوى

إن انتماء كتاب “الصارم المسلول” إلى سجلات فتاوى القرن الثامن الهجري، يفرض على واقعنا في القرن الخامس عشر للهجرة، وبناء على الاعتبارات الفقهية والتاريخية، اتخاذ مسافة إبستيمولوجية منه، تسمح بتنسيبه بعرضه على متغيرات الواقع مثلما فعل القدماء أنفسهم مع فتاواهم، ومع فتاوى من تقدمهم، وحكَّموا فيها أحكام تجدد الفهم، وتطور الحياة، واختلاف البيئات، وميزوا بينها وبين الحكم الشرعي العام[43].

فقد عقد ابن قيم الجوزية، تلميذ ابن تيمية نفسه، فصلا من كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين” لهذا الأصل في الفتوى، فقال: “فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”[44]؛ فالفتوى إذا تختلف وتتغير بحسب تغير الزمان والمكان وأحوال الناس وبيئاتهم، فإذا كان حكم النص الشرعي الذي يورده ابن تيمية ثابتا في حد ذاته وعلى عمومه، فإن الأحوال التي ينطبق عليها في العصر تختلف، وعلى هذه الأحوال تدور الفتوى واجتهاد المجتهدين، وإذا نظرنا إلى واقع العلاقات بين الشعوب والأمم والأفراد والدول في عالم اليوم، وجدناها لا تقوم على عقود الذمة أو أحكام الرق والاسترقاق أو على التمييز الديني، وإنما على الحريات وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان.

إن على الفتوى، بمقتضى وظيفتها الاجتماعية، أن تلائم الحكم مع الواقع الذي تجددت فيه للناس قضايا وأقضية، وعلى المفتي كما جرى به العمل في وظائف الإفتاء المقررة، أن يفتي بحسب الوقت لا بحسب المسطور في كتب فِرَق الزمان القديم. وعلى الذي يلجأ إلى ابن تيمية لتطبيق فتواه على عصر غير عصره، أن يعلم أن ابن تيمية لم يكن ملما بواقع المسلمين في دول العالم اليوم، ولا عارفا بما حدث بعده من تطورات في العقليات والذهنيات والقوانين والعوائد والأعراف، ولا ما تقرر من مصالح ومعاهدات وشراكات، ولا ما استجد من تحديات فكرية وسياسية وحقوقية وإعلامية وثقافية، تفرض على شعوب المسلمين خوض غمارها كسائر شعوب العالم بكثير علم وبواسع ثقافة ومعرفة، وبقوة حوار وإقناع. وهذا الأمر الاعتباري يعود إلى المفتين في العصر العالمين بأصول دينهم والعارفين بأحوال الناس ومصالحهم والملتزمين سلوك المواطنة الحق في بلدانهم وفي مواطنتهم العالمية.

يترتب عما ذكر أن جواب المفتي عن أسئلة المستفتي في عصره حسب ما تقتضيه قواعد الفتوى، يأخذ بعين الاعتبار طبيعة القضية التي يفتي فيها، فإن كانت فتواه ستزيل ضررا بجلب منفعة ومصلحة للناس، أقرها، وإن كانت ستزيل ضررا بضرر أشد منه توقف عنها وأفتى بغيرها مما يوافق المقاصد والمصالح، و”الأحكام الإلهية معللة بمصالح العباد…فتختلف مصالح الأوقات فتختلف الأحكام بسببها، وما انتسخت الأحكام والشرائع واختلفت إلا لاختلاف النِّسَب، وما اختلفت النسب إلا لاختلاف الأحوال، وما اختلفت الأحوال إلا لاختلاف الأزمان”[45].

إن عدم مراعاة الفتوى للمواضعات الاجتماعية وللأعراف المختلفة والمتغيرة بحسب الزمان والمكان، والتي هي مواطن تنزيل الحكم، من شأنه أن يفسد الحكم الشرعي ويجني على الدين ويضر بمصالح الناس المعتبرة شرعا، في ما يزعم من إقامته حكم الشرع. لذلك نهى الفقهاء، في ما أقاموه من ضوابط على الفتوى الدينية في نظرها إلى معادلتي الحكم النصي والواقع التاريخي، والمصلحة المجلوبة والمفسدة المدفوعة[46]، عن الإفتاء بفتوى تزيل ضررا بضرر أشد منه، أو تحدث منكرا أعظم من الذي ترفعه، أو ترتب حرجا وعسرا على المستفتي في ما يجد فيه فسحة ويسرا في دينه.

نصادف مرة أخرى ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية في هذا الباب منبها من يوَقِّعون “نيابة عن رب العالمين” من المفتين المسلمين إلى أنه “إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله… ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر”[47].

يصل الأمر بابن قيم الجوزية، إلى الحكم بأن تغيير منكر مأمور بتغييره، بما هو أنكر منه، من الأفعال “المحرمة”[48]، ويورد في ذلك أمثلة منها “فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع”[49].

على هذا الأصل في اعتبار المآل في صناعة الفتوى؛ أي أثرها وتأثيرها وما تحدثه في الواقع والمستقبل من ضرر أو نفع، لا اعتبار الحال فحسب؛ أي واقعة المنكَر في حد ذاته وحكمه العام، يتخرج حكم وقائع ما اعتبر إساءة للرسول في العصر، فمن تأمل في ما أحدثه تطبيق فتوى قتل المسيء إلى الرسول بالصارم المسلول في عصرنا وواقعنا التاريخي، من فتنة عالمية واسعة، ومن نقض لعرى السلام والأمن والتعايش والحوار بين الشعوب والثقافات والأديان، ومن تضييق على حريات وأرزاق عدد من المهاجرين المسلمين في بلدان الهجرة، ومن إساءة لصورة الإسلام ونبيه، يدرك أن الإفتاء بالقتل وكذا تولي تطبيقه في هذا العصر، عملان محرمان شرعا، بالمنطق الفقهي الذي صدرت عنه أطروحة ابن تيمية نفسه وتلميذه ابن قيم الجوزية، وبما تقدم من وظائف الفتوى وشروط تغيير المنكر التي لا تتوفر لدى من أباح لنفسه الإفتاء بالنقل عن فتاوى عصر “الصارم المسلول”، واستباح دماء الآمنين واسترخصها، فرهن الاستحقاقات التحررية الحقوقية والديمقراطية والتنموية لمسلمي القرن الواحد والعشرين بتاريخ الحروب الدينية والطائفية للعصور الوسطى.

ابن تيمية نفسه الذي شدد في فتوى “الصارم المسلول” على وجوب قتل ساب الرسول وشاتمه، من غير اعتبار لأي ظرف للإسقاط والتخفيف، أو ضرورة أو مصلحة أو شبهة تدرأ هذا السيف أو تعطل تغيير المنكر إذا جلب مفسدة أكبر، قد رخص لنفسه في وقائع كثيرة، أن يُعْمِل عين العقل ويتراجع عن تغيير المنكر لمصلحة راجحة، وأن يعطل الحكم بالمبادرة إلى النهي عن معاص ويوقفه، لدرء مفسدة أعظم في زمانه، فقد ذكر ابن قيم الجوزية ما يأتي: “سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه، يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم”[50]، وذكر بنفسه أن ما أفتى به في هذه النازلة ليس “إباحة للخمر والسُّكر، ولكنه دفع لشَرِّ الشَّرَّيْنِ بأدْناهُما… ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم… فصَحْوُهم شر مِن سُكرِهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو، بل قد يستحب، أو يجب، دفع شر هؤلاء بما يمكن من سُكْر وغيره”[51]، ولسنا ندري ما نسمي فتواه بوجوب دفع شر الخصوم بمزيد توريطهم في شرب الخمر حتى لا يكون صحوهم سبيلا إلى الفتك بالناس، أدين هي أم سياسة، أو هي بلغة العصر براغماتية سياسية وديبلوماسية موازية، وخدعة من خدع الحرب والكر والفر، وخطوة إلى الوراء مقابل خطوتين إلى الأمام؟

إذا كانت هذه فتوى ابن تيمية بالنهي عن إزعاج التتار أو استفزاز جلساتهم الخمرية، وهم فوق أرض الإسلام وفي حارات المسلمين وأحيائهم، فماذا كانت ستكون عليه فتواه في من يُرعب ويُرهب غير المسلمين الآمنين في ديارهم وفي بلدانهم، يتمتعون بسيادتهم وبحرياتهم في التعبير التي تكفلها لهم قوانينهم، أيجرد عليهم المسلمون فتوى السيف المسلول غيرة للرسول وللإسلام؟

لعل المقتنعين بفتوى ابن تيمية في سكر التتار لو طردوها في عصرنا لما وسعهم إلا تقرير قاعدته البراغماتية في تقدير المضار وتدبير المخاطر، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وأهْوَنِ الشَّرَّيْن، وإعمال العقل والحكمة بدل تجريد “السيف المسلول” ووضعه في غير موضعه، وتحكيم الحمية الدينية أو العصبية القومية أو الغيرة القاتلة في غير محلها؛ إذ المناخ الفكري والسياسي العام في العالم اليوم وكذا أحوال المسلمين هما محل اعتبار الموازنة الدقيقة أيضا للمصالح، وموضع تريث وتبصر لا ينبغي الانجرار فيه إلى الاستفزازات العابرة والهامشية، ولا يليق أن تطيش فيه السهام والسيوف المسلولة والعمياء التي تصيب المسلمين في مقتل، لمَّا كان لهم في دينهم فسحة التعبير المضاد والمواجهة العلمية والفكرية والأدبية والفنية، والجدل والمعاملة بالتي هي أحسن، والإعراض عن اللغو والجهل، غير إصابة الدماء بإعمال فتوى السيف المسلول في كل نازلة وبائقة.

وإذا كان قتل ساب الرسول وشاتمه قتلا بالحد الشرعي الذي يقرره ابن تيمية بلا هوادة أو تخيير، فإن إسقاط الحدود لمصلحة راجحة أمر ثابت[52]، خصوصا إذا دُفِعَت بهذا الإسقاط مفسدة أعظم وأكبر. ثم إن جماعات العنف الديني والتكفيري التي لا زالت تعتبر دول أوروبا وبلدان غير المسلمين أرض كفر ودار حرب، وتفتي بإقامة حدود القتل هناك، تتناسى مرجعياتها عن الأحكام الفقهية لما سُمي دار الحرب، ومنها أحكام الحدود: “فقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو”[53]. فبأي شرع أو حد مقرر يُقتل المخالفون الآمنون في ديارهم وأوطانهم وفي ظل قوانينهم وأنظمتهم السياسية، والذين لم يرفعوا سلاحا ضد المسلمين؟ هذا إن لم تكن بين دولهم وبين دول المسلمين معاهدات ومصالح متبادلة، فكيف إذا تقررت هذه المعاهدات والمصالح المعتبرة.

خلاصة ما سقناه أنه إذا كانت اجتهادات وفتاوى الفقهاء القدماء، قد أدتهم إلى مواءمة نصوص الوحي مع واقعهم المتغير، فترخصوا في تكييف الأحكام الشرعية مع الجهات الأربع التي تتحكم في الفتوى، وهي: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ونظروا في طبيعة تدخل المتشرعة في الحياة العامة للمسلمين ولغيرهم، تبعا للأوضاع الاجتماعية القائمة والأعراف المتداولة، والعلاقات الدولية السائدة، فقيدوا وأطلقوا، وعمموا وخصصوا، ورجحوا وغلَّبوا، ومنعوا وأباحوا بناء على رعاية المصلحة ودفع المفسدة وتقدير الأضرار والخسائر، والموازنة العقلية بين الأولويات، فإنه يستغرب أن لا يكون لمتصدري الفتوى في عصرنا هذا من علم وجرأة وإقدام على اقتحام ما اقتحمه قدماؤهم من سبل تيسير الحياة ورفع الحرج في الدين وإجراء الحكمة في المعاملات والسلوكيات والخطابات حتى تتناسب مع أصول الرحمة والتعايش في مقاصد دينهم، وتتلاءم مع مقتضيات الحقيقة الكونية التي تفرض نفسها على العالم، وهي حقيقة التقدم والتطور وتحسين الحقوق والحريات والأمن وظروف العيش الكريم للبشرية جمعاء.

لا نرى فتاوى القتل والسيف المسلول في كل الاتجاهات، إلا إساءة للرسول تفوق في خطورتها ونتائجها الضارة إساءات الأغيار، وتخلفا بالمسلمين عن ركب هذا التقدم والتعاون الحضاري، وجناية كبرى في تاريخهم المعاصر. وقديما نصح أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي، المفتي في عصره بعدم الجمود على المنقولات من كتب القدماء، وبضرورة الإلمام بمتغيرات الواقع، فقال: “فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأَجْرِهِ عليه، وأفته به، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”[54].

هذا مع العلم أن المسطور في الكتب الفقهية القديمة ليس كله جامدا ومتجاوزا وعلى نمط واحد، ففيه من التنوع والتلون والانفتاح والقابلية للاستئناف والتطوير ما هو أحسن بكثير، وأنسب وأصلح وأرفع للحرج عن مسلمي العصر، مِن الترجيعات الجامدة المتشددة والشاردة في كتب وفتاوى مُحْدَثي الأزمنة الجديدة، ولو استعرضنا من سيرة الرسول نفسه صور عفوه وحلمه وتسامحه مع من آذاه، وعدم انتقامه لنفسه قط من أحد أساء إليه أو سبه، بل صور درئه حدود الشريعة وعقوباتها عن كثير من العصاة والتماسه المخارج للمذنبين، لفاقت في عددها وقوة شاهدها وحجيتها، صور الانتقام والقتل في الآثار التي جمعها ابن تيمية في “الصارم المسلول” واجتهد في ترجيح حجيتها، ومحو آيات حق العفو ونسخها بآية حد السيف والعنف.

كان بإمكان من يمتهنون الإنسان والإنسانية، باسم النبي، ويسفكون دماء مقدسة معصومة، أن تَعِظَهم نصوص العفو والصبر على الأذى ودفع السيئة بالحسنة، لولا أنهم أصحاب سياسة لا أصحاب دين، ودعاة انتقام بشري لا غيرة روحية على صورة النبي، فإن النبي المتذرع به نَقلت الآثار عنه أنه عفا في دماء هي حق له، كدم عمه حمزة بن عبد المطلب الذي نكل به أعداؤه ومثلوا بجسده شر تمثيل، وعند هزيمتهم والقدرة على الانتقام منهم، قابلهم الرسول بالعفو والصفح الجميل فكانوا طلقاءه، وكف بذلك سيوفا مسلولة متعطشة لرد الإساءة، أغنت عنها بصيرة تنظر إلى المستقبل وإلى قيمة الحياة وصورة الدين ورمزيته بين الناس في إقامة العدل وتأمين الاستقرار وتكريم الإنسان ورعاية حرياته وحقوقه.

هذه نماذج من صور نصرة الدين والرسول المطلوبة من المسلمين في هذا العصر للإقناع بمشروع وجودهم في العالم ومع الآخرين، إسهاما منهم في إعمار الأرض وخدمة الناس ورفع الأغلال عن الأعناق، لا إهلاك الحرث والنسل واستعباد الخلق، وتكريس أسس السلام العالمي لا مواصلة التحريض على الكراهية ومديح ثقافة الذبح وعبادة السيف والأشخاص، وحماية مكتسبات الحضارة البشرية لا تخريبها وتسفيهها، والاندماج في المجتمع الإنساني الجديد لا العودة إلى مجتمعات الغاب، ولن يتأتى لهم ذلك إلا بتحرير تراثهم الروحي من قيوده التاريخية وإعادة ربطه بجوهره القائم على العلم والعدل وعلى قيم تحرير الإنسان من كل نزعات الاستعلاء والهيمنة والإرهاب والطغيان وإرعابات الهويات المنغلقة والقاتلة: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”[55].

خاتمة

لم يكن غرض هذه الدراسة إدانة كتاب “الصارم المسلول” في حد ذاته، أو مجادلة صاحبه في أطروحة القتل المتحتم التي تبناها، أو مناقشة أدلته الشرعية في فتواه والرد عليه بأدلة وتعليلات مضادة، إذ نعلم أن الكتاب ومؤلفه هما نتاج عصر تفصلنا عنه سبعة قرون، ولعل ما أفتى به في وقته في نوازل الإساءة للإسلام والمسلمين، لا يخرج عن أصول المعاملات بين الأديان والشعوب والأمم في عصره، ولا عن مناخ الحروب الدينية والمذهبية بين الملل والنحل والمذاهب القديمة.

وربما تعدينا إلى القول إن ما تضمنته فتوى السيف المسلول من تقنين للعلاقات بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم من أهل الذمة والمحاربين، متقدم وأكثر انفتاحا بالقياس إلى ما عند غير المسلمين آنذاك من إبادات شاملة للأقليات الدينية بلا رحمة، والإعمال العشوائي للسيوف والمقاصل في رقاب مخالفي أديانهم وآرائهم، وفي معاملة خصومهم وأعدائهم، والتفتيش في الضمائر ومطاردة المفكرين الأحرار.

وإنما كان الغرض بيان أن الاستناد إلى فتوى “الصارم المسلول” وما قضى به ابن تيمية لعصره وفق ما يتلاءم مع شرطه التاريخي، ليس سبيلا قويما ولا نهجا سديدا لإجابة المستفتين في نوازل عصرنا وبناء على متغيرات الواقع والتاريخ، إذ المعلوم أن الفتوى لا تدور على ثوابت النصوص فحسب، وإنما تدور مع متغيرات الزمان والمكان وأحوال الإنسان.

على هذا الأصل يتخرج تحليلنا لصنيع ابن تيمية بالنصوص المنقولة في كتابه، واهتمامنا بالعمليات التحويلية التي أجراها عليها، أكثر من عنايتنا بهذه النصوص في حد ذاتها، فهي مختلفة وحمالة أوجه ومفتوحة على الفهم والتأويل، وقد يتردد الحكم الديني فيها بين اختيارات ثلاثة أو أكثر، فتنزيل الحكم وإسقاطه على أحد هذه الاختيارات تصرف إنساني وتحكم بشري ومسألة ظنية، وليس حكم القتل فيها ـ مثلا ـ بِراجح مطلقا على حكم العفو، وإنما الذي رَجَّح وغلَّب هو فتوى المجتهد وصناعته، وهي مصدر العنف المحول الممارس من جهة على النص، وعلى المستفتي طالب الفتوى من جهة ثانية، والممارس من جهة ثالثة على المستفتى فيه المطلوب للقتل لا الحوار والإقناع، لاعتبارات شخصية أو سياسية أو اجتماعية في الغالب، وليس لاعتبارات دينية خالصة لوجه الله، إذ تكون الاستدلالات بالنصوص المنقولة في وضع مريض وغير سوي، متسم بالتوتر والاضطراب والالتباس والاشتباه، مجرد ذرائع لتسويغ الأهواء وتبرير السلوكيات المنحرفة، فيكون سد الذرائع في هذه الحال من أهم المسؤوليات التي يتعين على أهل العلم والفكر القيام بها.

 

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة

1ـ بالعربية:

ـ ابن تيمية (أبو العباس أحمد بن عبد الحليم)، الاستقامة، تحقيق محمد رشاد سالم، مكتبة السنة، القاهرة، 1409 هـ، ج 2

ـ ابن تيمية (أبو العباس أحمد بن عبد الحليم)، السيف المسلول على شاتم الرسول، دراسة وتحقيق محمد بن عبد الله بن عمر الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري، رمادي للنشر، الدمام 1997

ـ ابن قيم الجوزية (شمس الدين)، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام، العربية سعودية، 1423هـ، المجلد 4

ـ ابن كثير (إسماعيل بن عمر)، البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، 1977، ج 17

ـ البعلي (محمد بن علي)، مختصر الصارم المسلول، تحقيق علي بن محمد العمران، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، ودار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1422هـ.

ـ الحربي (ممدوح)، السيف البتار في نحر الشيطان نزار ومن وراءه من المرتدين الفجار، دار المآثر للنشر والتوزيع والطباعة، المدينة المنورة، ط 2، 2000

ـ الذهبي (شمس الدين)، زغل العلم،، تحقيق محمد بن ناصر العجمي، مكتبة الصحوة الإسلامية، 1404هـ.

ـ الرازي (فخر الدين)، مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 3، 1420 هـ، ج1

ـ السبكي (تقي الدين)، السيف المسلول على من سب الرسول، تحقيق إياد أحمد الغوج، دار الفتح،عمان، الأردن، 2000

ـ السبكي (تقي الدين)، السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل، حاشية محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 2003

ـ الصاوي(صلاح)، تقريب الصارم المسلول على شاتم الرسول، دار الإعلام الدولي، القاهرة، 1995

ـ الصفدي (صلاح الدين)، الغيث المنسجم في شرح لامية العجم، المطبعة الأزهرية المصرية، 1305هـ، ج2

ـ العسقلاني (ابن حجر)، الدرر الكامنة في معرفة أعيان المائة الثامنة، تصحيح الدكتور سالم الكرنكوي الألماني والسيد هاشم الندوي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد الدكن، الهند، 1350 هـ، ج 1

ـ الغزالي (أبو حامد)، إلجام العوام عن علم الكلام، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1986، ج 4

ـ الغماري (عبد الله بن محمد بن الصديق)، السيف البتار لمن سب النبي المختار، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع للشمال، طنجة، 1989

ـ القرافي (أحمد بن إدريس الصنهاجي)، الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق، ضبطه وصححه خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1998، ج1

ـ القسطلاني (أحمد بن محمد)، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، تحقيق صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، 2004، ج 2

ـ الكبيسي (محمد حامد)، الضوابط الأصولية لتغير الأحكام الشرعية، دار الإرشاد للنشر، سوريا، 2006

ـ الهيثمي (ابن حجر)، حاشية على شرح الإيضاح في مسالك الحج للإمام النووي، دار الحديث، بيروت، لبنان. ب ت.

ـ أمعارش (محمد)، السيمياء التحليلية عند جوليا كريستيفا، المحور الثقافي، العدد1، أبريل 1986

ـ أمعارش (محمد)، منطق الدال عند جاك لاكان، المحور الثقافي، العدد5، أبريل 1988

ـ شمس (محمد عزيز) والعمران (علي بن محمد)، الجامع في سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، ودار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، 1422 هـ

2ـ بالفرنسية:

ـ Compagnon, Antoine, La seconde main, ou le travail de la citation seuils, Paris,19

ـ Gadamer, Hans-Georg,Vérité et Méthode, tr Etienne sacre, Seuil, Paris, 1976.

ـ Meddeb, Abdelwahab, La maladie de l’islam, seuil, Points, Paris, 2002.

 

[1]ـ حاشية ابن حجر الهيثمي على شرح الإيضاح في مسالك الحج للإمام النووي، دار الحديث، بيروت، لبنان، ب ت، ص 489. وقد أثبت فقهاء وقضاة عصر ابن تيمية عليه مخالفات في مسائل عقدية مشهورة، تستوجب حسبهم تكفيره وقتله وإعمال السيف المسلول في رقبته، ومنها قوله بحوادث لا أول لها (قدم العالم وأزليته)، وفناء النار (عدم سرمدية العذاب)، وتحريمه الاستغاثة بالنبي، ونهيه عن زيارة قبره وعد ذلك بدعة ومعصية، وقد اعتقل مرات عديدة وجلد واستتيب من أقواله، وتحفظ كتب التاريخ نص استتابته وعليها خطوط وتوقيعات كبار قضاة عصره من المذاهب الأربعة. ينظر في ذلك ترجمة سيرة ابن تيمية في كتاب “الدرر الكامنة في معرفة أعيان المائة الثامنة” للحافظ ابن حجر العسقلاني، تصحيح الدكتور سالم الكرنكوي الألماني والسيد هاشم الندوي، دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد الدكن، الهند، 1350 هـ، ج 1، من ص 144 إلى ص 160، والنص الكامل للاستتابة نقله ابن المعلم القرشي معاصر ابن تيمية، في كتابه المخطوط “نجم المهتدي ورجم المعتدي”، وهو مثبت في حاشية محمد زاهد الكوثري على “السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل”، لتقي الدين السبكي، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 2003، ص 74

[2]ـ زغل العلم، الحافظ شمس الدين الذهبي، تحقيق محمد بن ناصر العجمي، مكتبة الصحوة الإسلامية، 1404هـ، ص 42

[3]ـ م. ن، ص 38

[4]ـ حسبنا أن نذكر من التكفيرات والتكفيرات المضادة في العصر، تكفير الشيخ محمد الغزالي للمفكر المغتال فرج فودة على آرائه واجتهاداته، وارتداد هذ التكفير على الغزالي نفسه بتكفير مشايخ السلفية الرسومية له على أحكامه القدحية في بعض الصحابة، وكذا اجتهاداته الخاصة في كتابه: “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”، وتكفير السلفية الجهادية لمشايخ السلفية الرسومية، وتكفير عبد السلام ياسين لحسن حنفي وتكفير عبد الرحمن المغراوي لعبد السلام ياسين وتبديعه، وقد وقع عبد الصبور شاهين في فخ التكفير الذي نصبه لنصر حامد أبوزيد بسبب آرائه وكتاباته، حيث كفر مشايخ التشدد والتطرف عبد الصبور هذا على آرائه واجتهاداته هو نفسه في كتابه: “أبي آدم: قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة”، لمَّا تأول قصة آدم في القرآن الكريم، بما اعتُبر إنكارا لهذه القصة وتشكيكا فيها وخروجا عن إجماع المسلمين وشذوذا في التفسير وكفرا بالتنزيل، ورفعت ضده بسبب هذا التأويل قضايا شهيرة في محاكم مصر.

[5]ـ السيف المسلول على شاتم الرسول، أبو العباس أحمد ابن تيمية، دراسة وتحقيق محمد بن عبد الله بن عمر الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري، رمادي للنشر، الدمام 1997، المجلد الثاني، ص 901

[6]– م. ن، ص 13

[7]ـ م.ن، ص 31

[8]ـ م.ن، ص 34

[9]ـ م.ن، ص 53

[10]– م.ن، ص 53

[11]ـ م.ن، ص 38

[12]ـ م.ن، ص 1005

[13]ـ م.ن، ص 55

[14]ـ م.ن، ص 55

[15]ـ تقريب الصارم المسلول على شاتم الرسول، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، القاهرة، 1995، ص 12

[16]ـ La maladie de l’islam, Abdelwahab Meddeb, seuil,Points,Paris,2002, p12: «Si le fanatisme fut la maladie du catholicisme, si le nazisme fut la maladie de l’Allemagne, il est sûr que l’intégrisme est la maladie de l’islam»

[17]ـ من أجود تحقيقات وطباعات “الصارم المسلول”، طبعة دار رمادي للنشر، الدمام، 1997، في مجلدين، تحقيق محمد بن عبد الله بن عمر الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري. ومن أشهر تلخيصاته القديمة: “مختصر الصارم المسلول…” لمحمد بن علي البعلي الحنبلي (ت 778هـ)، وله طبعات وتحقيقات كثيرة، نخص منها تحقيق علي بن محمد العمران، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، ودار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1422هـ. وممن اختصر في العصر كتاب “الصارم المسلول”، د. صلاح الصاوي في كتابه “تقريب الصارم المسلول…”، دار الإعلام الدولي، القاهرة، 1995

[18]ـ حسبنا أن نذكر أمثلة من هذه الكتب، وننتقي منها من يحمل العنوان والموضوع نفسهما لكتاب ابن تيمية، مثل: كتاب “السيف المسلول على من سب الرسول” لتقي الدين السبكي، تحقيق إياد أحمد الغوج، دار الفتح،عمان، الأردن، 2000. و”السيف البتار لمن سب النبي المختار”، لعبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع للشمال، طنجة، 1989

[19]ـ تعليق محققي كتاب “السيف المسلول على شاتم الرسول”، أبو العباس أحمد ابن تيمية، دراسة وتحقيق محمد بن عبد الله بن عمر الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري، رمادي للنشر، الدمام 1997، المجلد الثاني، ص 1117

[20]ـ م. ن، ص 1118

[21]ـ م، ن، ص 9

[22]ـ البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، 1977، ج 17، ص 666

[23]ـ تنظر مقالات خصوم ابن تيمية فيه، وكذا انتقاده من قبل عدد من معاصريه المعترفين بسعة علمه، في كتاب “الجامع في سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون”، محمد عزيز شمس، وعلي بن محمد العمران، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، ودار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، 1422 هـ، وفي كتاب “التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني” جمعه ناصح مشفوق، ب ت.

[24]ـ الجامع في سيرة شيخ الإسلام…، م. م، ص 349

[25]ـ م.ن، ص 200

[26]ـ م.ن، ص 187

[27]ـ م.ن، ص 461

[28]ـ الغيث المنسجم في شرح لامية العجم، صلاح الدين خليل بن آيبك الصفدي (ت 764هـ)، المطبعة الأزهرية المصرية، 1305هـ، ج2، ص 254. فهذا ابن تيمية في عيون عدد من طلابه ومعاصريه من العلماء والفقهاء وممن حضر مجالسه ودروسه، مع اعتبارهم له بحرا في علوم عصره، يأخذون من كلامه وسلوكه ويتركون، ويحققون ويحررون ويغربلون. الأمر الذي لا يتأتى لشبان وشيوخ حركات العنف الديني في عصرنا، إذ يضيفون إلى جهلهم بعلوم ابن تيمية في اللغة والكلام والمنطق والفلسفة والجدل والمناظرة في عصره، وبتطورات العلوم الإنسانية في عصرهم، تقليده في مواقفه الغاضبة ومزاجه النفسي الحاد واختياراته المتشددة التي أزرت بعلمه، وترديد أحكامه المبنية على نتائج منهجه في النظر والاجتهاد، فلا العلم القديم الواسع حصَّلوا، ولا علوم العصر أصلوا، ولا طريق الحكمة والنقد البناء سلكوا.

[29]ـ ينظر في بحث “المشهد الآخر” L’autre scene، وتحليل “ذات التلفظ” Le sujet de l’énonciation، مقالنا “منطق الدال عند جاك لاكان” المحور الثقافي، العدد5، أبريل 1988، ومقالنا “السيمياء التحليلية عند جوليا كريستيفا”، المحور الثقافي، العدد1، أبريل 1986

[30]ـ الصارم المسلول، م.م، ص 8

[31]ـ ذكرت بعض المصادر أن القاضي عياض (ت 544) صنف بهذا العنوان كتاب “السيف المسلول على من سب أصحاب الرسول”، وهو كتاب غير معروف أو مفقود، وقد نقل ابن تيمية في “الصارم المسلول” عن كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضي عياض، وليس عنده ما يدل على اطلاعه على هذا الكتاب، أو معرفته به، مع سعة علمه بالكتب وطلبه لها.

[32]ـ تمثلوا في ذلك قول الراجز:     نحن قتلناكم على تنزيلـــــه           فاليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله           ويذهل الخليل عن خليلـــه

فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، ج 7، ص 501

[33]ـ من مجموعات كتب السيف المسلول، في الرد على خلافات فقهية في الفروع، وفي الرد على خلافات جانبية في علم الأصوات والأداء الصوتي لبعض الحروف ومخارجها، كتاب: “السيف الصقيل في عنق من يرد المطلقة ثلاثا لزوجها من غير تحليل”، لأحمد بن إبراهيم الصاوي، وكتاب: “السيف اليماني لمن أفتى بحل سماع الآلات والمغاني”، لمصطفى البرلس البولاقي، وكتاب: “السيف المسلول على من ينكر المنقول في أداء الضاد”، لشيخ القراء في عصره أبي بكر محمد البروسي.

[34]ـ السيف البتار في نحر الشيطان نزار ومن وراءه من المرتدين الفجار. الشيخ ممدوح الحربي، دار المآثر للنشر والتوزيع والطباعة، المدينة المنورة، ط 2، 2000، ص 52

[35]ـ إلجام العوام عن علم الكلام، أبو حامد الغزالي، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1986، ج 4، ص 72

[36]– م، ن، ص 81

[37] ـLa seconde main, ou le travail de la citation, Antoine Compagnon, seuils, Paris, 1979.

[38]ـ المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، أحمد بن محمد القسطلاني، تحقيق صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، 2004، ج 2، ص 688

[39]ـ أورد ابن تيمية نفسه هذا القول في القاعدة الآتية: “حق البشرية انغمر في حق الرسالة، وحق الآدمي انغمر في حق الله”، غير أنه رده ودفعه. الصارم المسلول، م.م، ص 933

[40]ـ المواهب اللدنية، م.م، ص 688

[41]ـ مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، فخر الدين الرازي (ت 606 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 3، 1420 هـ، ج 1، ص 204

[42]ـ ليس هنا موضع تفصيل هذا الأصل الأصيل، ونكتفي بالإشارة إلى نقول عديدة واردة في مدونات الحديث، ومنها مصنف ابن أبي شيبة في كتاب الحدود، تهرب الشارع فيها من إقامة الحدود القاسية على معترفين بارتكاب موجباتها، كقول النبي بعد رجمهم رجلا يدعى “ماعز”، “هلا تركتموه”، وقول عائشة: “ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم، فإذا وجدتم للمسلم مخرجا، فخلوا سبيله، فإن الإمام إذا أخطأ في العفو خير من يخطئ في العقوبة”، وقول عمر بن الخطاب: “لئن أعطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها في الشبهات” وغيرها.

[43]ـ نقتصر على الإشارة إلى أنه كانت للإمام الشافعي فتاوى افتى بها في العراق، فلما ارتحل إلى مصر تشكلت لديه معطيات جديدة، فأفتى بفتاوى غير فتاواه في العراق، ومن ثمة اشتهر عند الشافعية القول بمذهب قديم لإمامهم في العراق، ومذهب جديد له في مصر.

[44]ـ إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام، العربية السعودية، 1423هـ، المجلد 4، ص 337

[45]ـ المواقف الروحية والفيوضات السبوحية، الأمير عبد القادر الجزائري، عناية الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2004، المجلد 2، ص 74

[46]ـ للتوسع في بحث مستندات تغير الأحكام الشرعية ومشروعيته، يراجع كتاب: الضوابط الأصولية لتغير الأحكام الشرعية، د. محمد حامد الكبيسي، دار الإرشاد للنشر، سوريا، 2006

[47]ـ إعلام الموقعين عن رب العالمين، م. م، المجلد 4، ص ص 338ـ 339

[48]ـ م. ن، ص 339

[49]ـ م. ن، ص 340

[50]ـ م. ن، ص 340

[51]ـ الاستقامة، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مكتبة السنة، القاهرة، 1409 هـ، ج 2، ص ص 165/166

[52]ـ إعلام الموقعين، م.م، ص ص 345- 347

[53]ـ م.ن، ص 341

[54]ـ الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق، أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي، ضبطه وصححه خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1998، ج1، ص 332

[55]ـ سورة المائدة، الآية 32، قال مجاهد: “من لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه”، وفي الحديث الصحيح: “لا يزال المسلم في فسحة من دينه، ما لم يُصِبْ دما حراما”.

زر الذهاب إلى الأعلى