الخريطة الإسلاموية في بوركينا فاسو
بخلاف العديد من دول الساحل ودول غرب إفريقيا، كانت بوركينا فاسو بعيدة عن الحضور الإعلامي أو البحثي، كلما تعلق الأمر بالخوض في قضايا الإرهاب والحركات الإسلامية والتطرف العنيف، رغم أنها تقع في منطقة تعج بالحركات الإسلامية الجهادية، ومن شتى التنظيمات، المحلية (العرقية، والدينية)، والدولية (من أتباع تنظيم “القاعدة” بداية وتنظيم “داعش” لاحقا)، إلى غاية 2016، حيث سيُصبح اسم بوركينا فاسو حاضرًا، ولا زال الأمر حتى (ربيع 2021)، مع التذكير هنا أن حوالي 55 في المائة من الساكنة، هم مسلمون.
وبالنتيجة، تواجه بوركينا فاسو، شأنها شأن معظم دول منطقة الساحل في غرب أفريقيا، أزمة أمنية متزايدة نظرا لنشاط جماعات مرتبطة بتنظيمي القاعدة و”داعش” وتنفيذها هجمات على الجيش ومدنيين، رغم المساعدة التي توفرها قوات فرنسية ودولية.
المشروع الإخواني
هذا عن الحضور السلفي الجهادي. أما الحضور الإخواني، فإنه لم يتجاوز سقف الجمعيات الخيرية، رغم قلتها وتواضع أدائها، ومرده على الخصوص إلى العمل الميداني التي قامت به طيلة عقود مجموعة من الجمعيات الخليجية، سواء كانت سلفية أو إخوانية، من قبيل النماذج التالية، وهي النماذج نفسها التي نجدها في باقي دول غرب إفريقيا، المعنية [الواردة في هذه السلسلة الأولية من التقارير]:
ــ جمعية “إحياء التراث الإٍسلامي”، وهي جمعية خيرية ذات نفع عام تحت مظلة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بدولة الكويت، أنشئت على يد مجموعة من رجال الكويت، حظيت بمباركة عبد العزيز آل الشيخ مفتي الديار السعودية وغيره من العلماء مثل الشيخ عبد العزيز بن باز، وتوجد في أكثر من 42 دولة؛
ــ “مؤسسة الشيخ ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية” [“راف”]، وهي مؤسسة خيرية قطرية لديها مشاريع متنوعة عديدة داخل قطر وخارجها، توجد في أكثر من 97 دولة على امتداد القارات الخمس]؛
ــ “جمعية العون المباشر”، وهي منظمة خيرية إنسانية كويتية، تقوم بأعمال تنموية تستهدف بها قارة إفريقيا، وتتخذ من الكويت مقرّاً لها، ويُعدّ التعليم من أكبر أولويات الجمعية. ولهذا، فهي تسيّر 840 مدرسة من رياض الأطفال إلى الجامعات، حيث تسعى الجمعية في التوسع في الجوانب التعليمية إلى أقصى حد، وتحلم بتأسيس جامعة في المجتمعات المهمشة في إفريقيا كل سنة، عبر دعم آلاف الطلبة الفقراء في الجامعات، ضمن مبادرات أخرى.
وواضح أنه لا يمكن فصل المرجعية الدينية لهذه المنظمات الأهلية عن تأثير هذه الأعمال الخيرية في الدول الإفريقية المعنية بالمساعدات الإنسانية، كما لا يمكن فصل الأصل الدولاتي لهذه الجمعيات عن مشروعها الإيديولوجي، فبالنسبة إلى حالة جمعية “راف”، فإن مجرد قدومها من دولة تحتضن المشروع الإخواني في المنطقة، عبر تمويل ودعم ما يُسمّى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، يُفيد أن أفقها الميداني يصب في مصلحة المشروع الإخواني.
إلى غاية عقدين تقريبا، كانت بوركينا فاسو تضم مجموعة من المنظمات والجمعيات الإسلامية، من عدة مرجعيات، وخاصة من المرجعية الصوفية والسلفية، من قبيل الجمعية الإسلامية، جمعية أهل السنة المحمدية، الجمعية التيجانية، رابطة خريجي جامعات ومعاهد المملكة العربية السعودية، رابطة مثقفي العربية، جمعية إثبات الوحدة الإسلامية، جمعية الطلاب المسلمين في بوركينا.
ولكن جرت تطورات لاحقة، أفضت إلى ظهور منظمات إسلامية أخرى، إما سلفية أو إخوانية، أو تابعة لمؤسسات إسلامية عربية (خليجية على الخصوص)، نذكر منها الجمعيات التي ظهرت منذ عقد تقريبا: مكتب لجنة مسلمي إفريقيا، مكتب الجمعية الإسلامية العالمية للدعوة، مكتب منظمة الدعوة الإسلامية العالمية [السودان]، من مرجعية إخوانية، والذي تم حلّه رسميا في فبراير 2021، وانتقل مقره إلى النيجر.
المشروع الجهادي
كانت سنة 2016 محطة مفصلية في ولادة الحالة الجهادية في بوركينا فاسو، حيث ستشهد ابتداء من تلك المحطة، تسارعاً في وتيرة العمليات المسلحة التي قامت بها جماعات جهادية منذ عام 2016. فما بين 2018 – 2021، تعرضت بوركينا فاسو إلى 328 هجوما مسلّحا على الأقل، أسفر عن سقوط مئات القتلى (453 قتيلا على الأقل)، ومن بين هذه الاعتداءات:
حادث 26 سبتمبر 2018، حيث نفذت “جماعة أنصار الإسلام” هجوما عنيفا على كمين للشرطة الوطنية في مقاطعة سوم أودت بحياة 8 ضباط شرطة، بعبوة ناسفة؛
ــ واقعة 2 مارس 2018، عندما تبنت الجماعة نفسها أعنف هجوم لها حينها، عندما استهدفت مقر القوات المسلحة والسفارة والمعهد الفرنسيين في العاصمة واغادوغو، والذي أسفر حينها عن 28 قتيلا وعشرات المصابين؛
ــ واقعة 12 أكتوبر 2019، عندما لقي نحو 15 شخصا حتفهم، وأصيب آخرون في هجوم على مسجد في شمال بوركينا فاسو أثناء الصلاة؛
ــ في 26 أبريل 2021، قُتل صحفيان من بين ثلاثة أوروبيين على أيدي جهاديين بإقرار رئيس الوزراء الإسباني بعد هجوم استهدف دورية لمكافحة الصيد غير القانوني؛
ـ في 5 يونيو 2021، تورط مسلّحون في قتل حوالي 100 شخص في هجوم على قرية شمالي بوركينا فاسو، بإقرار الرئيس روش كابوري.
يمكن حصر أهم الجماعات الجهادية هنا في التنظيمات التالية: “تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”، “جبهة تحرير ماسينا”، وهي جبهة تابعة لتحالف “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، و”جماعة أنصار الإسلام”.
وتعدّ هذه الأخيرة، أول جماعة إسلامية مسلحة تظهر في بوركينا فاسو، وقد تأسست الجماعة عام 2016 على يد الإمام والداعية الإسلامي مالام إبراهيم ديكو، الذي ولد في إقليم سوم، قرب حدود دولة مالي في أسرة صوفية مرابطية، ودرس في مدارس عامة وقرآنية في بوركينا فاسو ومالي. وبعد تخرجه، ذهب إلى النيجر للعمل في تدريس العلوم الدينية، حيث حصل على لقب “مالام”، تعني في العربية معلم حاذق للنصوص العربية والإسلامية. في عام 2009، عاد ديكو إلى بوركينا فاسو، وجاب الكثير من قرى إقليم سوم لدعوة الناس ووعظهم، والتفت حوله مجموعة من الأتباع والأنصار.
لعبت “جماعة أنصار الإسلام” دورا محوريا في حالة عدم الاستقرار التي عصفت بالجزء الشمالي من بوركينا فاسو. ففي الفترة بين عامي 2016 و2018، نفذت هذه الجماعة وحدها أكثر من نصف العمليات المسلحة التي ضربت البلاد. وتركزت هذه الهجمات في مقاطعة سوم الشمالية. وفي عام 2018 فقط، قادت جماعة أنصار الإسلام 64 هجوما أدى إلى سقوط 48 قتيلا في هذه المنطقة. إضافة إلى ذلك، ميزت الجماعة نفسها بتوجه سافر لقتل المدنيين الذين استهدفتهم عبر 55% من إجمالي عملياتها، وتعتبر هذا النسبة الأعلى على الإطلاق بين جميع الجماعات الإسلامية المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي. وقد أجبرت هذه العمليات أكثر من 100 ألف بوركيني على النزوح وترك بيوتهم، كما أدت إلى إغلاق 352 مدرسة في سوم وحدها.
تعتمد الجماعة على سردية التهميش والظلم الاجتماعي لجذب دعم أعضاء المجتمعات المحلية الساخطين على الأوضاع في هذه المنطقة. ورغم ذلك، يمثل أنصار الجماعة شريحة صغيرة من أعضاء المجتمع المحلي بوجه عام.
في غضون مايو 2017، لقي مالام إبراهيم ديكو حتفه بسبب العطش والإنهاك بعد عملية عسكرية نفذتها قوات فرنسية وأفريقية مشتركة في منطقة الساحل ضد معسكر للمسلحين في غابة فولساري جنوب غرب مدينة جاو بمالي، والتي تقع قرب الحدود المالية البوركينابية، وبعد موته، حل محله شقيقه جعفر ديكو، الذي اشتهر بحدة الطباع والعنف المفرط. وعلى خطى أخيه، خضع جعفر أيضا لتوجيهات أمادو كوفا، زعيم “جبهة تحرير ماسينا” في وسط مالي.
اشتهر جعفر ديكو بالافتقاد للجاذبية والكاريزما التي كان يتمتع بها مالام إبراهيم ديكو، وقد أسهم هذا التغير في القيادة بدرجة أو أخرى في حالة التفكك الداخلي التي ضربت الجماعة، مما أفضى إلى تراجع أنشطتها. وتشير التقديرات إلى أن الجماعة لم تعد تضم حاليا، سوى بضعة مئات من المقاتلين الناشطين وشبكة من المخبرين والمؤيدين اللوجستيين الذين يتمركزون بين قريتي بولكيسي ونداكي في إقليم سوم سالف الذكر، في شمال بوركينا فاسو.
من نتائج الحضور الجهادي في دولة كانت تُعرف بالاعتدال والتسامح، وفي وسط شعبي يتسم بالتفاؤل والأمل، أن اتجهت نسبة من السكان المحليين في المنطقة المحيطة بمقرات الجهاديين، إلى تفعيل مشروع “العدالة الأهلية”، عبر قيام ميليشيات مسلحة لا علاقة لها بالجهاديين، بالدفاع عن النفس، والتي تشكلت في مجتمعات يُطلق عليها “مجتمعات موسي”، وهي طائفة عرقية تنتشر في غرب إفريقيا وتعود جذورها إلى ما يعرف الآن بدولة بوركينا فاسو. أما هذه الميليشيات، فيُطلق عليها اسم “كوجلويوجو”، حيث تمنح نفسها سلطة أخذ القصاص وتحقيق العدالة، في ذروة صعود الجماعات الإسلامية المسلحة من طينة “جماعة أنصار الإسلام”، وانعدام الأمن.
وهذا ما تحقق فعلا على أرض الواقع، حيث قامت هذه الميليشيات بتعقب المجرمين وقطاع الطرق، إضافة إلى تعقب الجهاديين، وكانت غالبا ما تنزل بهم عقوبات قاسية، كما قامت في بعض الأحيان بمهاجمة الأبرياء. وقد تم توجيه الاتهام إلى هذه الميليشيات في أحداث مذبحة ييرجو، التي وقعت في 1 يناير 2019، وأودت بحياة ما لا يقل عن 49 من المنتمين إلى قبائل الفولاني في هجوم انتقامي بسبب ارتباطها المزعوم بالجماعات الجهادية.
موازاة مع ميليشيا “كوجلويوجو”، أعلن في ديسمبر 2019، عن تأسيس منظمة “متطوعون للدفاع عن الوطن”، وتتألف من عناصر مدنيين ينفذون مهام مراقبة وجمع معلومات وحماية إلى جانب القوات المسلحة، بعد تدريب عسكري لمدة 14 يوما. وهم يعملون أيضا في كشف المواقع وغالبا ما يقاتلون جنبا إلى جنب مع قوات الدفاع والأمن. ولم يسلم أعضاء هذه المنظمة من اعتداءات الجهاديين، منذ تلك الحقبة، حتى ربيع 2021، حيث أعلن في 14 أبريل 2021، عن مقتل ثمانية مدنيين منخرطين في الجمعية، المعنية بمؤازرة حملة مكافحة الجهاديين في بوركينا فاسو بكمين شمالي البلاد.
وعلى الرغم من الإنجازات التي قامت بها الحكومة البوركينابية خلال السنوات الأخيرة، من قبيل تأسيس “صندوق طوارئ” لمنطقة الساحل الإفريقي، بما في ذلك إقليم سوم، برأس مال 772 مليون دولار أمريكي؛ وذلك من أجل تطوير الحكم والإدارة المحلية في المنطقة، وهي مبادرات ساعدت في تقويض الدعم المحلي لـ”جماعة أنصار الإسلام”؛ وذلك من خلال محاربة سردية تهميش الدولة والاستغناء عن خدماتها، إلا أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب إنجازه، حيث شكت منظمات المجتمع المدني من عدم إلقاء القبض على أي فرد في أعقاب الصدامات الإثنية [العرقية] الدامية التي وقعت في مدينة ييرجو في بداية عام 2019. إضافة إلى ذلك، تواجه القوات المسلحة البوركينابية ادعاءات بممارسة بعض الانتهاكات والقتل خارج نطاق القانون في العديد من القرى، التي تعرض مواطنوها لأعمال عنف من قبل الجماعات الإسلامية المسلحة.
ــ هناك عامل مهمٌّ ساهم في تغذية الظاهرة الجهادية في بوركينا فاسو وفي دول الساحل عموما، معضلة المساحات الجغرافية الشاسعة وغير المحروسة [على غرار ما عاينا في مرحلة سابقة مع تجربة الجهاديين في جنوب الجزائر وليبيا]، حيث توفر هذه الظروف الجغرافية، حرية كبيرة للجماعات المسلحة للمرور عبر حدود البلاد التي يسهل اختراقها. كما تساعد الهجرات الموسمية لرعاة المواشي من الفولاني على نشر الرسالة الجهادية من خلال صغار الرعاة. وغالبا ما يستهدف الجهاديون ممثلي الدولة وقوات الأمن وقوات الجيش لتعزيز روايتها عن التخلي عن الدولة، ونبذها، إلا أنها تستهدف أيضا المدنيين، بما في ذلك الزعماء المحليين الذين يعارضونهم. كما أن المدرسين معرضون للخطر بسبب معارضة الجهاديين الشرسة للتعليم العلماني الفرنسي، ما أدى إلى إغلاق مئات المدارس في الشمال والشرق إثر تهديداتهم وهجماتهم. وخوفا على حياتهم، فر العديد من المدرسين، لكن الجهاديين استهدفوا المدنيين أيضا.