جماعة التبليغ ودورها في الجهاد العالمي (5)
4. جماعة التبليغ والإرهاب الدولي ـ علاقة تكافلية
يشير مسؤولون دوليون في مجال مكافحة الإرهاب يراقبون جماعة التبليغ إلى أن العديد من الجهاديين خرجوا من الجماعة أو كانت لهم على الأقل روابط هامشية معها. وتشير التقارير إلى وجود أمثلة عديدة لأفراد ـ بما في ذلك غربيون ـ انضموا إلى الجهاد المسلح في سوريا والعراق وأفغانستان وأماكن أخرى، وشاركوا في هجمات إرهابية في بلدانهم الأصلية بعد أن تأثروا بوعظ جماعة التبليغ. ويذكر مسؤول استخباراتي فرنسي أن جماعة التبليغ “تعمل بالتأكيد كأرض خصبة لتربية الإرهاب”. ووفقاً لفريد بيرتون وسكوت ستيوارت، تؤمّن جماعة التبليغ منصة اجتماعات ومركز تيسير غير خاضع للمراقبة، والذي يمكن أن يوفر ملاذاً وحتى حاضنة لتجنيد الجهاديين. وهناك أيضاً مؤشرات على أن جماعة التبليغ لا تعمل فقط كأرض تجنيد بل وأيضاً كمقر عملياتي للخلايا الجهادية. ومن الأمثلة على ذلك تفجيرات القطارات في مدريد في مارس/ آذار 2004؛ إذ ورد أن ثلاثة أعضاء بارزين في جماعة التبليغ كانوا ضمن منفذي هذا الهجوم الإرهابي.
هناك العديد من الحالات الأخرى التي لعبت جماعة التبليغ دوراً في دفع متابعيها إلى التطرف العنيف. على سبيل المثال، كان لبعض الأفراد الذين يُزعم تورطهم في مؤامرة لتفجير العديد من الطائرات أثناء رحلات عبر الأطلسي في أغسطس / آب 2006 صلات بالجماعة. وتعزز المؤامرات والهجمات الإرهابية الأخرى التي ارتبط بها أعضاء جماعة التبليغ الحجة القائلة بأن الجماعة “نشطة بشكل متزايد كوكالة تجنيد للكوادر الإرهابية”. وتشمل هذه الحالات ما يلي: وفقاً لفريدمان، قرر المدعون الفيدراليون في الولايات المتحدة في أكتوبر / تشرين الأول 2002 أن جماعة التبليغ تم تحديدها كنقطة انطلاق من قبل أحد المتهمين على الأقل في مجموعة إرهابية تُعرف باسم “خلية السبعة ـ بورتلاند”.
يُزعم أن هذه الخلية الجهادية كانت تحاول القتال مع طالبان والقاعدة ضد القوات الأمريكية؛ كما تآمرت لتفجير كنيس يهودي ووُجهت إليها تهمة تقديم الدعم المادي لتنظيم القاعدة. ويتعلق مثال آخر بما يسمى بقضية “خلية الستة ـ لاكاوانا” في سبتمبر/ أيلول 2002، حيث كان المتورطون فيها ينسقون رحلة سرية لأحد الأعضاء للانضمام إلى معسكر جهادي في أفغانستان. وكانت لهذه المجموعة صلة واضحة بجماعة التبليغ، وكانت تستخدم إحدى دورات التدريب التي تقدمها الجماعة في باكستان كذريعة وغطاء لأنشطتها.
وهناك أيضاَ حالة “عضو طالبان الأمريكي” جون ووكر ليند الذي أدين بالخيانة لدوره في مساعدة طالبان في أفغانستان. قبل انتسابه إلى حركة طالبان الأفغانية، انضم ليند إلى مجموعة من الدعاة التبليغيين في رحلة دعوية إلى باكستان. كما ساعد التبليغيون ليند على الالتحاق بمدرسة دينية حتى يتمكن من التعامل مع بعض العقبات الإدارية واللوجستية. ومن بين الجهاديين الآخرين المتهمين محمد صديق خان وشهزاد تنوير (اثنان من الانتحاريين الذين نفذوا هجمات السابع من يوليو/ تموز 2005 على وسائل النقل في لندن والتي أسفرت عن مقتل 52 مدنياً)، و”مفجر الحذاء” ريتشارد ريد، و”المفجر القذر” خوسيه باديا، وليمان هاريس الذي سعى إلى تفجير جسر بروكلين. وكان هؤلاء جميعاً أعضاء في جماعة التبليغ في وقت أو آخر.
كما ظهر اسم جماعة التبليغ في محاولات التفجير التي وقعت في لندن وجلاسكو بإسكتلندا في يوليو/ تموز 2007. علاوة على ذلك، فإن الرجال الأربعة عشر الذين ألقي القبض عليهم في برشلونة في يناير/ كانون الثاني 2008 بتهمة التخطيط لمهاجمة وسائل النقل في برشلونة كانوا على صلة بجماعة التبليغ أيضاً. وكان مرتكبا مذبحة سان برناردينو في ديسمبر/ كانون الأول 2015، اللذان أعلنا الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية، يصلّيان في مسجد جماعة التبليغ المحلي. أكثر من ذلك، ورد أنه من بين أكثر من 50 هندياً ذهبوا للقتال في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، كان حوالي ثلثهم على صلة بجماعة التبليغ.
5. كلمة ختامية: جماعة التبليغ كمحرك للنظام البيئي الإسلاموي
لقد كان هناك عدة حالات من الإسلاميين العنيفين الذين بدأوا طريقهم مع جماعة التبليغ. إن أنشطة الجماعة والدور اللاحق الذي تلعبه داخل النظام البيئي الإسلاموي يضمنان للمنظمات الجهادية أن لا تضطر إلى تصدير الجهادية من باكستان ودول جنوب آسيا الأخرى إلى أوربا وأمريكا الشمالية، حيث إن جماعة التبليغ تتكفل بإنجاز العمل على هذا الصعيد بالفعل. في الواقع، يمكن القول إن هذا النظام البيئي الإسلاموي يعمل في اتجاهين: الاتجاه الأول ينشأ من “خارج” جماعة التبليغ، من خلال التسلل إلى تجمعات وأنشطة الجماعة، ثم التلاعب بها واستغلالها في التجنيد. والاتجاه الآخر يعمل من “داخل” جماعة التبليغ، من خلال الترويج لتفسير متطرف للإسلام، حيث لا توفر الجماعة منصة فكرية فحسب، بل أيضاً مسار عمل قد يؤدي إلى أعمال إرهابية.
إن الديناميكيتين تعززان بعضهما البعض. إن مشكلة غموض جماعة التبليغ يخلق بيئة مواتية قد يجد فيها الأفراد الجهادية جذابة ويصبحون في نهاية المطاف إرهابيين. ويمكن إرجاع هذا الغموض أيضاً إلى محاولة الجماعة الحفاظ على موقف محايد بين المعسكرات المختلفة. وكما يشير فريدمان بحق، فإن “التبليغيين لا يتعاونون مع الجماعات الدينية الأخرى التي يختلفون معها؛ ولا يقاتلونها. وهم لا يدعمون فرض الجهاد في الإسلام ولا يعارضونه. وهم لا يدعمون الإرهاب العنيف؛ ولا ينتقدونه عندما يحدث”. يمنح هذا “الحياد” جماعة التبليغ المرونة لإنكار المسؤولية عن حالات الإرهاب التي ارتكبها أعضاؤها (السابقون).
علاوة على ذلك، يساعد هذا “الحياد” على تعزيز صورة جماعة التبليغ باعتبارها حركة غير سياسية ومسالمة، مما يطمس الخط الفاصل فيما يتعلق بمدى دعم الجماعة للجهاد ومحاولة تنفيذ الشريعة الإسلامية بالعنف. وفي الوقت نفسه، يعزز هذا جهود جماعة التبليغ لتصوير نفسها أمام الحكومات المضيفة كقوة معتدلة قادرة على موازنة التطرف في المجتمعات الإسلامية. ويمكن أن يؤدي هذا أيضاً إلى عواقب وخيمة، أهمها الإحباطات في صفوف الجماعة نفسها. ووفقاً لعضو تبليغي سابق، فإن هذه المواقف الغامضة لجماعة التبليغ “يمكن أن تحفز أزمات الهوية، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للتطرف ويدفعهم إلى الاتصال بجهات فاعلة أكثر تشدداً”.
إن مثل هذا التفاعل بين العناصر المتطرفة ومنظمة مثل جماعة التبليغ “التي ليس لها بُعد سياسي ولكتها تحافظ على وظيفة طائفية، يمكن أن يكون مؤثراً في تحفيز المواقف ومشاعر الإحباط التي قد تصبح فيها الأيديولوجيات النشطة للمتشددين أكثر إثارة للاهتمام”. يمكن أن تخلق مثل هذه التجارب وضعاً قد تبدأ فيه جماعة التبليغ في “العمل كواجهة للجهاديين والجماعات الجهادية – إما عن قصد أو عن غير قصد”. وبالتالي، كجزء أساسي من النظام البيئي الإسلاموي، تعمل جماعة التبليغ كمحرك يدعم الأهداف الجهادية في “إنتاج الإرهاب” مباشرة على أراضي البلدان المستهدفة. في الواقع، بالنسبة إلى بعض الخبراء، فإن “حياد” جماعة التبليغ “يكفي لجعلها مذنبة”.
من الأهمية بمكان لفهم جماعة التبليغ بوصفها ركيزة من ركائز النظام البيئي الإسلاموي أن ندرك أنها ليست محصورة ضمن المعايير الوطنية، بل تتمتع في الواقع ببعد دولي. هناك دلائل واضحة على أن باكستان تتولى دوراً مركزيّاً في التكافل بين جماعة التبليغ والمنظمات والحركات الجهادية الأخرى. وكما هو موضح أعلاه، “تعمل جماعة التبليغ أيضاً كقناة فعلية للمتطرفين الإسلاميين” ولجماعات مثل طالبان وحركة المجاهدين والقاعدة وداعش لتجنيد مقاتلين جدد. ومن الجدير بالذكر أن “مجنَّدي جماعة التبليغ يتقاطعون مع عالم الجهادية المتشددة عندما يسافرون إلى باكستان لتلقي تدريبهم الأولي”. فمن خلال توفير مرافق رئيسية لجماعة التبليغ للتدريب التعليمي وجولات الوعظ، تصبح هياكل الجماعة محوراً رئيسياً للربط مع الجهاديين المتشددين. بعبارة أخرى، توفر مرافق جماعة التبليغ في باكستان مواقع آمنة، حيث يمكن للمراقبين الجهاديين البحث عن مجندين جدد محتملين.
إن هذه العملية يمكن تلخيصها على أفضل وجه في كلمات أليكسييف الذي يقول: “في حين لا يوجد دليل ملموس على التجنيد المباشر لأغراض إرهابية من قبل أعضاء جماعة التبليغ، فلا شك أن بعض الأشخاص على الأقل الذين يكتشفون الإسلام المتطرف من خلال هذه الجماعة، ينجذبون في النهاية إلى الأنشطة المتطرفة والإرهابية. إحدى الطرق التي يتم بها تحقيق ذلك هي إرسال “مجندين واعدين” إلى مقرّ جماعة التبليغ في رايوند، باكستان، لمدة أربعة أشهر من التدريب الديني. وأثناء وجودهم هناك، تقترب المنظمات الجهادية الباكستانية من هؤلاء المجندين، وينتهي بهم الأمر في معسكرات التدريب الإرهابية”. ووفقاً لبيرتون وستيوارت، “يوفر هذا الرابط وسيلة يمكن من خلالها لأعضاء جماعة التبليغ الساخطين على البرنامج غير السياسي للجماعة أن ينفصلوا عن مسارهم [الدعوي] وينضموا إلى المنظمات المسلحة”.
باختصار، إن حقيقة تحول جماعة التبليغ إلى محور اهتمام مجتمع الاستخبارات الدولي تسلط الضوء على الوعي المتزايد فيما يتصل بالحاجة إلى مراقبة ليس فقط المنظمات المسلحة الظاهرة، بل وأيضاً الحركات الدينية غير السياسية التي تصف نفسها بأنها غير عنيفة. فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، بدأت السلطات الأوربية تدرك أن الجماعات الجهادية تجد أهدافاً متجددة لخطابها المعادي للغرب، والمناهض للولايات المتحدة، والمؤيد للعنف، والذي لا يتحدى المجتمع الدولي والنظام القانوني فحسب، بل ويعمل أيضاً على تحويل المسلمين العاديين إلى جهاديين وإرهابيين دوليين. وتجسد جماعة التبليغ هذه العلاقة التكافلية، ذلك أن الفهم الصارم [الأصولي] الذي يتبناه أتباع الجماعة للإسلام لا يؤدي فقط إلى تعزيز الخطاب الإسلاموي المتطرف، بل يخلق أيضاً بيئة مواتية لظهور الإرهاب الجهادي.
وبشكل أكثر تحديداً، تتناقض أيديولوجية جماعة التبليغ بوضوح مع النظام الديمقراطي الليبرالي، وكذلك المبادئ الدستورية للدول الغربية. وهذا مهم لأن الجماعة تنتمي إلى ما يُعرف بـ “الإسلاموية القانونية”؛ أي تلك المنظمات الإسلاموية “التي تسعى إلى تحقيق أهدافها المناهضة للدستور باستخدام الوسائل القانونية”. إن الوعظ والتعليم اللذين تقدمهما جماعة التبليغ يتجاوزان إلى حد كبير رفض أنظمة القيم الغربية: فهما يجعلان الجماعة وأتباعها “عرضة للتموضع الإسلامي”، ويعملان كبوابة لإنشاء “بيئات جهادية”. وعلى هذا النحو، يمكن القول إن جماعة التبليغ والجهاديين يعملون جنباً إلى جنب داخل الشبكة التكافلية للنظام البيئي الإسلاموي، مما يعزز تهديد الجهادية والإرهاب للأمن الدولي.
6. التوصيات
1. بسبب السرية التي تحيط بجماعة التبليغ ـ الافتقار إلى العضوية الرسمية، إلى جانب انخفاض مستوى المؤسساتية، والافتقار إلى السيطرة المركزية (الإدارية) ـ فإن من الصعب رصد أنشطة الجماعة بشكل دقيق. وتشير التقارير إلى أن أجهزة الأمن الأوروبية لم تحظ بعد بالقدر الكافي من “الأسباب” للتحقيق في جماعة التبليغ. ولم تتمكن أجهزة الاستخبارات وغيرها من وكالات إنفاذ القانون من الكشف بشكل كامل عن الدور الذي تلعبه جماعة التبليغ كمنظمة داعمة للجهادية. ولابد من تكثيف مراقبة جماعة التبليغ (المراكز والأفراد)، بما في ذلك معاملاتها المالية. وهناك حاجة إلى مزيد من التركيز ليس فقط على مراقبة الإسلاميين المتشددين (المحتملين)، بل وأيضاً الأفراد الذين يروجون للتطرف. وتوضح قضية جماعة التبليغ بوضوح أن التلقين الإسلاموي يؤدي غالباً إلى أعمال إرهابية. وفي هذا الصدد، يبدو أن التقارير التي أصدرتها وكالات الاستخبارات الأوروبية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، إما لم تؤخذ في الاعتبار بالكامل من جانب أغلب القيادات السياسية، أو لم تترجم إلى سياسات ملموسة.
2. نظراً لحجمها الكبير، فمن الواضح أن جماعة التبليغ ليست كلها إرهابية (محتملة)، وأنها ليست في حد ذاتها جماعة جهادية. ومع ذلك، فنحن بحاجة إلى تغيير الفهم السائد بين (العديد من) صناع القرار السياسي والخبراء وإنكار الروابط المسبقة بين الجماعة والجهاد العالمي. ذلك أنه كثيراً ما يُنظَر إلى التمييز بين الجماعات الإسلاموية على أساس مواقفها تجاه العنف (والسياسة) على أنه فعال للغاية في تصنيفها. ومع ذلك، تُظهر حالة جماعة التبليغ أن التمييز بين المنظمات المتشددة وغير المتشددة محدود الفائدة. فكلاهما عادة ما يكون له نفس الأهداف العامة: جعل الإسلام الأصولي عالمياً، وتطبيق الشريعة الإسلامية كنظام حكم نهائي، وإقامة خلافة (عالمية). وبهذا المعنى، فإن الموقف من استخدام العنف لا يمثل سوى اختلافاً تكتيكياً بين جماعة التبليغ والجماعات الجهادية. والنتيجة واحدة: شنّ “حرب أفكار” ضد فكرة المجتمع القائم على المعايير الديمقراطية والقيم الليبرالية.
3. إن الحكومات بحاجة إلى فهم الشبكة العالمية لجماعة التبليغ، وخاصة الديناميكيات التي تعمل بها داخل النظام البيئي الإسلاموي. فمن الواضح أن أنشطة الجماعة، وأهمها عمليات التجنيد والتعبئة، وجمع الأموال، والتدريب، يتم استغلالها من قبل الجهاديين العالميين، بموافقة أو دون موافقة قيادة الجماعة. وبغض النظر عن ذلك، فإن الدعوة إلى تفسير متطرف للإسلام يخلق دائماً بيئة مواتية لدعم الإرهاب الدولي. وبشكل أكثر تحديداً، تعزز تعاليم جماعة التبليغ شرعية السرديات الجهادية ولا تترك مجالاً لتفسير ليبرالي معتدل للإسلام. وبناءً على ذلك، يجب التشكيك بشدة في فكرة أن جماعة التبليغ [يمكن أن] “تساعد على تسهيل برامج مكافحة التطرف من خلال توفير الحجج الدينية اللازمة” لدحض سرديات الجهادية العالمية.