تقارير ودراسات

أصول حماس: منافسة السلطة الوطنية الفلسطينية (ج 6)

اعتبرت حماس اتفاقات أوسلو عام 1993 وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية مؤامرة إسرائيلية أمريكية ضد الحركة الإسلامية.

أول محاولة انتحارية قامت بها حماس، في أبريل/ نيسان 1993، لم توقع أي ضحية. انفجرت سيارة مفخخة يقودها أحد نشطاء حماس بين حافلتين إسرائيليتين كان الركاب قد نزلوا منهما.

في 13 أيلول / سبتمبر 1993، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل أول اتفاقيتين من اتفاقيات أوسلو، التي مهدت الطريق للحكم الذاتي للسلطة الوطنية الفلسطينية. لقد قادت حماس “جبهة الرفض” لاتفاقيات السلام، ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار حقيقة، أن قسماً كبيراً من الفلسطينيين أظهروا ضجراً من الحرب وأيدوا الاتفاقيات. وكان زعيم حماس ياسين لا يزال في السجن، ومن هناك أصدر نداء يحث فيه على تجنب حرب أهلية مع منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت القضية خطيرة وتتعلق ببقاء حماس في حد ذاتها، في مواجهة نهاية الانتفاضة، واتفاقية السلام التي دعمتها أغلبية الرأي العام الفلسطيني، والتزام عرفات بتقييد حرية حركة الإرهابيين في الأراضي الفلسطينية. لقد أدانت قيادة حماس علناً اتفاقيات أوسلو، لكن كان عليها أن تأخذ في الاعتبار الواقع الجديد وتتحرك بحذر متجدد.

إلا أن حادثة مأساوية وغير متوقعة سمحت لحماس بالقول إن الإرهاب يظل ضرورة في مواجهة استفزازات إسرائيلية محددة. في 25 فبراير/ شباط 1994، أطلق المستوطن الإسرائيلي باروخ غولدشتاين (1955-1994) النار على مسلمين يصلون في الخليل، مما أسفر عن مقتل تسعة وعشرين شخصاً. وردت حماس، بدءاً من شهر إبريل / نيسان، بسلسلة من التفجيرات الانتحارية ضد الحافلات الإسرائيلية العادية.

في 4 مايو 1994، وبموجب اتفاقيات القاهرة، تعهد عرفات بمنع الهجمات المنظمة ضد إسرائيل من الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الوطنية الفلسطينية المشكلة حديثاً، والتي تولت السلطة في يونيو. وبعد أيام قليلة من اتفاق القاهرة، وقعت كتائب القسام التابعة لحماس والجناح العسكري لفتح اتفاقاً يقضي بعدم القتال. ومع ذلك، فإن الاتفاق، وكذلك اتفاق القاهرة، غطى فقط الهجمات المنظمة من الأراضي الفلسطينية. فإذا كانت هناك هجمات في إسرائيل نظمها إرهابيون يعملون داخل الأراضي الإسرائيلية، فإن مسؤولية منعها تقع على عاتق الشرطة والأجهزة الإسرائيلية، وليس على عاتق عرفات.

وهكذا، عندما نفذت حماس في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1994 تفجيرها الانتحاري الأكثر إثارة في تل أبيب، مما أسفر عن مقتل 21 مدنياً إسرائيلياً ومواطناً هولندياً في تفجير حافلة تجارية، سارع الجميع إلى إعلان أنها كانت مبادرة من داخل إسرائيل: خلية “مستقلة” تعمل حصراً في الأراضي الإسرائيلية. ولم يكن الأمر كذلك؛ إذ تبادلت حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية الاتهامات بانتهاك الاتفاقيات، كما اتهمت حماس عرفات بنقل معلومات عن زعماء أصوليين إلى الإسرائيليين. واندلعت اشتباكات عنيفة بعد شهر، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994، في نهاية صلاة الجمعة في أحد مساجد غزة. وأدت المواجهة بين المسلحين الإسلاميين، والعديد منهم مرتبطون بحماس، وشرطة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى مقتل خمسة عشر شخصاً وإصابة حوالي مائتي جريح.

إن الدراسة التفصيلية لعمليات حماس الإرهابية قبل 11 سبتمبر، والتي أسفرت عن عدة مئات من القتلى، هي خارج حدود هذه السلسلة. لقد استمرت اللعبة الثلاثية بين حماس، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وإسرائيل وفقاً لنمط يمكن التنبؤ به بشكل مأساوي. ردت حماس على كل تقدم في محادثات السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بهجمات تعقبها حملة قمع إسرائيلية، ووقف هش لأعمال العنف بين منظمة التحرير الفلسطينية وحماس في محاولة لتخفيف قبضة القمع، واستئناف السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.

في عام 1995، ألقي القبض في نيويورك على الزعيم السياسي لحماس أبو مرزوق الذي حاولت الولايات المتحدة التفاوض معه في السنوات الماضية. في مايو 1997، وعلى الرغم من قرار قاض أمريكي عام 1996 بتسليمه إلى إسرائيل، تم إطلاق سراحه وترحيله إلى الأردن بموافقة الحكومة الإسرائيلية. جاء اعتقال أبو مرزوق في وقت حرج بالنسبة إلى حماس، التي كان عليها أن تقرر ما إذا كانت ستشارك في الانتخابات الفلسطينية المقرر إجراؤها في 20 يناير/ كانون الثاني 1996 أم لا. في خريف عام 1995، كانت حماس تمتلك استطلاعات للرأي حددت نسبة نجاحها في 15%. وكان هذا الانحدار الواضح، مقارنة بالانتخابات المهنية والطلابية التي جرت عام 1992، يُعزى إلى شعبية عرفات، الذي أقام على الأقل ما يشبه الكيان الفلسطيني المستقل، ولكن أيضاً إلى السيطرة الصارمة التي تفرضها السلطة الوطنية الفلسطينية على كافة وسائل الإعلام. ومن خلال نقاش داخلي حيوي حول ما إذا كان من المناسب المشاركة في الانتخابات أم لا، برزت إمكانية المشاركة “بالوكالة” من خلال حزب سياسي: “الجبهة الوطنية للإنقاذ الإسلامية” التي ينتمي إليها عرفات نفسه. لم تكن الجبهة خاضعة لسيطرة حماس، بل لجماعة الإخوان المسلمين، وكان جميع أعضاء مكتبها السياسي ينتمون إلى حماس، لكن بعض الأعضاء المؤسسين للجبهة لم يكونوا كذلك.

لكن مشاركة الجبهة في الانتخابات كانت مشروطة من قبل قيادة حماس بنتيجة المفاوضات التي جرت في القاهرة في كانون الأول/ ديسمبر 1995 مع السلطة الوطنية الفلسطينية. لقد فشلت، ويرجع ذلك في الأساس إلى الخلافات حول آلية التصويت والدوائر الانتخابية، والتي بدت في نظر حماس وكأنها مصممة خصيصاً لضمان نجاح فتح على أي حال. في الواقع، كانت هناك لعبة معقدة للهيمنة داخل حماس تدور حول الانتخابات بين القيادة “الخارجية” (في المنفى في الأردن وسوريا)، والتي كانت أقل ميلاً إلى أي شكل من أشكال التسوية مع عرفات، والقيادة “الداخلية” التي تتصارع مع الحياة اليومية في الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الوطنية الفلسطينية، وتميل إلى أن تكون أكثر استيعاباً.

وانتصرت القيادة “الخارجية”، وأعلنت حماس أن أسباباً عقائدية تمنعها من المشاركة في الانتخابات، وأوضحت أن الانتخابات تنحدر من اتفاقيات أوسلو والمشاركة فيها تعني الاعتراف الضمني بتلك الاتفاقيات، بما في ذلك المبدأ غير المشروع مذهبياً المتمثل في التعايش بين دولتين: إسرائيل ودولة فلسطينية، في فلسطين. وتمسكت حماس بشدة باحتمال قيام دولة إسلامية واحدة من البحر الأبيض المتوسط إلى الأردن، واستمرت في إعلان أن ذلك يرجع إلى أسباب عقائدية أكثر من كونه لأسباب سياسية. وعلى هذا، فقد شاركت فتح في الانتخابات مع وجود حزبين علمانيين صغيرين فقط متنافسين، أحدهما شيوعي والآخر ديمقراطي اشتراكي، وفازت بها بأغلبية ساحقة بطبيعة الحال. وبعد شهرين من الانتخابات، في مارس / آذار 1996، قامت السلطة الوطنية الفلسطينية بتسجيل الجبهة الوطنية الإسلامية للإنقاذ رسمياً ضمن الأحزاب المعترف بها. ولم يكتسب هذا التشكيل أي رؤية سياسية خاصة مستقلة عن حماس، لكنه ظل وعاءً يمكن استخدامه في الانتخابات المقبلة.

أسفرت المناقشات الانتخابية والمفاوضات مع عرفات عن وقف التفجيرات الانتحارية التي شنتها حماس، والتي توقفت فعلياً اعتباراً من يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 1995 – والتي تميزت بهجومين إضافيين على الحافلات في رمات غان والقدس – حتى الانتخابات. لكن في 5 كانون الثاني (يناير) 1996، قامت المخابرات الإسرائيلية، التي نجحت بالفعل في اغتيال زعيم حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية فتحي الشقاقي في مالطا في 26 تشرين الأول / أكتوبر 1995، بقتل يحيى عياش (1966-1996) في غزة. كان هذا القائد، وهو العقل المدبر للاستراتيجية الانتحارية داخل كتائب القسام، قد أطلق عليه على نحو مثير للسخرية لقب “المهندس” في إحدى الخطابات التي ألقاها رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين (1922-1995)، وهو لقب تم تبنيه فيما بعد بحماس داخل الحركة الأصولية.

وكان المناخ ملتهباً بالفعل في أعقاب اغتيال رابين نفسه، الذي قتل على يد متطرف إسرائيلي في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، وأعلنت حماس الانتقام. وفي 25 شباط / فبراير و3 آذار/ مارس 1996، أدى تفجيران انتحاريان ضد حافلات على نفس الطريق رقم 18 في القدس إلى مقتل خمسة وأربعين راكباً. وكان هذا العمل الإرهابي الأكثر دراماتيكية ضد إسرائيل حتى ذلك الوقت. وتلا ذلك، وفقاً للنمط المعتاد، حملة قمع بقيادة كل من الإسرائيليين والسلطة الوطنية الفلسطينية، أعقبتها مفاوضات بين حماس وعرفات من أجل وقف جديد للهجمات الإرهابية.

الرابط:

https://bitterwinter.org/the-origins-of-hamas-6-contesting-the-palestinian-national-authority/

زر الذهاب إلى الأعلى