الطريق إلى السابع من أكتوبر: كيف شكلت إيران وأدارت “محور المقاومة” الفلسطيني ـ 2 ـ

الجزء الأول: استخدام إيران للانشقاقات في العراق
لقد كان استغلال وتجنيد المنشقين من مجموعات أكبر وأكثر هيمنة، وغالباً من مجموعات معارضة لإيران، استراتيجية إيرانية ثابتة، عندما يتعلق الأمر بإنشاء قوى بالوكالة. لقد نجحت هذه الاستراتيجية بشكل خاص مع الميليشيات الشيعية العراقية. ثم تكرر النهج النمطي الإيراني مع الفصائل الفلسطينية.
إن دراسة محاولات إيران تقسيم الجماعات الأكثر هيمنة و/ أو معارضة في العراق مفيدة في ضوء ما حاولت القيام به في السياق الفلسطيني، وخاصة مع حركة فتح. فخلال حرب العراق (2003-2011)، عندما كان رجل الدين الشيعي المتطرف مقتدى الصدر يقود جيش المهدي، بدأت الانقسامات داخل المجموعة في التطور بسبب أسلوبه في القيادة واستراتيجيته. كانت علاقة الصدر بإيران متذبذبة، فكان في بعض الأحيان يتحالف معها، وفي أحيان أخرى يعارض طهران. في عام 2006، انفصلت مجموعة تُعرف باسم عصائب أهل الحق عن الصدر وسرعان ما تلقت مساعدات إيرانية. وكان زعيم عصائب أهل الحق آنذاك والحالي، قيس الخزعلي، مساعداً مقرباً للصدر، ولكنه سئم أسلوبه في القيادة وبدأ يعمل على بناء شبكته الخاصة. وفي سبيل ذلك، استفاد من اتصالاته مع فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومع العديد من رجال الدين البارزين الذين التقاهم خلال زياراته السابقة إلى إيران مع الصدر. وقد استغلت إيران ذلك، حيث عرضت عليه المال والتدريب والأسلحة. ومنذ ذلك الحين، نمت عصائب أهل الحق لتصبح لاعباً رئيساً في السياسة العراقية وداخل الحكومة العراقية التي تمولها وتعترف بها ميليشيا الحشد الشعبي، كما قامت إيران بتشكيل شبكات بالوكالة أخرى من داخل صفوف الصدر. فعندما عارض الصدر إرسال مقاتلين شيعة إضافيين إلى الحرب السورية، اختلف بعض قادته ومجموعاتهم مع قراره. واستغلت طهران هذا الخلاف من خلال تسهيل نقل مقاتلي هذه المجموعات إلى سوريا وتزويدهم بالخبرة اللازمة لبناء هياكل منفصلة. وفي الفترة من 2013 إلى 2016، عزز الإيرانيون قدرات مجموعات مثل كتائب الإمام علي بقيادة شبل الزيدي، وهو قائد سابق لجيش المهدي. كما كان جيش المؤمل أو “المقاومة الإسلامية في العراق والشام” بقيادة سعد سوار الجبوري من بين المجموعات المنشقة عن التيار الصدري. وقد وفرت كل هذه الجهود لإيران نفوذاً متزايداً في العراق وقوات أكبر يمكن الاستعانة بها لخدمة المصالح الإيرانية في المنطقة. علاوة على ذلك، فإن الضغوط والتهديدات التي مارستها إيران على الصدر أجبرته في كثير من الأحيان على اتخاذ مواقف أكثر تصالحية تجاه طهران بسبب القلق من ظهور انشقاقات بين صفوفه.
وفي عام 2012، عندما ظهرت قضية الانشقاق الداخلي في الميليشيا الشيعية العراقية كتائب حزب الله، ساعدت إيران المجموعة المنشقة، كتائب سيد الشهداء، على التشكل في العام التالي. وقد ظهرت قضية مماثلة تتعلق بالسيطرة والنفوذ داخل حركة عصائب أهل الحق، عندما انشق عنها أحد قادتها السابقين، أكرم الكعبي، وساعدته إيران على تأسيس حركة حزب الله النجباء.
ولم يؤدّ تشكيل هذه الهياكل الجديدة من داخل المنظمات القائمة إلى ظهور مجموعات أكثر ولاءً لطهران فحسب، بل خلق أيضاً نقاط ضغط على المنظمات الأصلية. وكان هذا هو الحال بشكل خاص فيما يتعلق بعلاقة حركة حزب الله النجباء مع عصائب أهل الحق. ففي الفترة من عام 2020 إلى عام 2021، عندما ورد أن عصائب أهل الحق تستخدم مجموعات واجهة لإطلاق هجمات بالصواريخ والطائرات بدون طيار ضد أهداف أمريكية، تم الدفع بحركة حزب الله النجباء المنشقة عنها لتزعم قيادة جميع مجموعات الواجهة هذه، والتي كانت تستهدف أيضاً الخصوم المحليين في العراق. وقد كان الهدف من هذه الخطوة محاولة استعادة السيطرة وكذلك الادعاء بأن الميليشيات الشيعية موحدة.
الجزء الثاني: كيف استخدمت إيران سياسة العصا والجزرة لاستعادة نفوذها على حماس والجهاد الإسلامي
تشكل حماس والجهاد الإسلامي أكبر وأهم الوكلاء الفلسطينيين لإيران. كانت الجماعتان رائدتين في استخدام التفجيرات الانتحارية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كما استولت حماس على غزة في عام 2007. وقد بنت كلتا الجماعتين نفسيهما لتصبحا فاعلين عسكريين أقوياء على مدى عقود من الزمان. وبفضل روابطها الأيديولوجية الوثيقة وعلاقتها الطويلة مع إيران، كانت حركة الجهاد الإسلامي الوكيل الرئيس لإيران في الكثير من أنشطتها بين الفلسطينيين. ومع ذلك، كان من الصعب على إيران تجاهل حماس بوصفها المجموعة الأقوى بكثير، وقد عملت بنشاط على دعم الحركة. على سبيل المثال، استضاف حزب الله اللبناني زعيم حماس خالد مشعل في يناير / كانون الثاني 2010 والتقى بحسن نصر الله. وفي نفس الشهر، ورد أن إسرائيل قتلت أحد قادة حماس المتورطين في تهريب الصواريخ الإيرانية إلى الحركة في غزة. وبحلول منتصف عام 2010، قبل عام تقريباً من اندلاع الحرب في سوريا مما أدى إلى توترات بين طهران وحماس والتي تم حلها في النهاية، تجاوزت تقديرات التمويل الإيراني لحماس 20 إلى 30 مليون دولار سنوياً.
وبمثل هذه الحُقن النقدية، بدا الأمر وكأن إيران قد ضمنت نفوذها على حماس لسنوات قادمة. ولكن في عام 2013، طرحت الحرب في سوريا تحديات جديدة على علاقة إيران بوكلائها الفلسطينيين. فقد نشرت طهران ميليشيات شيعية لها تاريخ من العداء الطائفي تجاه السنة لدعم نظام الأسد. وقد تم تصوير هذه القوات على أنهم “مدافعون عن الأضرحة [الشيعية]” و”المقاومة الشيعية”. وتم وصف أي عدو لإيران أو حزب الله في سوريا بأنه “تكفيري”، وهو مصطلح يستخدم في العادة لوصف المتطرفين الإسلاميين. ولكن في الواقع، كانت القوات التي تقاتلها الميليشيات الإيرانية على الأرض في بعض الأحيان تابعة لجماعة الإخوان المسلمين السورية، وهي التيار الأيديولوجي الذي تنتمي إليه حماس. وفي الفترة من 2013 إلى 2015، كانت هناك مزاعم عن انضمام أعضاء حاليين وسابقين في حماس إلى جماعات سنية متمردة في سوريا وتدريب مقاتليها. وفي عام 2015، زعم أحد قادة حركة أحرار الشام، وهي جماعة إسلامية سنية سورية، أنه تلقى مساعدة فنية من حماس في غزة لإعادة تأهيل شبكة أنفاق في سوريا.
كانت المخيمات الفلسطينية التي تحولت إلى أحياء، وخاصة مخيم اليرموك جنوب دمشق، بمثابة بؤر لنشاط المتمردين والمتطرفين السنة، وكانت متاخمة مباشرة للمناطق الشيعية. وقد خلق هذا توتراً للجماعات الفلسطينية السنية مثل حماس والجهاد الإسلامي في علاقاتها مع طهران. كما أضاف التقدم الذي أحرزته الجماعات المتمردة السورية وتنامي النزعة الطائفية داخل الأراضي الفلسطينية إلى المزيد من التوترات. ومع شن طهران حرباً طائفية ضد السنة في سوريا، فإن رئاسة عضو جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي لمدة 13 شهراً في مصر من يونيو/ حزيران 2012 إلى يوليو/ تموز 2013 فتحت المجال أمام حماس لإمكانية استبدال رعاية طهران برعاية القاهرة.
في الفترة من 2012 إلى 2013، جمدت طهران معظم تمويلها لحماس بسبب دعم الحركة للجماعات الإسلامية السنية المتمردة في سوريا واستنكارها الصريح لتدخل إيران في الصراع. في يونيو/ حزيران 2013، قال نائب وزير خارجية حماس في غزة لرويترز: “الأمور ليست سهلة… ونحن نحاول التغلب على المشكلة”. ومن جانبها، بدأت حماس في التودد إلى تركيا وقطر لسد الفجوة المالية التي خلفتها الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك، كانت الأزمات المالية تلقي بظلالها على المجموعة. وبحلول عام 2014، أرسلت حماس إشارات إلى طهران بأنها تسعى إلى إعادة العلاقة.
من جانبها، حافظت حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية على موقف أكثر حياداً بشأن الحرب في سوريا، ونجت إلى حد كبير من العقوبة التي فرضتها طهران على حماس. ومع ذلك، في عام 2015، عندما لم تعلن المجموعة عن دعمها لجماعة أنصار الله المدعومة من إيران (المعروفة أيضاً باسم الحوثيين) في اليمن، ورد أنها فقدت لفترة من الوقت تمويلها الإيراني. وقال مسؤول لم يُذكر اسمه في حركة الجهاد الإسلامي في يناير / كانون الثاني 2016: “تريد إيران من جميع الفصائل التي تعتبرها حليفة وتقدم لها المال دعم المواقف السياسية والعسكرية التي تنفذها [إيران] في المنطقة دون تحفظ”. “لم تدعم حركة الجهاد الإسلامي [الفلسطينية] جميع المواقف العسكرية والسياسية الإيرانية، لذلك أصبحت العلاقات متوترة وساءت الأمور”.
وكما فعلت في العراق لكبح جماح جماعة مثل عصائب أهل الحق، شجعت إيران مجموعة صغيرة على الانشقاق عن حركة الجهاد الإسلامي، مستخدمة ذلك كشكل من أشكال العصا للضغط عليها. كانت حركة الصابرين، التي انشقت عن الجهاد الإسلامي في عام 2014، صغيرة مقارنة بحماس وبجماعتها الأم: حركة الجهاد الإسلامي. ووفقاً لتقرير صادر عن المونيتور في مارس / آذار 2019، فإن إيران “حولت الكثير من دعمها المالي المخصص للجهاد الإسلامي إلى الصابرين”. ومع ذلك، عوّضت حركة الصابرين عن صغر حجمها من خلال التجنيد السريع، وزيادة التمويل من طهران، والتسويق المبهرج. كما كان للمجموعة، التي يبلغ عدد أعضائها حوالي 300 فقط، عناصر قيادية في إيران.
بحلول عام 2019، وبسبب حجب إيران للتمويل واستراتيجية المجموعات المنشقة، عادت حماس والجهاد الإسلامي بالكامل إلى الحظيرة الإيرانية. وتخلت إيران لاحقاً عن حركة الصابرين وتحركت حماس لبدء تفكيك المجموعة في نفس العام. وبالنسبة لطهران، كان التخلي عن الصابرين على الأرجح تضحية بسيطة لإعادة بناء الروابط والسيطرة المباشرة على الجهاد الإسلامي وحماس الأكبر حجماً والأكثر نفوذاً وقوة. كما ساعدت سياسة الجزرة على التغلب على التوترات الناجمة عن الحرب الأهلية السورية. وفي عام 2023، ورد أن التمويل الإيراني لحماس بلغ حوالي 100 مليون دولار سنوياً. ويؤكد هذا السخاء في الدفع مقارنة بعام 2010 على سعي إيران للحفاظ على حكم حماس في غزة.
الكاتب: فيليب سميث
