تقارير ودراسات

صعود السلفية المصرية وتسييسها وانحسارها: حوار مع ستيفان لاكروا

نشر مؤخراً ستيفان لاكروا، أستاذ مشارك في العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية، وباحث في مركز الدراسات الإقليمية والدولية، والمدير المشارك لكرسي دراسة الدين، كتاب “غروب القديسين: تاريخ وسياسة السلفية في مصر” (إصدارات المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، 2024). في هذه المقابلة، يجيب ستيفان عن أسئلتنا حول هذا الكتاب، وعلى نطاق أوسع، حول السلفية في مصر.

*- كيف تعرّف السلفية في بضعة أسطر؟

إن مصطلح “السلفية” يشير في المقام الأول إلى فهم خاص للإسلام، يقوم على عدد محدد من المبادئ الأساسية: فالسلفيون يدعون إلى العودة إلى ما يرونه عقيدة أصيلة، متجذرة في القراءة الحرفية للنصوص المقدسة، على النقيض من المناهج الأكثر عقلانية للعقيدة التي سادت الإسلام منذ العصور الوسطى، وهم يضمرون عداءً خاصّاً للحركات غير السنية (وخاصة الشيعة) والتصوف، الذي يرون أنه ليس أكثر من خرافة. كما يدعون إلى تطبيق سلوك ديني صارم في الحياة اليومية للمسلمين، والذي يرونه مطابقاً لتقاليد نبي الإسلام وصحابته.

وبالإضافة إلى هذا الفهم الخاص للإسلام (الذي ظل موقفاً هامشياً للغاية حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين)، فإن مصطلح “السلفية” يشير أيضاً إلى الحركة التي تأسست لنشر هذا الفهم. وبصورة عامة، تدعو هذه الحركة إلى “تطهير” الإسلام (في كتابي، أصف “قواعد العمل” لدى السلفيين بأنها “قواعد النقاء”) وتنشئة أجيال جديدة من المسلمين الذين يلتزمون بهذا الإسلام “النقي”.

*- في مصر على الأقل، يبدو أن السلفيين قد فازوا بمعركة الأفكار في بداية القرن الحادي والعشرين، ونجحوا في ترسيخ رؤيتهم للإسلام. ولكن كيف تمكنوا من تحقيق هذا؟

إن ما يسعى كتابي إلى توضيحه هو أن السلفية الحديثة ولدت في نفس وقت ظهور الإسلاموية تقريباً، وأن الحركتين مختلفتان إلى حد كبير، والتمييز بينهما أمر بالغ الأهمية من أجل تحديد أفعالهما وتأثيراتهما. إن السلفية والإسلاموية هما الوريثتان الرئيستان للإصلاح الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر، والذي سعى إلى إيجاد الحل في الإسلام لانحدار المسلمين. وترى السلفية أن المشكلة دينية في المقام الأول: فهي تدعو إلى تطهير الإسلام، وبالتالي فهي متشددة دينياً بشكل مفرط، ولكنها حذرة من الانخراط في أي معارضة سياسية. وهي تهدف إلى إصلاح المجتمع من الأسفل، من خلال الدعوة والوعظ، من أجل إعادة بناء مجتمع المؤمنين. أما الإسلاموية، من ناحية أخرى، فهي سياسية قبل كل شيء: ففي حين تقبل العمل على المجتمع من أجل بناء قاعدة نضالية، فإنها ترى أن الحل يكمن في نهاية المطاف في السيطرة على الدولة من أجل إعادة بنائها على أساس إسلامي. إن الإسلاميين أقل اهتماماً بالنقاء الديني: فهم غالباً ما ينظرون إلى الإسلام بوصفه مسألة هوية، وليس باعتباره جوهراً أصلياً يجب السعي إلى استعادته (كما هو الحال مع السلفيين).

إن هذا الاختلاف واضح بشكل خاص في مصر، حيث تم ظهور السلفية رسمياً منذ عام 1926 فصاعداً، مع تأسيس منظمة أنصار السنة. وظهرت الإسلاموية بعد ذلك بوقت قصير مع إنشاء جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928. وكانت الحركتان في منافسة منذ البداية. ولكن في حين اجتذبت الإسلاموية قدراً كبيراً من الاهتمام الأكاديمي، فإن السلفية لم تحظ بقدر كبير من العناية، على وجه التحديد؛ لأنها تتجنب الصراع السياسي. ولتلخيص حجة معقدة في بضعة أسطر، أود أن أقول إن هذه كانت ميزتها الرئيسة: فقد نظرت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى جماعة الإخوان المسلمين بصفتها خصماً؛ لأنها كانت منافساً مباشراً لها على السلطة.

وفي الوقت نفسه، كانت السلطات تنظر إلى السلفية بوصفها إما عديمة الأهمية؛ لأن أنشطتها كانت مقتصرة على المجال الديني، أو بوصفها حليفاً قادراً على تقويض الإخوان في المجال الديني. ولكن السلفيين كانوا أيضاً ناشطين فاعلين في القضايا التي تبنوها: سواء في سوق الدعوة الدينية، حيث نشطوا في وقت مبكر جداً من أجل الترويج لمؤلفيهم المفضلين، أو في التنظيم، حيث تعلموا تنظيم أنفسهم من خلال نسخ الأساليب الناجحة التي تستخدمها الحركات الإسلامية. لذلك، انتهى بهم الأمر إلى ممارسة تأثير هائل على تحديد المعايير الإسلامية التي يجب على المسلمين اتباعها. وبطبيعة الحال، لعب الدعم المالي الذي تلقوه من دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، دوراً أيضاً، ولكن من الضروري تحليل الديناميكيات الداخلية في مصر لفهم السبب الذي جعل السلفية قادرة على اكتساب مثل هذه المكانة القوية.

*- لقد ابتعدت السلفية في بداياتها عن السياسة واحترمت السلطات في ذلك الوقت، ولكن الأمور تغيرت قبل بضعة عقود عندما اضطر السلفيون إلى التنافس مع حركات إسلامية أخرى. هل يمكنك أن تخبرنا قليلاً عن هذا التطور؟ وبشكل أكثر عمومية، الآن بعد أن أصبح السلفيون مهيمنين على المجال الديني، ما هي علاقتهم الحالية بالسياسة؟ وما الدور الذي لعبوه في الثورة المصرية عام 2011 ثم أثناء فترة الانتقال؟

في سبعينيات القرن العشرين، أصبحت الحدود بين النموذجين المثاليين اللذين حددتهما في وقت سابق، “الإسلاميين” و”السلفيين”، غير واضحة إلى حد ما. ويرجع هذا جزئياً إلى أن السلفية بدأت منذ السبعينيات فصاعداً تمارس قوة معيارية في الدوائر الدينية المتشددة. ومن المفارقات العجيبة أن السلفية حققت أول انتصار لها في معركة المعايير خلال فترة حكم جمال عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات: فقد قضى عبد الناصر على جماعة الإخوان المسلمين، وأراد أن يضع الإسلام الرسمي تحت سيطرته من خلال إجبار العلماء على تقديم التأييد الديني للاشتراكية. وقد أدى كل هذا إلى خلق فراغ هائل في المجال الديني، والذي ملأته السلفية تدريجياً، التي استمرت منظماتها الرئيسية في العمل دون أي عائق حقيقي في عهد عبد الناصر.

وقد كان لهذا الانتصار الأولي عواقب متناقضة: فعندما ظهر جيل جديد من الناشطين السياسيين باسم الإسلام في سبعينيات القرن العشرين، لم ينكر كثير منهم تنشئتهم الاجتماعية السلفية الأولية، بل وذهب آخرون إلى حد إعادة تفسير بعض الأفكار السلفية من أجل تسييسها. وكانت النتيجة نشوء بوتقة ثقافية حقيقية، تمثلت عادة في تنظيمات الجماعة الإسلامية التي هيمنت على الجامعات المصرية في سبعينيات القرن العشرين، والتي انتهى بها المطاف إلى اغتيال السادات في عام 1981.

وقد أعقب فترة الغليان الثقافي توضيح جديد للمواقف في نهاية سبعينيات القرن العشرين: فقد تخلّى بعض أعضاء تنظيمات الجماعة الإسلامية عن كل أشكال الاحتجاج السياسي وأعادوا تأسيس السلفية من خلال تنظيم جديد، هو الدعوة السلفية، ومقره الإسكندرية؛ واختار آخرون إعطاء الأولوية للعمل السياسي، إما بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين والتخلي عن ثقافتهم الدينية السلفية (وإن لم يكن بالكامل)، أو بتوسيع نطاق عملهم السياسي إلى العنف المسلح، داخل الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد الإسلامي المصرية. وهكذا أعيد تأسيس الثنائية بين السلفية والإسلاموية، وإن ظلت المناطق الرمادية قائمة على حدودهما.

إن هذا التسييس الأولي يختلف إلى حد ما عن ذلك الذي حدث بعد ثورة 2011، مع إنشاء حزب النور، الذي حصد أكثر من 25٪ من الأصوات في أول انتخابات برلمانية حرة في مصر، وأصبح ثاني أكبر قوة سياسية في البرلمان. وبعد بعض الصراعات الأولية على السلطة، أصبح حزب النور الذراع السياسي للدعوة السلفية، المنظمة الرئيسية التي تأسست في أواخر السبعينيات (وثاني أكبر منظمة جماهيرية دينية في مصر بعد جماعة الإخوان المسلمين). ومع ذلك، لم يتصرف حزب النور كحزب إسلاموي، حيث إنه لم يسع إلى السيطرة على الدولة؛ وذلك لسبب بسيط وهو أنه لا يؤمن بالإصلاح من أعلى. بدلاً من ذلك، سعى الحزب إلى العمل كجماعة ضغط، في البرلمان وفي المجال السياسي، مكرَّسة للدفاع عن مصالح الدعوة السلفية، التي شكلت قاعدته الاجتماعية والدينية. وبالتالي تصرف على أساس المبدأ (المطابق لقواعد العمل السلفية الأصلية) القائل بأن الهدف الوحيد الجدير بالاهتمام هو تحويل المجتمع وبالتالي الحفاظ على الدعوة السلفية وتوسيع مجال عملها. وعلى هذا الأساس، اعتبر السلفيون في حزب النور جماعة الإخوان المسلمين تهديداً منذ البداية: فقد كانوا مقتنعين بأن الإخوان المسلمين إذا استولوا على الدولة فإنهم سوف يستخدمونها لتأكيد سيطرتهم على المجال الديني على حساب السلفيين. ولم يؤد فوز الرئيس مرسي، العضو في جماعة الإخوان المسلمين، في يونيو/ حزيران 2012 إلا إلى تعزيز هذه المخاوف. وقد أدى هذا إلى منافسة شرسة بين الإخوان والسلفيين. ولأن الإخوان كانوا دائماً تحت ضغط “من اليمين”، فقد اضطروا باستمرار إلى إظهار محافظتهم، الأمر الذي منعهم من المطالبة بـ”الوسط”، كما فعل حزب النهضة الإسلامي في تونس من خلال تشكيل تحالفات مع الأحزاب العلمانية. وكانت النتيجة استقطاباً ضاراً أدى في نهاية المطاف إلى تغذية الدعم بين معارضي الإخوان للانقلاب الذي وقع في الثالث من يوليو/ تموز 2013. وكان هذا الانقلاب مدعوماً أيضاً من قِبَل السلفيين، الذين كانوا سعداء للغاية بالتخلص من التهديد الذي يشكله الإخوان.

*- ما هو حال السلفية في مصر الآن؟ وماذا عن السعودية ودول الخليج؟ وهل هناك أساس متين لسيطرتها بين أهل السنة؟ وما الذي يحمله المستقبل للحركة في وقت انهارت يوتوبيا السلفية؟

من المؤكد أن السلفيين في حزب النور وتنظيمه الأم، الدعوة السلفية، كانوا يأملون من خلال دعم الانقلاب في تشكيل تحالف دائم مع الجيش المصري. وفي السيناريو الذي حلموا به، كان الجيش ليعتمد عليهم لاستعادة السيطرة على المجال الديني. ولكن الأمور لم تسر على هذا النحو تماماً.

لا شك أن حزب النور نجا من القمع الذي تعرضت له جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، والذي بلغ ذروته بمذبحة قتل فيها ألف من أنصارهم في أغسطس/ آب 2013 في ميدانين بالقاهرة. بل إن حزب النور تمكن حتى من الحفاظ على بعض التمثيل الرمزي في البرلمان، الذي استولى عليه الجيش الآن (أقل من عشرة نواب حالياً)، ولكن الجيش لا يثق بهم. ومن أجل استعادة السيطرة على الأمور الدينية، فضل الرئيس السيسي الاعتماد على إسلام الدولة الذي أعيد تنشيطه، والذي يجسده الأزهر، وعلى جهاز قانوني جديد للسيطرة على المساجد. ولا يزال السلفيون يمارسون نفوذاً حقيقياً، ولكن هذا النفوذ محدود بشدة. كما فقدت الدعوة السلفية جزءاً من قاعدتها الجماهيرية، التي أصبحت غير راضية عن المواقف السياسية لحزب النور. وفقد شيوخ السلفية، الذين كان يُنظَر إليهم ذات يوم باعتبارهم شخصيات شبه أسطورية مستوحاة من الإسلام التاريخي الذي لا يتغير، الكثير من هالتهم بسبب اتساخ أيديهم بالسياسة. ومن جراء ذلك شهدنا تراجعاً في نفوذ السلفيين في مصر، ولو نسبياً.

إن التحولات الجارية حالياً على المستوى الإقليمي، وخاصة في دول الخليج، تساهم في هذا التراجع. وكما قلت سابقاً، سيكون من التبسيط أن نعزو صعود السلفية المصرية بالكامل إلى تدفق الدعم المالي من الخليج. ومع ذلك، تظل الحقيقة أن هذا ساعد في خلق الظروف المواتية لنموها. منذ ما يقرب من عقد من الزمان، نشهد إعادة تشكيل الفضاء الديني في بلدان الخليج. ​​وهذا ملحوظ بشكل خاص في المملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي استثمرت تاريخياً بكثافة في الدعوة السلفية: لقد نجح ولي العهد محمد بن سلمان، الزعيم القوي للمملكة منذ عام 2015، في إخضاع العلماء، وسيطر على الخطاب الديني، ويسعى الآن إلى تعزيز “الإسلام المعتدل” بما يتماشى مع رؤيته لتحويل البلاد. وفي ظل هذا التشكيل الجديد، تشهد المحافظة السعودية، إلى جانب بعدها الدعوي، تراجعاً حاداً. كما تساهم دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي الدولة التي تنفق الكثير من الأموال على الترويج للصوفية، التي كانت تاريخياً نقيضاً للسلفية، في ردة الفعل الإقليمية العنيفة ضد السلفية. ولا يزال السلفيون يتمتعون بدعم في قطر والكويت، ولكن حتى هذا الدعم شهد تراجعاً إلى حد ما.

ولكن من المبكر للغاية أن نحدد ما قد يكون عليه المستقبل. فقد أعادت السلفية تشكيل المعايير الدينية السنية بشكل عميق، ولا يزال نفوذها المحافظ كبيراً، ولكن الحركات التي قادت ذات يوم هذه “الثورة المعيارية” تمر الآن بأزمة أكيدة.

الرابط:

https://www.sciencespo.fr/ceri/en/content/rise-politicisation-and-decline-egyptian-salafism-interview-stephane-lacroix

زر الذهاب إلى الأعلى