الخريطة الإسلاموية في الصومال
هناك اتجاهان اثنان في المشروع الإسلامي الحركي بالصومال: الأول سلفي جهادي، والثاني إخواني، ومقابل ذلك، هناك اتجاه سلفي، يتراجع شيئاً فشيئا، واتجاه صوفي [وخاصة مع الطريقة الصالحية والطريقة الأحمدية]، كان أصيلا وعريقا؛ لأن الممارسة الصوفية كانت هي الممارسة الدينية الوحيدة السائدة للتدين في المجتمع الصومالي منذ انتشار الإسلام فيه، ولكن هذا التدين تراجع بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، حتى إنه نادر في المتابعات البحثية والإعلامية، إضافة إلى أنه حتى لو كان حاضراً، كمّاً ونوعاً، فإنه لا يثير القلاقل السياسية والأمنية، كما يثيرها المشروع السلفي الجهادي والإخواني.
لذلك، سوف نتوقف في هذا التقرير عند أداء المشروع السلفي الجهادي؛ لأنه الأكثر حضورًا، على كافة الأصعدة، الأمنية والاستراتيجية، بينما المشروع الإخواني، وإن كان أقلية إسلاموية متواضعة تنظيمياً، فإنه حاضر بالدرجة الأولى في الارتباطات السياسية، وخاصة مع محور قطر ــ تركيا. وعلى غرار باقي التقارير في هذه السلسلة، التركيز هنا يهم بالدرجة الأولى أداء هذه المشاريع خلال السنوات الأخيرة.
المشروع الإخواني
لا يخرج الخطاب الإخواني في الصومال عن ثوابت الخطاب الإخواني بشكل عام، ويتجسّد المشروع الإخواني هنا في “حركة الإصلاح” ذات الأفق السياسي والدعوي والاجتماعي في آن، على غرار العديد من النماذج الإخوانية في دول الجوار وفي المنطقة، مع فارق أنها حركة إسلامية إخوانية متواضعة مقارنة مع الحضور السلفي الجهادي في الصومال من جهة، ومتواضعة أيضا مقارنة مع الحضور الإخواني في دول الجوار، رغم أن تأسيسها يعود لمرحلة الستينيات من القرن الماضي، ولكن التأثير بقي متواضعا؛ لأن تأثير الخطاب الصوفي في التدين الصومالي، ساهم في الحد من تغلغل الحركة، حتى مع تراجع ذلك التدين في العمل الميداني والاجتماعي والمؤسساتي، بسبب الأزمات الاجتماعية والقلاقل الأمنية، وعوامل أخرى، ولكن بقي المشروع الإخواني في الصومال محدود التأثير، وساهمت تطورات المنطقة، ذات الصلة بالمشروع، في تكريس تلك الانعزالية المجتمعية، وفي مقدمتها تبعات سقوط الإخوان في مصر بثورة 30 يونيو 2013.
ساهمت هذه التطورات الإقليمية، في تطورات محلية، تهم المشروع الإخواني المجسد في “حركة الإصلاح”، عندما أدى الخلاف الداخلي حول قضايا الشورى والشفافية في التعامل الإداري والتنظيمي، وتقليل الشأن التربوي والدعوي لدى الأطر الحركة، وسياسة “التعامل مع الواقع” التي انتهجتها الحركة، ثم موقف قيادة الحركة من المحاكم الإسلامية، إلى ظهور تيار يُسمى “الدم الجديد”، حيث رفعت مجموعة من المنتمين للحركة الإخوانية، شعارًا تجديدياً يطالب بإصلاح الحركة، معلناً رفضه التسلح ونيل الحكم عبر فوهة البنادق، وطالب التعامل مع العالم بمنطلق إنساني، لا بمنطلق ديني، وتغيير نظرته إلى المجتمع الصومالي، كوحدة اجتماعية تتساوى فيها الحقوق والواجبات دون تمييزهم على مستوى الالتزام الديني، وتغيير منظومته السياسية التي تنطلق من رؤية قبول الآخر بفكره مهما كانت مرجعيته كمواطن صومالي.
ومما ساهم في تكريس عزلة إخوان الصومال، والدعوة من داخل المشروع إلى إصلاح الذات، والابتعاد عن الخلافات في تنظيم متواضع أساسا، وأيضا، الدعوة إلى أخذ مسافة من الرعاية القطرية، خاصة بعد الكشف عن تسجيلات تدين الجماعة، وإثبات تورطها مع قطر في بعض أحداث الساحة الصومالية [كشفت صحيفة “سونا تايمز” الصومالية في يناير 2018، عن مضامين اجتماع عقد في تركيا شارك فيه مسؤولون قطريون وإيرانيون وممثلون لجماعة حزب الله اللبنانية، بحضور مسؤول رفيع في القصر الرئاسي الصومالي، هو فهد ياسين الذي شغل منصب المدير العام للقصر الرئاسي في الصومال، ومعروف أنه من المقربين من النظام القطري، ومقرب من يوسف القرضاوي].
ساهم هذا التراجع التنظيمي الإخواني في حدوث انشقاقات داخل الحركة نتيجة للامتعاض الذي ساد لدى الشباب التواق إلى الأجواء الروحانية والعلمية، بما يُفسر تغيير خطاب الحركة خلال السنوات الأخيرة، وخاصة الخطاب المتعلق بالتعامل مع التراث الصوفي والجماعات الصوفية والفكر الأشعري والفقه الشافعي، حيث حاولت التعاطي معه؛ بهدف إكسابها تقارباً مع مكونات كبيرة من الشعب الصومالي.
المشروع الجهادي
أصبحت الصومال منذ الحادي عشر من سبتمبر أرضاً خصبة للصراع الدولي ضد الإرهاب أو “التطرف العنيف” حسب الاصطلاح المعتمد من طرف هيئة الأمم المتحدة، خاصة بعد أن تسلم اتحاد المحاكم الإسلامية زمام الأمور في البلاد، حيث سيجد التيار الجهادي المتمثل في “حركة الشباب” فرصة للتجنيد والعسكرة، وسعت بعد انهيار حكم المحاكم الإسلامية إلى الاعتماد على قوتها، وتنظيم نفسها بوصفها حركة جهادية عالمية تتبوأ منطقة القرن الإفريقي، ووكيلة للجهاد فيها نيابة عن المنظمات الجهادية الدولية، وتحظى بالاهتمام الإقليمي والدولي.
يمكن قراءة تطوّر الحركة من خلال تطوّر دورها وهيكليتها من “الاتحاد الإسلامي” إلى “اتحاد المحاكم الإسلامية”، وصولًا إلى تركيبتها الحالية، التي ظهرت بالتزامن مع التغييرات المماثلة للتنظيمات التابعة بداية لتنظيم “القاعدة” في العراق، وشبه الجزيرة العربية، وشمال إفريقيا، ثم التغيرات المعاصرة المرتبطة بتنظيم “داعش”، حيث نجد عدة نقاط التقاء بين هذه المشاريع، وفي مقدمتها، اشتراك “حركة الشباب” مع تنظيم “داعش” في أدبياتها وأفكارها المنهجية والفكرية، إضافة إلى أساليب القتال، حيث لا تراعي الحركة “الضوابط الشرعية” أثناء تنفيذها للهجمات، بل هدفها هو الوصول إلى عدوها، ولو كان في أماكن مزدحمة أو في الطرقات، كما تكفِّر الحركة كل من يخالفها وتهدر دمه، وتقتل العلماء والمثقفين والأعيان.
أفضت مستجدات السنوات الأخيرة إلى نشوب خلاف داخلي في الحركة، بين موالين لتنظيم “داعش” وموالين لتنظيم “القاعدة”، خاصة بعد أن ظهر الشيخ عبد القادر مؤمن [يُعتبر من أهم منظري الفكر الجهادي في الصومال وعضو حركة الشباب] بسبب تسجيل صوتي تداوله أنصار تنظيم الدولة يقول فيه: إنه “طاعة لله ولرسوله، وللزوم توحيد صف الجماعة، نعلن نحن مجموعة من مجاهدي الصومال بيعتنا لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، على السمع والطاعة”. وبعد ذلك نشب صراع مسلح خاطف بين الداعشيين المرابطين في جنوب الصومال، وبين “حركة الشباب”، من الموالين لتنظيم “القاعدة”، في قرى بمحافظة جوبا الوسطى بجنوب الصومال، ولقلة عدد الداعشيين كانت الغلبة للقاعديّين، فهرب الداعشيون إلى الأدغال في المحافظة.
أخذاً بعين الاعتبار أن تحالف “حركة الشباب” مع تنظيم “داعش” في مرحلة سابقة، كان مرتبطاً بمجموعة من الأسباب، من قبيل جاذبية اسم الخلاقة، كونها حلم كل من يشترك مع هذا التيار الجهادي؛ الانتصارات التي حققها تنظيم داعش في المنطقة، شح الإمكانيات المادية لدى الحركة، بسبب استيلاء الجيش الصومالي بدعم من القوات الإفريقية على المدن الساحلية والموانئ، فإن مصير الجهاديين في الصومال، مرتبط بعوامل لا تخرج عن الأسباب سالفة الذكر، منها على الخصوص: توفير الدعم المالي، تغذية التنظيم بعناصر جهادية، وأداء باقي الجهاديين في الدول المجاورة للصومال. [تمثل انتصارات الحركات الجهادية في إفريقيا، مثل داعش في ليبيا، وبوكو حرام في نيجيريا، وتنظيم القاعدة في مالي حافزا في استمرار “حركة الشباب”، وفي حصولها على عناصر لديها قابلية لتبنّي أفكارها المتطرفة
هذا عن الأسباب الذاتية الخاصة بالتنظيم، أما الأسباب الخارجية، الخاصة بالوضع في الصومال، فإنها تساهم في تغذية المشروع، وفي مقدمتها معضلة الحروب الأهلية، وتواضع أداء الدولة المركزية، وموجات الجفاف، والمجاعات، والحرمان من التعليم والرعاية الصحية اللازمة.
إن مُجمل هذه العوامل، يُفسر قيام “حركة الشباب” بمجموعة من الاعتداءات داخل وخارج الصومال حتى الفترة الممتدة ما بين 2019 و2021، ومن ذلك:
ــ شنت الحركة هجوماً على مجمع دوسيت الفندقي في نيروبي في يناير 2019، أسفر عن سقوط 21 قتيلا. وشنّ مقاتلو الشباب هجمات واسعة عديدة داخل كينيا، مؤكدين أنهم يردون بذلك على إرسال الولايات المتحدة قوات إلى الصومال لمحاربة هذه الجماعة.
ــ في 4 فبراير 2019، تنظيم الشباب يغتال المدير المالطي لميناء بوصاصو بأرض البنط، التابع لشركة دبي العالمية للموانئ، وعشرة أفراد من المارة بتفجير أثناء تواجده في حي حمروين، بالعاصمة مقديشو.
ــ في 10 مارس 2019، وردًّا على عمليات “حركة الشباب”، زاد الجيش الأمريكي بشكل كبير من الغارات الجوية ضد الحركة، مقابل تقليص عمليات مكافحة الإرهاب في أجزاء أخرى من العالم. في السنوات الأخيرة.
ــ في سبتمبر 2019، تورطت الحركة في اعتداءات طالت إثيوبيا في عدة محطات، وبإقرار السلطات الإثيوبية، كما جرت اعتقالات طالت عشرات أعضاء الجمعية في هذا الشهر بالعاصمة أديس أبابا، والمنطقة الصومالية التابعة لإثيوبيا.
ــ في الساعات الأولى من يوم 5 يناير 2020، تسلّل ما يقرب من عشرة مسلحين من الحركة، وشنّوا هجوماً على قاعدة عسكرية لقوات أمريكية وكينية في لامو، والمتواجدة في غابات المانجروف شرق كينيا.
مما يميز الحالة الجهادية في الصومال، وفي العديد من دول غرب إفريقيا ودول الساحل أيضا، حضور العامل أو المحدد القبلي [أو الإثني]، الذي يغذي الصراعات باسم الدين، وهذا مقام في التوظيف والصراع، وظفته “حركة الشباب” في الساحة الصومالية، عندما نشرت في عام 2019 أول مقطع فيديو دعائي لها بلغة الأورومو، وفي يوليو 2019، أعلنت قناة “تليجرام” مرتبطة بتنظيم “داعش” أنها ستبدأ بث مواد باللغة الأمهرية [اللغة الرسمية في إثيوبيا]. وفي فبراير 2020، نشر حساب في الموقع نفسه، تابع لـ”تنظيم الدولة الإسلامية في الصومال”، مقطع فيديو باللغتين الأمهرية والسواحيلية.
عمليا، وحتى نهاية 2020، لا زالت “حركة الشباب” تسيطر على جزء كبير من جنوب ووسط الصومال، كما تمكنت من بسط نفوذها إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة المتمركزة في مقديشو، ومن نتائج هذه السيطرة، أنها تفرض ضرائب على الساكنة، والأمر نفسه مع الشركات التي توجد مقراتها في هذا المجال التي تسيطر عليه الحركة، حيث تقدم هذه الشركات، ورجال أعمال أيضا، أموالاً للحركة، سواء على شكل مدفوعات شهرية أو “زكاة” سنوية بنسبة 2,5٪ من الأرباح السنوية.
هناك ظاهرة فريدة تميز الحالة الجهادية في الصومال، مقارنة مع باقي جهاديي المنطقة، عنوانها استقطاب المقاتلين الأجانب، حيث لا تعتمد على خطاب محلّي فقط تسعى فيه إلى استقطاب وتجنيد الشباب من أماكن انتشارها، بل إن خطابها قدم بشكل معولم أسفر عن هذه الظاهرة. صحيح أن الأمر يتعلق ببضع حالات، إلا أنها تشير إلى خطورة أكبر تتمثل في عودة هؤلاء إلى بلدانهم وفي الوقت ذاته تمثل نقطة جوهرية في كيفية تطبيق الحركة لوسائل التواصل الاجتماعي في عمليات التجنيد. [وصل الأمر مع “حركة الشباب” إلى حد قيام الحركة بنشر فيديوهات وإصدارات لها تحث فيها الشباب الغربي على الانضمام للحركة للاستمتاع برحلات سفاري في الصومال].
كما نجحت الحركة في خلق روابط مع بعض حاملي أفكارها من الجالية الصومالية الموجودة بالولايات المتحدة من أجل جمع التبرعات للحركة، حيث استغلت بعض أبناء الجالية الصومالية بالولايات المتحدة الذين يعانون من مشاكل متعلقة بالاندماج مع ثقافة المجتمع الأمريكي، وهذا مدخل يصب في خيار الاستقطاب والتجنيد.
وإجمالا، هناك ثلاثة أبواب، لصيقة بمستقبل المقاتلين الأجانب في الحركة:
ــ الانخراط في تنظيمات أخرى، من قبيل ما قام به تنظيم “داعش” الذي عمل على استغلال النزاع بين عناصر الحركة الأجانب وقادتها من أجل تجنيد مقاتلي الحركة للانضمام إلى صفوفه.
ــ مواصلة القتال مع الحركة؛ لأن عودتهم إلى بلدانهم الأصلية تعني تعرضهم للاعتقال نتيجة لبعض القوانين والعقوبات التي سيخضعون لها.
ــ وأخيرًا، استقطاب مقاتلين جدد، على اعتبار أن القارة الإفريقية أصبحت من النقاط الساخنة التي قد تشهد انتشار للتنظيمات الإرهابية.